أفلام نسائية في "أيام فلسطين السينمائية"

"كما أريد"... محاولة لتحرير الطائر من محبسه

2021-11-05 11:00:00

وربما يكون حضور هؤلاء السيدات، في ثنايا الفيلم بشكل غير مبرمج، يكاد يكون عشوائيًا، أحد العناصر التي منحت الفيلم قيمة مضافة، إذ صار مُنتجهن الفني (كتابات سميرة إبراهيم مثلًا أو ترجمات ضي رحمي) دالًا على أن صانعة فيلم "كما أريد" تتبعت الروح الحرة للمرأة المصرية، منذ أن كانت برعمًا،

طائر معلّق في الفراغ

مشهد لمزراب مياه خاص بأسطح إحدى البنايات، تتدلى من المزراب خيوط متكلسة بفعل الأوساخ، وقد علق في أحد تلك الخيوط، جناح طائر ما، يمامة على الأرجح.

ظل ذلك الطير عالقًا بجناحه في المزراب، متدليًا في الفراغ،  بجناح واحد حر، وآخر مقيد يجبره على البقاء حبيسًا. حتى تتدخل إحدى السيدات، من فوق السطح القريب، في مغامرة جريئة وشجاعة تكاد تكون مجازفة، فتتعلق بأسوار السطح ثم تمد من بعيد عصا خشبية طويلة، وتبدأ في محاولة تحرير الطائر العالق. محاولات خطرة، غير أنها أسفرت في النهاية عن تحرر الطائر الذي يبادر فورًا بالتحليق بعيدًا من نطاق أسره.

المشهد السابق، هو أحد أكثر المشاهد رمزية وفنية، في الفيلم التسجيلي الطويل "كما أريد" للمخرجة الفلسطينية سماهر القاضي. إذ يعكس المشهد وجهة نظر صناع الفيلم في وضع المرأة العربية والبيئة القمعية التي تعيش فيها.

المرأة، هي الموضوع العام لـ "كما أريد" (المشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية" في الفترة من 3 إلى 8 نوفمبر 2021.)، التحديات التي تواجهها منذ الطفولة، في حرية الملبس، والقيود الاجتماعية، والامتيازات التي تُمنح لأشقائها الذكور على حسابها، مرورًا بحريتها في اختيار ما ستدرسه في المرحلة الجامعية، ومن بعد ذلك مرحلة الزواج التي يُفرض عليها فيها توقيت الزيجة، كما يُفرض عليها الرجل الذي ستقترن به، لتواصل بذلك سلسلة من الإكراهات، التي تجعل من حياتها مصفوفة طويلة من عمليات الإجبار، لينقضي عمرها، كاملًا، دون أن تكون قد اختارت أي شيء. تقول سماهر القاضي في مشهد "فويس أوفر" مخاطبة والدتها التي عاشت سلسلة الإكراهات كاملة: "حزينة أنا على موتك، ليس فقط لأننا لم نتداول الأحاديث بعد، ولكن أيضًا ولأنه طوال ستين عامًا، لم تتسنَ لرئتيك أن تتنفس. متِ مخنوقة يامّة. متِ من غير ما تعرفي ولا حق من حقوقك، مش حقوق المحاكم والقوانين. لا. حقك كأم بهاي الأرض. هي أشياء لا تُشترى. حق الحياة لمن يجلب الحياة".

وفي خضم تلك الحياة الإجبارية ذات المسار الواحد المفروض على الغالبية العظمى من نساء العرب –مصر وفلسطين على الأخص– تتجلى ذروة القمع والعنف والإكراه، وتتجلى ذروة الفيلم، في قضية التحرش، ذلك الوحش الأكبر الذي يمثل قمة هرم العنف ضد المرأة في البلدان العربية، والنقطة المركزية في الفيلم.

التحرش... في الثورة، وبعيدًا عنها

187 حالة تحرش، شهدتها الأيام القليلة التي سبقت يوم 30 يونيو 2013، اليوم الذي شهد بداية النهاية لفترة حكم جماعة الإخوان المسلمين لمصر، والتي تكللت بعد أيام قليلة في 3 يوليو من العام ذاته، عندما أعلن الجيش المصري تعطيل العمل بالدستور وتولي رئيس المحكمة الدستورية العليا (عدلي منصور) منصب رئاسة الجمهورية بصفة مؤقتة ريثما يجري إقامة انتخابات رئاسية مبكرة، بعد عزل محمد مرسي من موقع الرئاسة.

حاولت سماهر القاضي في الفيلم أن تستعرض حالات التحرش في الشارع المصري، سواء تلك التي جرت في ميادين الثورة، أو التحرش بشكل عام، في كل مكان. وعلى الرغم من الرقم المخيف (187 حالة تحرش)، إلا أنها يبدو صغيرًا مقارنة بالأرقام التي أعلنتها أكثر من دراسة بحثية عن تلك الظاهرة الوبائية الخطيرة، لأن الأرقام الحقيقية تبدو أكثر من ذلك بكثير، فعلى سبيل المثال أجرت مؤسسة "خريطة التحرش" دراسة في العام 2014 أظهرت أن 95.3% من السيدات المشاركات في الدراسة تعرضن للتحرش، بينما أظهرت دراسة أخرى تابعة للأمم المتحدة أن 99.3% من المستجوبات تعرضن للتحرش، ونصفهن على الأقل يتعرضن له بصفة يومية.

في الفيلم اختارت سماهر القاضي قضية الموسيقية المصرية الشابة ياسمين البرماوي، التي تعرضت لتحرش جماعي بشع في ميدان التحرير، أثناء مظاهرات مصرية ضد الإعلان الدستوري الصادر في 2012، في بدايات فترة حكم الرئيس الإخواني محمد مرسي.

وقعت حادثة التحرش بياسمين البرماوي في نوفمبر 2012. بينما جاء تولي محمد مرسي مقاليد الرئاسة في يونيو من العام ذاته. وربما كانت حالات التحرش تلك، هي المحرك الرئيسي، الذي ملأ قلب سماهر القاضي بالغضب، وجعلها راغبة وبشدة في توظيف الكاميرا كسلاح ردع، وكان محركها الرئيسي لصناعة الفيلم. 

تقول "سارة"، إحدى الفتيات اللواتي تعرضن للتحرش، وواحدة من الفتيات اللواتي وقفن أمام كاميرا سماهر القاضي في الفيلم: "لما جم يقضوا على الثورة، استهدفوا المرأة". هذه واحدة من الرسائل التي سعى الفيلم لتمريرها، لا ثورة بدون نساء، بل لا حياة بدون نساء، لا حياة سوية بدون حياة كريمة وحرة للمرأة.

الكاميرا كسلاح ضد الدوغما الذكورية المتوارثة

تجولت سماهر القاضي في شوارع القاهرة حاملة الكاميرا الخاصة بها، لترصد كميات رهيبة من التحرش، لفظي وجسدي، تقريبًا لم يمر أحد بجوارها دون أن يرمي عليها بكلمة غليظة. إلا أن أكثر تلك المشاهد لفتًا للنظر كان أثناء جلوسها في المقعد الخلفي لسيارة أجرة، بينما ترصد الكاميرا شابين يركبان دراجة نارية، ولا يتورعان عن التحرش بها في ما يعرف بشكل زائف في مصر بـ "المعاكسة"، وعندما يكتشفان أنه يتم تصويرهما، تبدأ لهجتيهما في التغير، ويصفان فعلها ذلك بالشجاعة، ثم في تصعيد درامي تشهر لهما سكينًا كبيرًا، فيتحول الموقف رغم جديته إلى حالة من الضحك من قبل الشابين: هل يمكن لمرأة أن تدافع عن نفسها حقًا باستخدام القوة في هذا الشارع الذكوري الذي يبرر لأفعال التحرش ويلقي بالتهمة عادة على المرأة مستخدما حجة من اثنتين: "إيه اللي ودّاها هناك؟" أو "ملابسها فاضحة"؟ ثم يشرعان بعد ذلك في تحذير سائق التاكسي من أن زبونته الراكبة معه مسلّحة.

وفي مشهد آخر، مجموعة من السيدات في سيارة، يمر بالقرب منهن شاب يقود سيارته، ويبدأ في الحملقة في الفتيات، ثم يرسل لهن ابتسامة كبيرة وسمجة، وبعدها يصعّد من تحرشه ويبدأ في التحدث إليهن، وعندما يكتشف أنه يتم تصويره، هنا فقط يبرز سلطته، فيسد طريق سيارة السيدات بسيارته، ونرى بعد ذلك بدلته الرسمية (ضابط شرطة)، ويبدأ في محاولة تخويفهن ومطالبتهن بأن يرى ما سجلته الكاميرا الخاصة بهن. ولولا تضامن السيدات، وإصرارهن على عدم إعطائه الكاميرا، لحصل عليها، ولضاع هذا المشهد الذي يحكي ويلخص حقيقة مؤلمة ومؤسفة: للذكر الشرقي صلاحية التحرش، تحت غطاء ثقافي أو سلطوي، إنها دوغما متوارثة، وحق ضمني غير منصوص عليه، ينتقل من جيل إلى جيل.

المقهى... ملخص لأحوال البلاد

سكنت المخرجة الفلسطينية في القاهرة في منطقة "وسط البلد"، تلك المنطقة التي عُرفت دومًا بكونها المركز الرئيسي لأي حراك سياسي، كما عُرفت دومًا بكونه أهم مركز ثقل ثقافي في العاصمة، حيث غاليريات الفن التشكيلي والمكتبات ودور السينما وأكبر معقل لفن الغرافيتي في العاصمة.

وتصادف –أو ربما هو مقصود– أن يكون المقهى الواقع تحت شرفة البيت الذي تسكنه سماهر القاضي مع أسرتها، مرآة جلية تعكس جل التحولات التي مرت بها مصر في الفترة بين 2011 و 2013، كان المقهى الواقع تحت الشرفة يشهد بين الحين والآخر معارك دامية بين أطراف الاستقطاب في الشارع المصري.

ذلك الاستقطاب الذي تسببت فيه جماعات الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين والسلفيون)، تجسد حيًا على تلك المقهى من خلال شجارات دامية يحمل أحد أطرافها هراوات ضخمة وسواطير ولا يتورعون عن تهديد الفريق الآخر بإشارات خارجة وبذيئة، والفريق الآخر الذي لا يجد سوى كراسي المقهى لاستخدامها كأسلحة وكدروع أيضًا.

ثمة روح (محفوظية) في حضور المقهى، فمثلما كانت المقاهي في روايات نجيب محفوظ نوادي لتداول الرأي، وأماكن تعكس روح وحال الشارع والحارة في مصر، فإن المقهى في الفيلم لا يذهب بعيدًا عن تلك الرؤية المحفوظية. إنها –المقاهي- صورة حية ومصغرة للأحوال المجتمعية والسياسية، يسودها الاحتفال في حال حدوث ما يرضي الشعب (عزل مرسي مثلًا)، أو تتسم بالفوضى والعنف في فترات الاستقطاب بين الإخوان وتابعيهم أمام حشود المصريين المطالبين بعزل الرئيس. أو هي هادئة ومستقرة وتعمل بهدوء مع صوت أم كلثوم في الخلفية في الأيام العادية.

رموز نسائية... قيادات الصف الأول

صورت سماهر القاضي عدة مظاهرات نسوية، كانت موضوعات تلك التظاهرات تتباين حينًا وتتداخل أحيانًا، الحال السياسي في البلاد، أو وضع المرأة وتعرضها الدائم للتحرش والقمع. من تلك المظاهرات مثلًا واحدة جرت في اليوم العالمي للمرأة، 8 مارس 2013، وتظاهرات أخرى في مناسبات مختلفة، شهدت ظهور وجوه نسائية ربما لم تكن تحظى بالشهرة الكافية، إلا أن المراقب عن كثب سيدرك أن تلك السيدات والفتيات، تحولن بمرور السنوات إلى رموز نسائية كبرى، سيتولين يومًا ما حركة الدفاع عن المرأة، وعن البلاد أيضًا، باعتبار المرأة نصف هذه البلاد، فظهرت الممثلتان جيهان فاضل ونوارة مراد، والناقدة حنين حنفي ابنة الفيلسوف الراحل حسن حنفي، والمترجمة ضي رحمي، والصحافية سميرة إبراهيم التي تعرضت للتجربة المريرة (كشوف العذرية) في 2012.

وربما يكون حضور هؤلاء السيدات، في ثنايا الفيلم بشكل غير مبرمج، يكاد يكون عشوائيًا، أحد العناصر التي منحت الفيلم قيمة مضافة، إذ صار مُنتجهن الفني (كتابات سميرة إبراهيم مثلًا أو ترجمات ضي رحمي) دالًا على أن صانعة فيلم "كما أريد" تتبعت الروح الحرة للمرأة المصرية، منذ أن كانت برعمًا، وحتى اكتمال نضجها، فأصبح حضور هؤلاء في تضاعيف الفيلم بمثابة قيمة معنوية كبيرة تضاف للقيمة الفنية والإنسانية المبثوثة على طول الفيلم.