«ما تركت خلفي» لشذى مصطفى: أربعة دروب مختلفة للألم

2021-08-12 00:00:00

«ما تركت خلفي» لشذى مصطفى: أربعة دروب مختلفة للألم

يبدو المسار الرابع، أكثر مسارات البطلة إيلامًا، ذلك لأنها وإن كانت قد تجاوزت الكثير من أغلالها، وطنت وأخيرًا أنها وصلت للسعادة وجوهر الحب، تكتشف في النهاية أنها لم تفعل إلا أن جعلت من نفسها أسيرة لأحلام ساذجة، ولرجل متلاعب، أو للدقة هو رجل لا يعرف ما الذي يريده بالضبط. فانهارت أحلامها على رأسها وتركتها جريحة وضائعة.

عبر 4 مسارات متوازية، هندست الكاتبة الفلسطينية الشابة شذى مصطفى، المعمار الروائي لروايتها الأولى "ما تركت خلفي" الصادرة في 2019 عن دار (هاشيت أنطوان/نوفل) في بيروت، مانحة نصها بنيانًا سرديًا مميزًا تطرح من خلاله سيرة وماضي البطلة التي لم تمنحها اسمًا، تاركة المجال للتخمين والربط بين البطلة والكاتبة نفسها، ليصبح إدراج "ما تركت خلفي" ضمن أدب الأوتوبيوغرافي متاحًا للقارئ والناقد، إلا من زاوية واحدة وهي زاوية التسلسل الزمني، حيث تتقافز شذى مصطفى بخفة ونعومة بين المسارات الأربعة وأزمانها المختلفة: إلى الأمام وإلى الخلف. ويدعم استنتاج سِيَرية الرواية، التشابهات والمناطق المشتركة بين المؤلفة شذى مصطفى والبطلة، حيث تحمل كلتاهما الجنسية الفلسطينية، ودرست كلتاهما العمارة في الجامعة الأمريكية في بيروت. وربما يمكن تدعيم هذا الاستنتاج من خلال الاقتباس التالي: "أتعرف متى كان اليوم الذي قرّرت فيه أن أكتب كل هذا يا إسماعيل؟ يومها خرجت من الصف بعدما قال لنا الأستاذ: "لمّا مننشر وسخنا، بينشف بالشمس". عدت إلى المنزل. جلست إلى الطاولة، وبدأت بنشر أوجاعي".

يتناول المسار الأول علاقة البطلة بأمها، السيدة المطلقة، المقيمة في رام الله، وهي شخصية مركّبة وثرية، اختارت الانفصال عن زوجها لأنه تزوّج بأخرى. والعلاقة بين البطلة الساردة ووالدتها ملتبسة بين الحب والخوف، المسؤولية والصرامة، رغبة الأم في التحرر من سجن أبنائها، ورغبتها المماثلة في تولي مسؤوليتهم بكل حسم. تبدو العلاقة بين البطلة وأمها موضع تساؤل، فمن زاوية تحرص الأم على صغارها جدًا، لكنها لم تكن قادرة على تقديم الحب بشكل غير عملي، تقول البطلة: "أمي لم تستعمل كلمة أحبك أبدًا. ولا عبارة اشتقت لك. أمي لم تحضنّا أو تقبلنا. لكنها كانت تصرخ علينا من خوفها إذا عبرنا الشارع دون الانتباه للسيارات. كانت هدية عيد ميلادنا دائمًا جاهزة قبل أيام. كانت تحضر لنا كعكة في كل عيد ميلاد وكانت تصرخ علينا إذا حاولنا لحس الكريما عنها (...) في كثير من الأحيان كنت أتمنى لو أنها تقبلني، تحضنني، تجلس بالقرب مني، تلعب بشعري أو تتركني ألعب بشعرها، لكنها لم تفعل ذلك أبدًا. كانت أمي صارمة أيضًا، كنت أخاف من صراخها وكنت أتمنى لو أنها لا تغضب ولا تصرخ. ولكن لأكن صريحة، كانت طريقتها في التعامل معنا مجدية، أذكر أني مرة خرجت لألعب على الدراجة أمام البيت. وقعت وجرحت رجلي. عندما عدت إلى أمي لم تفعل مثلما تفعل باقي الأمهات، أو ما أظن أن باقي الأمهات يفعلن. لم تقل لي "يا حبيبتي لا تبكي"، لم تطبطب على جروحي، بل صرخت علي وقالت: "ليش وقعتي؟" أذكر أني لم أقع من بعدها. صرت أنتبه أكثر.

أما المسار الثاني من رواية "ما تركت خلفي"، فيتناول علاقة البطلة بالأب، وهي مثل علاقتها بالأم ملتبسة، وإن كانت تميل أكثر لحسم موقفها من والدها الذي وإن كان طيبًا، إلا أنها حددت موقفها منه، عندما اختار أن يتزوج للمرة الثالثة، فوصفت ذلك الفعل بـ"الحقارة". 

لم تر بطلة "ما تركت خلفي" الوجه الطيب لوالدها، قبل أن يدخل إلى سجون الاحتلال ويتعرض للتعذيب ليخرج من هناك بشخصية مختلفة، الحقيقة أنه لم يخرج كما دخل، بل خرج رجلًا شرسًا، فاقدًا للبوصلة، فاعتاد على ضرب الأم. وبعد طلاقهما، صارت مهمة توصيل أولاده إلى حاجز قلنديا عبئًا لا يطاق بالنسبة له، وتلخص دوره الأبوي في توصيل صغاره إلى ذلك الحاجز ليعبروه إلى أمهم، أو استقبالهم عند ذلك الحاجز قادمين من عند أمهم، لقد اختزل معاني الأبوة في ذلك المشوار. ثم استغرق في حياته الجديدة مع زوجة جديدة وابن جديد أنجبه من زواجه الثاني.

وعلى الرغم من ذلك بقيت البطلة لسنوات ترى والدها بشكل غائم: هل هو طيب وحنون؟ لماذا لا يتصل بأبنائه في أعياد ميلادهم ولماذا لا يحضر مناسباتهم السعيدة؟ هل كان يكذب عليهم في ما يتعلق بعلاقته بأمهم؟ كتبت البطلة عن والدها: "كان دائمًا يتركني قبل أن أكون مستعدة. في كل شيء. في بعض الأحيان كنت أظن أن المشكلة ليست أنه لا يريد أن يكون أبًا لنا. في بعض الأحيان كنت أظن أن المشكلة أنه لم يعرف كيف يكون أبًا لنا".

الجامعة وبيروت وزملاء الدراسة و"الشلة" المقربة هي محور المسار الثالث من الرواية: دنيا الشقية والمرحة والمحبوبة من الكل، وعلاقة الصدقة مع البطلة، رغبة دنيا في الالتحاق بمكتب هندسي في هولندا، وفشلها في ذلك، ونجاح البطلة في الالتحاق بذلك المكتب، وتقديمها بشكل سري للالتحاق به، ذلك الأمر الذي أحدث شرخًا بين الصديقتين. إسماعيل أيضًا صديق آخر، يشكل الضلع الثالث من هذا المثلث. وناي، الطالبة المتفوقة أحد الملامح الواضحة في هذه الشلة.

يكشف المسار الثالث بداية تخلي البطلة الراوية عن عادات المجتمع الفلسطيني، وتجاوزها لمخاوف أمها وجدتها بشأن السمعة، حيث كانت محملة بنصائح ثقيلة عن الكيفية المثلى التي ترتدي بها الفتاة المحافظة ثيابها، ومحظورات حول البقاء خارج البيت لوقت متأخر. في بيروت شربت البطلة كأسها الكحولي الأول، وارتادت حانات شارع الحمرا ونواديه. يمكن اعتبار هذا المسار هو بداية "انعتاق" البطلة من الإرث الثقيل الذي خرجت به من فلسطين إلى بيروت. لقد تحررت روحها بعض الشيء عندما غاب الرقيب الأسري والرقيب المجتمعي، أصبحت وأخيرًا قادرة على الحب والخروج والسهر والتعامل بندية مع من حولها، لم يتبق من أغلالها سوى ذلك المتعلق بضرورة الحفاظ على بكارتها كأي بنت تنتمي إلى مجتمع شرقي.

تمكنت البطلة بعد ذلك من السفر إلى السويد ضمن برنامج تبادل طلابي، كان إسماعيل معها، وقامت الجامعة السويدية بإرسال هؤلاء الطلاب إلى الفلبين، لدراسة العمارة الآسيوية هناك. بين السويد والفلبين يرتسم المسار الرابع، فهناك التقت بالشاب السويدي الأشقر ذي العينين الزرقاوين، وبدأت قصة الحب الكبرى في حياتها. ورغم ما يعكسه هذا الأمر من انعتاق ظاهري، حيث فقدت عذريتها وانخرطت بكليتها في علاقة عاطفية. إلا أن المسار الرابع أعاد تكبيل روحها، فبعد أن عاشت قصة حب متوهجة بين شواطئ الفلبين وغابات السويد، فقدت حبيبها الذي اختار هو الآخر الانعتاق منها، ذلك أنه في الأساس دخل إلى تلك العلاقة كتعويض عن فقد حبيبته التي سافرت إلى لندن لتواصل دراستها الجامعية.

قصة الحب تلك جاءت أيضًا ملتبسة، لقد أرادت البطلة أن تمنح حبيبها كل ما يسعده، ونسيت في غمار ذلك أن تلتفت لنفسها ورغباتها، لقد صارت أسيرة له، تبحث عن رضاه فقط دون أن ترضي نفسها، أو كما قالت: "سلّمت نفسي لك"، تسليم بالمعنى الحرفي، ولذلك عندما اختار الرجل إنهاء العلاقة. لم تستطع هي تجاوز ذلك، وبقيت لشهور طويلة أسيرة الأمل في أن يعود، رغم أنه أخبرها بقدرته على أن يكون سعيد حتى وهو متورط في أكثر من علاقة، ومع أكثر من حبيبة.

يبدو المسار الرابع، أكثر مسارات البطلة إيلامًا، ذلك لأنها وإن كانت قد تجاوزت الكثير من أغلالها، وطنت وأخيرًا أنها وصلت للسعادة وجوهر الحب، تكتشف في النهاية أنها لم تفعل إلا أن جعلت من نفسها أسيرة لأحلام ساذجة، ولرجل متلاعب، أو للدقة هو رجل لا يعرف ما الذي يريده بالضبط. فانهارت أحلامها على رأسها وتركتها جريحة وضائعة.

تقنيًا، اختارت شذى مصطفى ضمير المتكلم، البطل الذي يشكل جزءًا من الأحداث، تتكلم عن نفسها بضمير الـ "أنا"، وتتكلم عن الآخرين بضمير الـ "هو"، وأحيانًا، في لحظات التجلي السردي، تتكلم عن الآخرين وباقي الشخصيات بضمير الـ"أنت"، فمثلًأ، في أحد مقاطع المسار الثاني تتحدث البطلة عن والدها فتقول: "أجلسنا والدي بعدها وبدأ بمعاتبتنا لأنني صعدنا إلى تلك السيارة، قال لنا إنه يأخذنا في كل نهاية أسبوع لنرى أمي وأنه يتعذّب بسبب الحاجز، وأنه لم يكن هناك مبرر لنركب في تلك السيارة. كنتَ تعلم أننا نريد الذهاب معها، أننا نريد البقاء معها، لماذا لم تسمح لنا؟ لماذا كان علينا أن تشعرنا بالذنب، لأننا نريد ما نريد".

وهكذا، بين هذه المسارات الأربعة، وبين تنويع ضمائر الحكي عن باقي الشخصيات، هندست شدى مصطفى عالمها الروائي، لتقدم نصًا يحتفي بالبوح، ويسرّب عبر ثقوب الذاكرة، وعبر مقاطع مكثفة، تجربة حياتية وإن كانت قصيرة، إلا أنها مكثفة، ومكتوبة بعذوبة وإتقان. وتجدر الإشارة في ختام هذه القراءة ، إلى أن الرواية وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد، دورة 2020-2021، فرع المؤلف الشاب.