وليد سيف: عملت وأعمل على تحويل نصوصي الدرامية إلى روايات مقروءة

2021-06-14 14:00:00

وليد سيف: عملت وأعمل على تحويل نصوصي الدرامية إلى روايات مقروءة

وعلى سبيل المثال مكث نص مسلسل «التغريبة الفلسطينية» في الأدراج أعواماً قبل إنتاجه. وكان إنتاجه وعرضه فلتة ليس من السهل أن تتكرر. ولا أحسب أنّ مشروعاً على منواله يمكن أن يجد الآن من يتولى إنتاجه أو عرضه، أو حتى التعاقد على كتابته ابتداء! ولكن، مهما يكن النظام الرقابي محكماً وضيقاً فثمة دائماً صدوع يمكن النفاد منها، دون أن يضحي الكاتب الملتزم بمبادئه.

يُعدُّ الدكتور وليد سيف (1948) "رائد الأدب الدرامي المصور" أحد أبرز عوامل قوة المشهد الثقافي الفلسطيني الراهن، كما أنه في طليعة كتّاب الأعمال الدرامية التي أعطت للفن الدرامي العربي قيمة فكرية وإنسانية نبيلة حفرت عميقاً في الوجدان الثقافي والوطني الفلسطيني والعربي.

"رمان" استضافت صاحب «الشاهد المشهود»، و«صلاح الدين الأيوبي»، و«التغريبة الفلسطينية»، وغيرها من روائع الدراما التاريخية العربية، فكان هذا الحوار الشيق.

بداية ماذا يُنبئنا الدكتور وليد سيف عن سيرته ومسيرته؟ 

دونت سيرتي الذاتية والفكرية في كتابي «الشاهد المشهود» الصادر عن "دار الأهلية للنشر والتوزيع" عام 2016، فيما يزيد على خمسمئة صفحة. حسبي هنا أن أقول إنني ولدت ونشأت في مدينة طولكرم في الضفة الغربية، وهي بلدة حدودية تبعد عن الساحل الفلسطيني ما يقرب من خمسة عشر كيلو متراً فقط. وحين أنهيت دراستي الثانوية انتقلت للدراسة الجامعية في الجامعة الأردنية في عمان. وفي نهاية السنة الجامعية الأولى وقعت حرب حزيران (يونيو) 1967، فحيل بيني وبين وطني. وفي الجامعة الأردنية انخرطت في النشاط الطالبي الوطني والسياسي والثقافي المنظم. ثم امتد نشاطي إلى خارج الوسط الطالبي. ومنذ صفوف الثانوية كنت أنشر إسهاماتي الأدبية والثقافية (من شعر وقصص قصيرة ومقالات) في الصحافة المرموقة. وفي أثناء دراستي الجامعية الأولى صدر ديواني الشعري الأول «قصائد في زمن الفتح» عن "دار الطليعة" في بيروت، وصرت عضواً في اللجنة الإدارية الأولى لاتحاد الكتّاب الفلسطينيين. وبعد تخرجي بدرجة البكالوريوس عينت معيداً في قسم اللغة العربية بالجامعة. ثم أوفدت إلى "جامعة لندن" للحصول على درجة الدكتوراه في تخصص "الصوتيات واللسانيات". وبعد حصولي عليها مطلع عام 1976 عدت للعمل في هيئة التدريس في الجامعة الأردنية حتى انقطع عملي فيها في صيف عام 1979، لأسباب سياسية قسرية. وعملت بعد سنين في تأسيس جامعة القدس المفتوحة والإشراف على إعداد موادها وتطويرها بأسلوب التعلم الذاتي والتعليم المفتوح عن بعد. وفي عام 1990 أعيد تعييني في الجامعة الأردنية بعيد عودة الحياة النيابية في الأردن. ومكثت على ذلك حتى تقدمت باستقالتي عام 2007 لأتفرغ للكتابة. وكنت منذ عام 1977 قد انخرطت في التأليف الدرامي إلى جانب عملي الوظيفي ومكثت على ذلك بعد استقالتي أخيراً من الجامعة الأردنية.

وفي أثناء هذه المسيرة أتيح لي السفر والإقامة في كثير من البلدان في أمريكا وأوروبا بصفة خاصة، وقضيت عاماً جامعياً بصفة أستاذ زائر في "جامعة جورج تاون" في واشنطن. وإضافة إلى العمل الأكاديمي والتأليف الدرامي في هذه المسيرة صدرت لي مجموعتان شعريتان بعد ديواني الأول هما: «وشم على ذراع خضرة»، (1971) و«تغريبة بني فلسطين» (1979)، وكلتاهما صادر عن "دار العودة" في بيروت.

ما الذي خسرته عبر مراحل حياتك وعوضتك الكتابة عنه؟

أصل الكتابة الإبداعية موهبة طبيعية تولد مع الإنسان، ويستشعرها في نفسه منذ وقت مبكر من عمره في العادة، أو هو بمثابة نداء غامض ملح لا يملك له صاحبه دفعاً حتى يصبح جزءاً مركزياً من هويته التي يتعرف بها. وتصقلها الثقافة والتجارب. أما ما تفيض به تلك الموهبة من المضامين والرسائل والمواقف فترجع إلى هموم الكاتب وانتماءاته الوطنية والاجتماعية والفكرية والإنسانية ومحتوى وعيه، وما يراه جزءاً من الشرط الإنساني، إضافة إلى أحلامه وآلامه وأوجاعه العامة والذاتية، وهزائمه وخيبات أمله التي يحولها إلى أسئلة إنسانية وجودية تخاطب الإنسان بمطلقه. ولا أحسب أنّ الكاتب يعمد على نحو واع مباشر إلى التعويض بالكتابة عما فاته وخسره في حياته. ولكننا بالضرورة نخسر الكثير من الأحلام الجميلة. ولا شك أنّ هذه التجارب تصبح جزءاً من محتوى الوعي والذاكرة والمخيلة، فتنعكس على نحو عفوي فيما نكتب، حيث يندمج الخاص في العام، وبذلك نشيد عالمنا الأدبي الذي يعوضنا عن نقائص الحياة ومراراتها وانتكاساتها، ولو على الأقل من خلال مواجهتها في الكتابة وتحويلها إلى قيمة فكرية وإنسانية وجمالية. وهذا في ذاته نوع من الانتصار عليها. 

أنت القادم من خلفيتين أكاديمية بصفتك أستاذاً جامعياً، وأدبية وفنية بصفتك شاعراً وكاتباً وسيناريست. تقوم أعمالك على دقة بحثية في المراجع والوثائق، كيف تنظر إلى الروائي بوصفه باحثاً ومنقباً في التاريخ؟ ومن بعد هل يمكننا القول إنّ الرواية هي التاريخ أو التأريخ بحد ذاته؟

إذا كان المقصود هنا هو الروائي الذي يستلهم التاريخ الماضي في أعماله فمن المؤكد أنّ عليه أن يستقصي المادة التاريخية في مصادرها ويتعمق في فهمها من النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة قبل أن يشرع في المعالجة السردية والفنية ليتحول بالمادة التاريخية إلى عمل أدبي يتجاوز به خصوصية الزمان والمكان إلى خطاب إنساني وفني عام يلامس الشرط الإنساني وينفتح على مستويات متجددة من القراءة والتأويل والتذوق عبر الأزمنة والأمكنة وأجيال القراء في بيئات وظروف مختلفة. وهذا هو الاختبار الأكبر للآداب العظيمة. وذلك كله على وفق مقتضيات الشكل الأدبي السردي. ولكن، ينبغي هنا التنبيه إلى أنّ المدونة التاريخية القديمة لا تقدم لنا صورة متكاملة وموضوعية للفترة التاريخية، فهي تركز في العادة على الأخبار والوقائع والأحداث والشخصيات الكبرى، وتهمل الكثير من الجوانب الاجتماعية العامة التي تمثل البنية التحتية العميقة للكثير من الوقائع. كما أنّ المؤرخ الأول نفسه لا يدون الوقائع بحيدة تامة، فلا يستطيع التحرر تماماً من تحيزاته الفكرية والعقدية، ولا من اجتهاداته وتأويلاته، ولا من الظروف العامة المحيطة به. فيكون على الباحث التاريخي المعاصر ألا يكتفي بالنقل عن تلك المصادر دون أن يسلط على المادة التاريخية منهجه في النقد والتحليل والتأويل والفهم، وفي استنباط المسكوت عنه. ولذلك يختلف الباحثون في قراءة المادة التاريخية، باختلاف مناهجهم ومدارسهم الفكرية. وهذا لا يصح فقط في دراسة التاريخ القديم، ولكننا نجده في سرد التاريخ المعاصر ووصفه وتحليله، بل في التاريخ الذي نعيشه ونشهده بأنفسنا. وكما ينطبق هذا على الباحث التاريخي والأكاديمي، فإنه ينطبق على الروائي الذي يبني عمله على المادة التاريخية. بعبارة أخرى ليس هناك قراءة متجردة للمادة التاريخية، والتاريخ ليس رواية ثابتة، وإنما هي رواية متجددة ومتنوعة نسهم في تشييدها من خلال القراءة التحليلية والتأويلية التي تنطلق من محتوى وعينا ومواقفنا الفكرية وأدواتنا المعرفية وهمومنا وأسئلتنا المعاصرة. ولكن هذا الحال لا ينبغي أن يكون رخصة مفتوحة لتحريف التاريخ وتزييفه قسراً وعلى نحو فج ليوافق آراءنا وإيديولوجيتنا المسبقة. وهذا يقع كثيراً مع الأسف حتى في تناولنا للواقع الراهن. ويبقى التدافع في الأفكار والاجتهادات والتأويلات جزءاً من الشرط الإنساني، ومن شأنه أن يعين على مقاربة الحقائق، وعلى الحد من طغيان الغلو والتعصب الإيديولوجي.

هل الرواية هي التاريخ نفسه؟ لا أذهب إلى هذا الحد في وصفها. ولكنها بالتأكيد تنطوي على أبعاد تاريخية. وهذا يشمل الرواية التي تستمد مادتها من التاريخ القديم، والرواية التي تدور أحداثها في زمن الكتابة. فالسياق الاجتماعي لأحداث السرد ولفعل الكتابة نفسه ورؤية الكاتب، هو سياق تاريخي. والسرد هو شكل من أشكال الثقافة. والثقافة ذات محمول تاريخي وسياسي واجتماعي. ولذلك يمكن للأشكال السردية الأدبية أن تكون موضوعاً للدراسة الثقافية التاريخية، وأن تكشف لنا عن خطابات سياسية اجتماعية لا تصرح بها المدونة التاريخية الخالصة. وهذا ما تصدى له إدوارد سعيد في دراسته للأدب الغربي وخطاباته الإمبريالية. 

هناك رأي يقول: إنّ "توظيف التاريخ في الأعمال الدرامية ليس إلا هروباً من الواقع السياسي الراهن". ما تعليقك، خاصة أنّ نقاد يرون بأنّ "أعمالك الدرامية مفخخة دائماً بالاسقاطات التي تمس الواقع العربي، ومحرضة إلى ما يجب أن يكون"؟

يتكرر هذا السؤال كثيراً. وجوابي المختصر أنّ راهنية العمل الدرامي لا تتقرر بالفترة التي تدور فيها الأحداث، سواء أكانت من الماضي أم الحاضر المعاصر. فكم من الأعمال الدرامية الاجتماعية التي تدور وقائعها في الوقت الراهن تبدو بعيدة عن فهم الواقع أو منفصلة عنه، وتتسم بالسذاجة والتسطيح! الواقع الراهن تاريخ كما التاريخ الماضي، ويحتاج إلى تعمق في فهمه وتحليل علاقاته وبنيته. والذي يقرر مدى حضور الراهن في العمل السردي هو رؤية المؤلف ومعالجته السردية والفكرية وأسئلته ورسالته وقدرته على سبر أغوار النفس الإنسانية وشرطها الوجودي. فالعمل السردي الأدبي التاريخي ليس مدونة تسجيلية، وإنما هو عمل أدبي فني يصدر عن كاتبه في سياق زمن الكاتب الذي يتوجه به إلى قارئه في زمنه وفي الأزمان التالية. فهو كما أشرت سابقاً، يتوسل المادة التاريخية ليبني بها عملاً أدبياً يتجاوز خصوصية المكان والزمان ليخاطب أسئلة الواقع، ثم أسئلة الوجود الإنساني فضلاً عن الذائقة الجمالية. وهو ما يجعل العمل الإبداعي قادراً على الصمود أمام اختبارات الزمن، ومنفتحاً لقراءات متجددة تقطع حدود الثقافات والمجتمعات واللغات. وعلى ذلك ما زلنا نقرأ الأعمال السردية العظيمة الكلاسيكية العالمية التي بنيت على مادة تاريخية.

أما أعمالي الدرامية التاريخية في سياق هذا السؤال، فيكفي القول إنّ المشاهد العربي ما يزال يعيد مشاهدتها ويستدعي مقاطع منها على وسائل التواصل الحديثة ويسقطها بنفسه على واقعه، بل يعمد الكثيرون إلى تفريغها كتابة، محتفين بمعانيها ولغتها في السياقات الراهنة، إلى جانب قيمتها المعرفية في استدعاء التاريخ الماضي في إطار فني بصري جذاب. وعلى كل حال فإنّ الوعي بالتاريخ الماضي هو مطلب رئيسي للوعي بالذات في واقعها الحاضر، إذ يكشف من أين جئنا ولماذا نحن هنا وعلى هذه الحال. وهو بذلك جزء أساس من هويتنا الموصولة الممتدة.

إلى أي مدى ترى أنه من حق الكتّاب وصناع الأعمال الدرامية التصرف بالمادة التاريخية؟ وكيف يجب التعامل مع المصادر التاريخية القديمة ونحن نكتب عن فترة تاريخية معينة بأمانة علمية وموضوعية؟ ومن ثم هل يحق للكاتب أن يغير من مصير شخصية حقيقية عند معالجتها روائياً/ درامياً؟ 

كما ذكرت سابقاً، فإنّ المادة التاريخية المدونة ليست رواية واحدة ثابتة، ولا هي بريئة من تدخل التحيزات المسبقة والأهواء والأغراض وتأثير الظروف العامة التي تحيط بالمؤرخ. وعلى ذلك فإنّ على الباحث المعاصر أن يسلط عليها نظره النقدي والتحليلي والتأويلي، وأن ينظر في المسكوت عنه، وينطق من لا صوت له، ويرمم الثغرات والحلقات المفقودة ويملأ المساحات الفارغة. ولكنه يجب أن يفعل ذلك بأكبر قدر من النزاهة والتجرد، وألا يعمد إلى قولبة المادة التاريخية قصراً وفق قالب فكري أو أيديولوجي مسبق على نحو قسري فج. وإنما ينبغي أن يبني تحليله وفهمه على الأدلة والمعطيات المتاحة في النصوص الأصلية بما يسوغ الصورة العامة التي يشيدها. فلا يصح أن يخل بالسياق التاريخي والمفاصل الثابتة.

أما التحدي الأكبر عند الكاتب الدرامي والروائي فهو التحلي بتلك الأمانة العلمية والنزاهة في إطار المحددات التي ذكرتها، مع القدرة على تحويل المادة التاريخية إلى عمل سردي ينسجم مع شروط العمل الفني وطبيعته. وثمة مساحات واسعة أمامه للتصرف والإنشاء والإبداع دون إخلال بالسياق التاريخي ومفاصله، ومن ذلك بناء الشخصيات وعوالمها الداخلية ودوافعها ومسوغات سلوكها ومواقفها، فضلاً عن الفضاء الاجتماعي الذي لا ترصده المدونات التاريخية. فالكاتب الموهوب يلتقط المفاتيح والإشارات ويبني عليها معالجته الفكرية والفنية والجمالية ويمتد بها إلى الأفق الإنساني. أما الإسقاطات المباشرة الفجة فتفسد العمل وتذهب بقدرته على الإقناع والتأثير. والعمل الناجح هو الذي يترك للمتلقي أن يستنبط تلك المعاني (أو الإسقاطات) من خلال نشاطه التأويلي، ولا يغلق العمل على فهم واحد محدود. ولذلك فإنّ العمل الإبداعي الحقيقي يختلف المتلقون في ردود فعلهم تجاه شخصياته المركبة وصراعاتها ومواقفها وأبعادها المتنازعة. وأزعم أنّ هذا ما تحقق بأعمالي الدرامية. 

إلى أي مدى كنت تتوجس من سلطة الرقيب العربي وأنت تكتب أعمالك الدرامية؟ هل لك حكايات مؤسفة مع الرقيب؟ وهل كان هناك سقفاً للحريات؟ ومن بعد ما هو دور الرقيب الذاتي في تحجيم حرية الإبداع؟ وكيف تتعامل مع رقيبك الداخلي أثناء كتابة أعمالك؟

من المعلوم أنّ مستويات الرقابة على المواد المصورة التي تعرض على الشاشات وتدخل البيوت وتحظى بمشاهدات واسعة، أكثر وأعلى بالضرورة من الرقابة على المواد المطبوعة. ففي حالة الأعمال المصورة لا تنحصر المشكلة في الرقابة الرسمية الحكومية، فحتى لو كانت الجهة المنتجة مؤسسة خاصة ومستقلة فهي لن تغامر بالإنفاق على إنتاج عمل تعلم مسبقاً أنّ القنوات التلفازية لن تشتريه ولن تعرضه بسبب المحددات والمواقف الرسمية. وعلى سبيل المثال مكث نص مسلسل «التغريبة الفلسطينية» في الأدراج أعواماً قبل إنتاجه. وكان إنتاجه وعرضه فلتة ليس من السهل أن تتكرر. ولا أحسب أنّ مشروعاً على منواله يمكن أن يجد الآن من يتولى إنتاجه أو عرضه، أو حتى التعاقد على كتابته ابتداء! ولكن، مهما يكن النظام الرقابي محكماً وضيقاً فثمة دائماً صدوع يمكن النفاد منها، دون أن يضحي الكاتب الملتزم بمبادئه. فإن لم يكن بوسعه أن يفرض خياراً معيناً يصطدم مباشرة مع النظام الرسمي، فلا أقل من أن يرفض عروض الكتابة في مواضيع مقترحة بهدف التوظيف السياسي في خدمة النظام وتسويغ ممارساته القمعية مثلاً، أو سياساته المنحرفة. وتبقى هناك مساحات يستطيع الكاتب الملتزم التحرك فيها والتوصل برسائله إلى الجمهور. وأذكر هنا من أنّ من طبيعة العمل الأدبي والفني الراقي تجنب الخطاب المباشر والوعظي الذي يفسد القيمة الفنية ومعها القدرة على التأثير ورسالة العمل. ففي العمل الإبداعي تكمن القيمة الفكرية في الكيفية الفنية نفسها، وهي التي تتيح للمتلقي أن يستقبل الرسالة ويعيها من خلال نشاطه التأويلي وذائقته الفنية. فمع الأعمال الإبداعية الراقية لا يكون المتلقي مستقبلاً سلبياً، وإنما هو شريك فاعل في التفسير والتأويل واستبطان الرسالة وتشييدها في وعيه.

لا، لم أحكّم في كتاباتي رقيباً ذاتياً نيابة عن الرقيب الخارجي ومعاييره، إلا ما يمليه عليه ضميري ومبادئي ورسالتي. 

كيف ترى مسألة التكامل والتواصل بين الأدب ومختلف الفنون؟ 

واقع الحال أنّ عصرنا يشهد الكثير من التراسل بين الأشكال الأدبية السردية والفنية المختلفة. فالكثير من الروايات تم تحويلها إلى مسرحيات غنائية عظيمة كـ «البؤساء» و«شبح الأوبرا». كما يتم استيحاء الروايات في أعمال سينمائية وتلفازية كثيرة. بل إنّ بعض الروائيين يستحضرون هذا المطلب في أثناء كتابة الرواية فيحرصون على شحنها بالقيم البصرية وبنائها على نحو يغري صانعي السينما بشراء حقوق تحويلها إلى أعمال سينمائية. ولكن يجب التنبيه هنا إلى أنّ الروايات العظيمة لا تصلح كلها للمعالجات السينمائية الناجحة. فثمة منها ما يتسم بمستوى عال من الذهنية والتجريد ووصف العوالم الداخلية، وكل ذلك لا يسلم نفسه بسهولة إلى المعالجة البصرية الشائقة. وعلى كل فإنّ هذا التراسل بين الأشكال السردية المقروءة والمعالجة السينمائية والتلفازية قد أسهم بقوة في ردم الهوة بين أشكال الثقافة العليا وأشكال الثقافة الشعبية كالسينما والتلفاز ووحد بين جمهورهما، ودفع في الوقت نفسه إلى ارتقاء أشكال الثقافة الشعبية، لتصير لها معاهد جامعية متخصصة وتحظى باهتمام النخب إلى جانب القاعدة العريضة من الجمهور، وتصير مادة غنية للدراسة والبحث، شأنها في ذلك شأن الرواية والمسرحية الأدبية. ولم يعد استقبال الكثير منها مجرد متعة عابرة سهلة المتناول، وإنما تحتاج إلى قدر كبير من النشاط التأويلي، ومستوى عال من الذائقة الفنية. وهذا الاندماج بين أشكال الثقافة العليا والشعبية سمة من سمات العصر والحداثة وما بعد الحداثة. وليس أدل على ذلك من أنّ صانع الأغاني الشعبية "بوب ديلان" فاز بجائزة نوبل للآداب عام 2016، لما تحلت به أغانيه من القيمة الأدبية والإنسانية.

وإذا كان الشائع هو تحويل الرواية إلى عمل سينمائي أو تلفازي، فلعلي من أوائل من عكسوا الاتجاه، فعملت -وما أزال أعمل- على تحويل أعمالي الدرامية إلى روايات مقروءة. فصدرت لي رواية «مواعيد قرطبة» المبنية على مسلسل «ربيع قرطبة»، على وفق شروط الشكل الروائي. وتصدر لي قريباً رواية «النار والعنقاء» في جزأين، وهي مبنية على مسلسل «صقر قريش»، وكلتاهما عن "دار الأهلية للنشر والتوزيع". وأعمل على استكمال مشروعي هذا ليشمل «التغريبة الفلسطينية» و«ملوك الطوائف» وغيرهما. ومما شجعني على النهوض بهذا المشروع أنّ أعمالي الدرامية كتبت بالأصل بلغة أدبية، فيصح أن توصف بالأدب الدرامي المصور، وقد أُعد فيها عدد من أبحاث الماجستير والدكتوراه والأبحاث الأكاديمية الأخرى، في بلدان مختلفة من الوطن العربي. ولم يكن في الوسع توفير النصوص الأصلية لأولئك الباحثين لأسباب عملية، ما اضطرهم إلى الاجتهاد في تفريغ الكثير من المشاهد وتدوين الحوارات والمواقف. وهو أمر مجهد. فرأيت أنّ من المناسب تحويلها إلى روايات مطبوعة لتكون في أيدي القراء والباحثين عبر الزمن. وكما أنّ الصناعة الدرامية السينمائية والتلفزيونية الراقية تضيف إلى العمل بأدواتها البصرية المؤثرة، فإنّ الشكل الروائي يتيح، من خلال شروطه ومقتضياته، للكاتب والقارئ، من العناصر السردية والوصف الخارجي والداخلي والتأملات النفسية والفلسفية، ما لا تقيده محددات الصناعة السينمائية والتلفازية، وما يمتد على وسع خيال الكاتب.

هذا هو المشروع الذي أعمل عليه في الوقت الراهن. 

في الختام، ماذا عن تفاصيل شراكتك مع المخرج السوري حاتم علي الذي غادرنا في 29 كانون أول/ ديسمبر 2020؟ وهل كنت تتدخل في المقاربة النصية والبصرية للمخرج الراحل حاتم علي؟ 

رحم الله حاتم علي. كانت وفاته صدمة كبيرة. ولسوف نفتقده طويلاً على المستويين الشخصي والمهني. أما الشراكة بيننا فقد كانت مبنية على التكامل واحترام التقاسم الوظيفي في صناعة لا تنهض بالجهد الفردي. وقد لخصت غير مرة طبيعة العلاقة بين المؤلف والمخرج بالقول: إنّ المخرج الموهوب المتميز لا يستطيع إنقاذ نص ضعيف متهافت، مهما تكن مواهبه. ولكن المخرج الضعيف يمكن أن يدمر نصاً ممتازاً حين يعجز عن ترجمته باللغة البصرية. فإذا اجتمع النص الممتاز مع الإخراج المتفوق والعناصر الفنية والإنتاجية الأخرى الممتازة، بلغ العمل غايته من الجودة والإتقان والتأثير.