بعدما اطَّلعتُ على مقال لحمد الصبحي المنشور بصفحته الخاصَّة "عندما تُرجَم الحداثة ويسيل اللعاب"، والذي يذكر فيه ما يتعرَّض له الشاعر سيف الرحبي العماني حالياً من قذف في تجربته الأدبية واستنقاص مقصود من كل ما قدمه للإنسانية من عطاء كبير، تذكرت تلك الموجة الظلامية التي كانت ولا تزال تطال المثقفين والشعراء من المحيط إلى الخليج، كتلك التي عرفناها في دمشق، والقاهرة ونعرفها في الجزائر اليوم.
في الواقع، لا يمكن لقارئ باللغة العربية وهو يتصفح دواوين الشاعر سيف الرحبي أن يواصل القراءة دون أن تلفت انتباهه مواصفات الفضاء العماني المدهشة. فطريقته في توصيف فراغ الأقاصي بما فيها من كائنات متخفية وظاهرة تجعل القارئ يمتلئ بخيال يدرك أنه ليس له به سبيل على اكتشاف هذا العالم الأسطوري والخرافي إلا من خلال سيف الرحبي.
لا أعتبرُ شخصيّاً سيف الرحبي شاعراً عادياً يبني مثل بقية الشعراء جسراً لبلد مثل سلطنة عمان مع العالم، إنه رئيس تحرير مجلة "نزوى" التي باتت تقليداً عربياً متعارفاً عليه بين أوساط المثقفين والكتاب والأدباء الذين يقيمون في دول متفرقة بين أمريكا وأوروبا وآسيا والعالم العربي. وهي مجلة تعد إرثاً حضارياً متفوقاً لسلطنة عمان وصرحاً اشتدّت جداراته منذ اقتحامها عالم الثقافة المطبوعة.
ولعل اجتماع الشعر في سيف الرحبي بإدارته لمجلة "نزوى" جعله رابع قامة بعد سهيل إدريس صاحب مجلة "الآداب" اللبنانية وبعد محمود درويش صاحب مجلة "الكرمل" الفلسطينية وأدونيس صاحب مجلة "مواقف". ولقد امتدت هذه القامة أكثر وارتفعت -لحسن الحظ- في وقت انهارت فيه المقومات الثقافية للعالم العربي بالموازاة مع التدمير الذي طال الإنسان جرّاء الحروب والثورات المجانية. ولا بدّ من التذكير أن صنع مجلة ثقافية عالمية تجعل من الاختلاف هدفا ومن الطليعية مبتغى في بلد مثل سلطنة عمان لأمرٌ في غاية الصعوبة والعسر، فإنجاز مجلة بحجم مجلة "نزوى" أصعب في مسقط من صنع هذه المجلة في عاصمة مثل بيروت أو بغداد أو دمشق أو حتى الجزائر والرباط. فهذه العواصم بحكم تواجدها على احتكاك دائم بالعالم ساعدت المجلات على الانتشار سريعاً. أما مسقط، فهي تبعد عن أن تكون مثل هذه العواصم -جغرافياً على الأقل- محجّاً للأدباء. أضف إلى ذلك، انكفاءَ البلد على إرث سلفي ديني، وجغرافيا قصية تبتغي حماية نفسها من كل دخيل.
ولقد جعل سيف من مسقط عاصمة افتراضية قوية للحركة الأدبية العالمية، فبالرغم من قلة زيارة الأدباء العالميين لها والإقامة فيها عرباً أو غيرهم، إلا أنها من خلال مجلة "نزوى"، فرضت مسقط نفسها كعاصمة أدبية تضج بالأفكار، والترجمات، والنصوص الجديدة، والمقالات النَّقدية والتَّاريخيَّة، ومختلف المناهج التي بفضلها يُقاربُ الكتَّاب الظواهر الأدبيَّة على اختلاف أنماطها وأقاليمها. إنَّ دور المجلَّة -على خلاف الكتاب، يكمن في نقله السَّريع لكلِّ حداثات العالم الأدبيَّة والفنيَّة وما يستجدُّ منها على السَّاحة الثقافيَّة. وبذلك، تكون مسقط قد انتقلت من خلال سيف الرحبي خلال عقود قليلة من مجرد مكانٍ تحتلُّ موقعَهُ عاصمة سياسية واقتصادية لبلد عربي إلى حضن زمنيٍّ يتسع لكل أدباء العالم القدماء منهم والمحدثين.
ولعلّ من ينظر في شعر سيف الرحبي، سيكتشف إنسانا ينظر بعين متذمِّرةٍ من العالم، لكن هذه العين هي نفسها من تصبح مبتهجَةً عندما تنظر بنظارات مجلة "نزوى"، حيث تمنح النور إلى العالم بتعددية مواضيعها واختلاف الرؤى فيها والفنون والثقافات والعوالم، لكأنما سيف الرحبي شخصان؛ أحدهما شاعر متشائم وثانيهما رئيس مجلة متفائل جداً. ولقد حرص هو نفسُهُ في الجهتين معا على محاربة الظلامية التي تسبّبت في انهيار العالم العربي منذ كتاباته الأولى كما لو أنه كان يشاهد البذور الأولى وهي تتناثر هنا وهناك، لاسيما وأنه أقام في بلدان مختلفة من العالم العربي وعرف دقائق تفاصيله من السياسة إلى الثقافة مروراً بالمجتمع وعرف أزماته بعدما تبين أصولها وطبيعتها.
وبعد مرور عقود من السنوات، يتبيّن بكل وضوح، أن شفافية فكر سيف الرحبي التي تكشف عن كنه خاطره وطبيعة سريرته قد ساهمت إلى حد بعيد في رسم خريطة شعرية خاصة بسلطنة عمان وحدها وخريطة أخرى خاصَّةٍ بجيل مخضرم، تتمدد أطراف كلتيهما إلى كون الإنسانية الفسيح.
وبشهادة النقاد والأكاديميين، فإن تجربته قد نقلت إلى العالم الشعري لوناً جديداً بلون الوعول التي تسرح في الجبال، وهي تجربة تعي جيداً أن إعطاء لون جديد للشعر يحمل في طياته رمز إعطاء الحياة للوجود والمساهمة في صنعه كما يفعل فحول شعراء العالم. وإذا كان ما يتعرض له شاعر من مقام سيف الرحبي من مضايقات فكرية -دون أن يكون ذلك، ولو من غير قصد، من صميم النقد الأدبي- فإنما ينبئ هذا عن نوع من السقوط القادم الذي ينبغي التحذير منه، فالسقوط في اتهام المثقفين قد يأخذ أبعاده الاجتماعية والسياسية سريعاً في ظل عدم وجود نية واضحة في ترتيب توازن تُرجح فيه كفّة وازنة على أخرى فارغة.