بشير أبو منّة يضيء على الرواية الفلسطينيّة في بعديها التاريخي والأدبي

2021-08-20 15:00:00

بشير أبو منّة يضيء على الرواية الفلسطينيّة في بعديها التاريخي والأدبي

وتُسلّط دراسة أبو منّة الضوء على تجربة أربعة من أهمّ الروائيّين الفلسطينيّين المؤسّسين، وكذا على ارتباط الرواية الفلسطينيّة بالتاريخ والسياسة، بهدف معاينة نصوص هذه النماذج في سياق حركة التحرّر الفلسطينيّة وتفاعلها الايجابيّ والسلبيّ وانعكاسه على المشهد الاجتماعي والسياسي، انطلاقاً من كون الثقافة عموماً، والرواية تحديداً شكّلا معاً إطاراً تفاعلياً لصياغة خطاب قادر على طرح أسئلة الواقع والموقف.

يرى الفيلسوف المجريّ جورج لوكاتش، أنّ "التاريخ يَنتج عن التفاعل بين الذات والموضوع"، من هنا يمكننا القول: إنّ دراسة بشير أبو منة "الرواية الفلسطينيّة من سنة 1948 حتى الحاضر" (مركز الدراسات الفلسطينيّة ــ ترجمة مصعب حياتلي) لا تستمدّ أهميّتها من أسماء النماذج موضوع البحث وحسب، ولكن من وضع قطبين متكاملين ومتقابلين في آن، هما قطبا السرد والزمن، الأوّل بوصفه أداة للمحاكاة والمنازلة، والثاني باعتباره أحد عناصر الفعل الأساسيّة. ولذلك نجد أبو منّة يفتتح دراسته بمقدّمة تتناول "النظريّة والتاريخ والشكل" في مقاربة لواقعيّة "لوكاتش" وعلاقتها بالحداثة، منوهاً إلى شكل البناء السرديّ للحكاية بمنطق يحكمه ويؤصّل له تيّار الوعي الفلسطينيّ ومحاولته معاينة سؤال الهويّة وتعبيراته السياسيّة والاجتماعيّة في السرد الفلسطينيّ المؤسّس، ومعادلات وصْله ما بين الأسباب والمآلات من جهة، والواقع والحكاية من جهة أخرى.

هذا التفاعل ما بين الثنائيّات، يعدّه أبو منّة صراحة أو ضمناً، استجابة دالّة لتحوّل المسارات ضمن سياقات متعرّجة ومتقاطعة تعني فيما تعني، أنّ حالة انتقال المعنى كان وربما ما زال يدور حول مستويين أساسيّين، الأوّل في المنهج الفكري، والثاني في الموقف السياسي. وهو ما دفع بالكاتب لمعاينة واقعيّة جبرا إبراهيم وإميل حبيبي، وثوريّة وتحرريّة غسّان كنفاني وسحر خليفة. غير أنّ الاستثناء الذي شكّلته القضيّة الفلسطينيّة في كامل المنطقة العربيّة على صعيد الحركات التحريريّة، هو ما أسّس لخُلاصات تؤكّد على فكر جبرا بأنّ التجديد هو الدرس الأوّل في نهج التصحيح والتعديل المتكئ على أهميّة التنوير والتحديث وفق تحليل أبو منّه. وذلك بفضل الوضعين الاجتماعي والسياسي للفلسطينيّين بعد النكبة.

النكبة إذن، هي كلمة السرّ التي تدور حولها السرود الفلسطينيّة، من منظور شامل للعالم العربيّ وليس فقط للحالة الفلسطينيّة، بوصفها الفرصة الأجدى للتعبير عن حالة الاضطراب المسكونة بالخوف والأسئلة في كامل المنطقة العربيّة، نتيجة الأوضاع البنيويّة المتباينة ما بين الذات والموضوع مرّة، والتاريخ وأدوات تحقيبه مرّات ومرّات. ما ساهم في توسيع دائرة الأفق الدلالي للسّارد الفلسطينيّ وهو يؤسّس لحالة وعي يمكنها أن تُفعّل مرايا الإحاطة باليوميّات الفرديّة والجماعيّة لشعب قابع تحت نير الاحتلال، باتجاه تأويل يعكس الحكاية ويدوّرها بوصفها مادّة توثيقيّة وفيرة الإغراء لصياغة خطاب مناهض يحثّ على العصيان والتمرّد والمقاومة.

واتكأ بشير أبو منّة في كتابه على نظريّة لوكاتش المعبّرة عن أثر التحولات التاريخيّة في الصيغ الأدبيّة، بهدف بناء إطار نقدي لدراسة الرواية الفلسطينيّة، مقارباً ما بين صيغ التأويل المادّي للرواية الواقعيّة التقليديّة في أوروبا لدى لوكاتش، ومسار الرواية الفلسطينيّة في ظل تطوّرها على خلفيّة الأوضاع التاريخيّة، واستجابة الصيغ الروائيّة الفلسطينيّة لهذه التغيّرات السياسيّة الحاسمة والتحوّلات الثوريّة في الشرق، على الرغم من اختلاف محتوياتها وتكوينها الطبقي عن النموذج الأوروبي.

بهذا المعنى توقّف أبو منّة أمام نموذج جبرا إبراهيم جبرا، بوصفه نموذجاً معبراً عن فكرة التجديد الأدبيّ والثقافيّ، معالجاً سياق الأزمة المعرفيّة والتمثيليّة، انطلاقاً من جماليّات الواقعيّة التحريريّة، مروراً بمفهوم مقاومة الحداثة، من خلال ما مثّله من خليط من الواقعيّة التبشيريّة المستندة إلى فكرة الخلاص الفرديّ باعتباره طريقاً إجبارياً للانعتاق الجمعيّ. ذلك على الرغم من اتهام جبرا بأنّه لم يعبّر أو يمثّل الإنسان العربيّ وإنما الطبقة البورجوازيّة (1).

هكذا مهّد الباحث الطريق لتناول نموذج الفكر الثوريّ بوصفه حركة نضاليّة ثوريّة، يمكنها أن تحدّد طبيعة الأدب ووظيفته، وهو ما استطاع غسّان كنفاني بكتاباته الجذريّة في هذا السياق أن يعبّر عنها، وهو الكاتب الثوريّ الذي "كاد أن يكون فرانز فانون الثورة الفلسطينيّة" لولا حادثة اغتياله، وفق أبو منّة مشيراً إلى رأي كنفاني في القيم التحرّريّة الاجتماعيّة والسياسيّة وتطويرها عبر "الالتزام بثلاثة خصائص متميّزة يحدّدها، في التالي (...) أولاً، الارتباط بالبعد الاجتماعي والولاء للطبقة الكادحة، وثانياً، الالتزام بالثورات التحرّرية في العالم، وثالثاً، الارتباط العضو الراسخ بالبعد العربيّ"(2).

وبخلاف النموذجين الأول والثاني (جبرا وكنفاني) استدعى الباحث نموذج إميل حبيبي، كنموذج شديد الخصوصيّة، من حيث هو نموذج تمكّن من التعبير بعمق عن حال التناقض والإرباك الذي تلبّس فلسطينيي الـ 48 أصحاب الأرض الأصلانيّين، وحالة العزلة التي تعرّضوا لها على المستويين الاجتماعيّ والسياسيّ، ممّا "يذكّر الباحث بالمرحلة الكلاسيكيّة للرواية التاريخيّة عند لوكاتش، حيث الرابط الوثيق بين التجربة البحتة للشخصيّة، والوقائع التاريخيّة"(3). متّكئاً على استعارات الخيال باعتباره سلاح مجابهة. وذلك على الرغم من الحالة الجدليّة التي تمثّلها شخصية إميل حبيبي نفسه، وتحديداً في البعد السياسيّ.

وكي تكتمل دائرة المعالجة في هذه الدراسة المهمّة، كان لزاماً على الباحث أن يتعرّض لصيغ القيم الاجتماعيّة وبُنى النفوذ في العالم العربيّ بشكل عام، والداخل الفلسطينيّ بشكل خاص، وهو ما تمكّنت سحر خليفة من بحثه مطولاً في عديد أعمالها الروائيّة التي جادلت في فكرة "أنّ الهزيمة السياسيّة، هي نتاج الهزيمة الثقافيّة" (...) "وبالتالي لا مناص من تلبية المطالب التقدميّة الاجتماعيّة إذا ما كان المجتمع يسعى لإطلاق طاقاته الشعبيّة المساهمة في النضال، وهو ما يتضمّن أيضاً نقداً نسوياً حاداً لمفهوم الوطنيّة"(4) على الرغم من تهاجن المؤثّرات السياسيّة والفكريّة التي تعرّضت لها مكونّات الشعب الفلسطيني بين الداخل المحتل والشتات المستهدف. 

هذا التهاجن الذي حاك فيه أبو منّه "عبر توظيف مفاهيم مرحلة ما بعد الاستعمار لهذه الفكرة، في أنّ الماديّة اللوكاتشيّة لا تتجاهل مفهوم الأمّة في تأويلها الأدبيّ ولا تضخّمه" كما يقول في مقدّمته(5)، ولكن الملاحظ أن دراسة أبو منّة، لم تجب بوضوح كاف عن سؤال العلاقة ما بين "الحضور الطاغي للثقافة السائدة، في مقابل، الحضور المغيّب للثقافة المهمّشة" كما ناقشتها رضوى عاشور في محاورتها لكتاب "الثقافة والإمبريالية" لإدوارد سعيد(6).

وعلى الرغم من هذه الملاحظة، إلا أنه يُحسب للكاتب والباحث بشير أبو منّة الذي يشغل منصب محاضر في أدب الاستعمار ومدير مركز الدراسات الاستعماريّة وما بعد الاستعماريّة في «جامعة كنت» في بريطانيا، مناقشته للسياق الناظم لسؤال الهويّة في الروايّة الفلسطينيّة على عدّة مرتكزات فكريّة متباينة ومتقاطعة في آن، وفي سياق طرح فلسفيّ يعاين التاريخيّ بمنظور أدبيّ، ليرسم ملامح الروابط المكوّنة للعلاقة ما بين السياسة والأدب عبر تطبيق نظريات جورج لوكاتش وتيودور أدورنو وريموند وليامز وأدب ما بعد الاستعمار. 

وتُسلّط دراسة أبو منّة الضوء على تجربة أربعة من أهمّ الروائيّين الفلسطينيّين المؤسّسين، وكذا على ارتباط الرواية الفلسطينيّة بالتاريخ والسياسة، بهدف معاينة نصوص هذه النماذج في سياق حركة التحرّر الفلسطينيّة وتفاعلها الايجابيّ والسلبيّ وانعكاسه على المشهد الاجتماعي والسياسي، انطلاقاً من كون الثقافة عموماً، والرواية تحديداً شكّلا معاً إطاراً تفاعلياً لصياغة خطاب قادر على طرح أسئلة الواقع والموقف.

ولم يغفل الكاتب في السياق أن يعرّج على نموذجين غير فلسطينيّين هما الفرنسيّ جان جينيه، واللبنانيّ إلياس خوري، اولاً للتأكيد على فكرة الانتماء العابر للحدود والهويات، والثاني للإشارة إلى إمكانيّات نقل الثورة من المحيط الإقليمي إلى الصعيد العالميّ. لمناقشة مفاهيم التضحية الفرديّة ودورها في الخلاص الجمعيّ عبر إدراك الذات وعلاقتها بالآخر الشريك من جهة، والنقيض من جهة أخرى.

أخيراً: تأتي هذه الدراسة في خمسة فصول مصحوبة بمقدّمة وخاتمة، حملت جميعها عناوين مهمّة بدأت من: "مقدّمة النظريّة والتاريخ والشكل"، وفصول "جبرا إبراهيم جبرا التضحية: الواقعيّة، الثورة والتجديد"، و"غسان كنفاني والأخلاقيّات الثوريّة" ويشمل نموذج جان جينيه، و"إميل حبيبي: الأسْر والحريّة الثقافيّة"، و"سحر خليفة: أسئلة راديكاليّة والنسويّة الثوريّة"، و"لحن الهزيمة في أدب الحداثة الفلسطينيّ"، وخاتمة بعنوان: "إحياء ذكرى الهزيمة" باب الشمس لإلياس خوري نموذجاً.

المهمّ والجريء في هذه الدراسة، أنها تعرّضت لأفكار جذريّة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسار الرواية الفلسطينيّة، كما هي أفكار النهضة العربيّة الثقافيّة، وأزمة الواقعيّة والحداثة في الشرق، وكذا مقاومة تشييء الزمن وفق قراءة تيودور أدورنو، فضلا عن الإمكانيّات التوليديّة والإنقاذيّة للرواية الواقعيّة في المستعمرات، ممّا شكّل عناصر تنقيبيّه محمّلة بالدلالات التأصيليّة المفاهيميّه لرصد الرواية الفلسطينيّة في بعديها التاريخيّ والأدبيّ.
 

إحالات:

  1. أنظر بشير أبو منة – "الرواية الفلسطينية من سنة 1948 حتى الحاضر" ص58- 62
  2. أنظر المصدر السابق ص 125
  3. أنظر المصدر السابق ص 165
  4. أنظر المصدر السابق ص 198
  5. أنظر المصدر السابق ص 9
  6. أنظر، رضوى عاشور – " في النقد التطبيقي – صيادو الذاكرة" ص128