فصل من رواية "احتضار عند حافة الذاكرة" لأحمد الحرباوي

2021-11-30 12:00:00

فصل من رواية

أحسّ إيلي بوجود شيء غير منطقي، فالردّ أتاه أسرع ممّا توقع، هل من الممكن أن تكون الرسالة وقعت في شرك الدرك العثماني؟ وها هم أرسلوا شخصًا من أجل التأكّد من فحواها؟! 

الضيف 

نزلت بريجيتا في السرداب الذي يقع أسفل الكنيسة، كان يبدو على ملامحها التوتّر والقلق، يداها خاليتان إلّا من قنديلٍ من الزيت، تمشي بتأنٍّ وتراقب الممرّ خلفها باستمرار. رآها إيلي من مكانه فأحسّ بوجود مشكلة ما، ملامحها مضطربة على غير العادة، عادت صباحًا من قصر الأفندي ويبدو أنّها سمعت أخبارًا سيّئة! 

نظر إيلي حوله فوجد المختار، الذي لحق به قبل عدّة أيّام، يغطّ في نوم عميق. شعر بوجود خطب ما، لكنّ المختار لم يجبه عن استفساراته، خاصّة عندما سأله عن أحوال ليئا، اكتفى بإخباره بأنّها تقيم مع زوجته في بيتهم ولم يزد أكثر من ذلك. في العادة لا يترك المختار المدينة لأكثر من ليلة، فلديه هناك الكثير ممّا يقوم به، لكنّه الآن نائم بعمق شديد، لم يحتمل رائحة النبيذ المنبثقة من المغارة المجاورة، سبّبت له الغثيان. نصحه إيلي بشرب كأس من ذلك النبيذ المعتّق كي يسيطر على نفسه ويعتاد الرائحة، فتسمّر مكانه طويلًا وهو يراقب كأس الزجاج في يد صديقه، ثمّ أغمض عينيه وتناول الكأس وشرب منها، سكب له إيلي المزيد فبقي يشرب كي يبرهن لهم أنّه قويّ وقادر على السيطرة على نفسه، لكنّه لم يستطع أن يكمل كأسه الخامسة، وغطّ في نوم عميق. 

دخلت بريجيتا الحجرة، اقتربت من إيلي وهمست في أذنه، لا تريد أن يسمع من معه في القبو ما حصل، أحسّ الباقون بوجود خطب ما، لكنّ إيلي تظاهر بعدم انتباهه لأيّ شيء غير طبيعي، استقبلها بابتسامته المعهودة، واقترب نحوها محاولًا لفت انتباهها كي لا تتفوّه بأيّ كلمة أمام الآخرين إن كان هنالك كلام مهمّ أو خطير تودّ قوله، لم يخفَ على بريجيتا ذلك التصرّف فاقتربت منه مرّة أخرى وقالت بصوت عالٍ كي تكسر حاجز الصمت، ومن أجل أن لا تلفت انتباه الحاضرين إلى وجود خطب ما، بادرت بالمزاح وقالت: 

– يهودا متخبّي بكنيسة، يا نِعم الربّ. 

– له له يا بريجيتا قصدك أنا زيّ يهودا الإسخريوطي48؟ وضحك ضحكة قويّة جعلت المختار يستيقظ من سباته. 

– لا مش بتشبهه، انت من نفس العيلة، ابن عمّك صحّ؟ وضحكت بصوت صاخب. 

رفع إيلي يديه مستسلمًا وأطلق ضحكة من أعماق قلبه، فقالت بريجيتا: 

– لو يهودا هيك كانت ضحكته فالربّ أكيد غفر له كلّ ذنوبه من زمان. 

تظاهرت بأنّها تغازله، لكنّها باغتته وهمست في أذنه بلغتها العربية المكسّرة: «اطلع لفوك، في حكي، واحد بيكول بده يشوفك انت ومختار»، وعندما ابتعدت عنه قالت كي تشتّت انتباه الآخرين الذين تسمّروا مكانهم من غواية حركاتها: «بطولش كتير، شوي وبيجي إيلي، مختار كوم معانا محرم» فضحكوا جميعًا. 

نهض المختار عن الأرض وهو يحاول الإمساك بظلّه كي يتوازن، لكن دون جدوى، سقط على الأرض مجدّدًا مثل ورقة خريف تجاوزت فصلها، فأثقلها الثلج ورمى بها أرضًا، اقترب منه إيلي وسحبه من يده، وعندما استطاع الوقوف على قدميه طوّقه إيلي من خاصرته وهمس له: «عديم ووقع بسلّة تين»، فنظر إليه المختار بخبل وقال له: «قصدك شو فهّم الحمير بأكل الجرجير؟» فضحك إيلي وقال: «بعدين بنتفاهم مين الحمار»، وحمله عبر السرداب إلى الخارج. 

في الأعلى، كان الأب إبراهيم ينظّف ساحة الكنيسة ويلملم ما تساقط من جذع شجرة البلّوط المقدسة على إثر العاصفة الثلجية التي ضربت البلاد ويضعه في أكياس، إنّه مصدر دخل جيّد للكنيسة حيث يبيعه للحجّاج في موسم الحجّ المقبل، فالكثير يأتون من أجل الحصول على قطعة من شجرة البلّوط المقدّسة. في الحقيقة، يحبّ الأب إبراهيم هذا العمل الإضافي، فهو يستطيع على إثره تمويل الكنيسة وتوسيعها، والعناية بأرضها الكبيرة التي تمتدّ لعشرات الدونمات المزروعة بأشجار الزيتون والتفّاح واللوز والعنب، من خلال السخاء على الفلّاحين العاملين فيها. 

يبدو على ملامح الأب الامتعاض من وجود المختار وإيلي ومن معهم، فإن عرفت السلطات العثمانية بأمرهم فسيتسبّب ذلك بأزمة سياسية كبيرة بين روسيا والعثمانيين، خاصّة مع بداية بزوغ نجم الحركات الانفصالية عن الحكم التركي. 

كان الأب إبراهيم يسرُّ لنفسه بأنّه مرتاحٌ لفكرة خروج الأتراك من الأراضي المقدّسة، فهذه ستكون أجمل هديّة من الممكن الحصول عليها، لذلك أصبح لا يتدخّل في أيّ أمر يتعلق بإيواء الفارّين من السلطة العثمانية، إلّا إذا شعر بأنّه يهدّد أمن الرهبان والكنيسة. وقد منحه شغف بريجيتا بمساعدتهم ووساطتها لديه من أجلهم بعضًا من الثقة، كما أنّ وجودهم وفّر له أيدي عاملة ماهرة إضافية في مزارع الكنيسة، لأنّهم في أوقات مللهم يتوجّهون إلى الأرض، وقد باشروا بتعليمه كيفية صناعة الدبس والمربّى الخاصّ بشتى أنواع الفواكه التي تُزرع في جبال الخليل، وخاصّة مربّى السفرجل والعنب والمشمش، ووعدوه بتعليمه كيفية صناعة الكُسبة51 في وقت لاحق عندما يحلّ الصيف وينضج محصول السمسم.  

قادتهم بريجيتا إلى النزل الخاصّ بالراهبات أمام الكنيسة، كان بانتظارهم في غرفة المعيشة شخصٌ غريب لا يعرفونه، يرتدي ملابس إفرنجية ويعتلي رأسه طربوشٌ أحمر مثل الباشوات ويحمل في يده غليونًا خشبيًا مزخرفًا بالنحاس. وهم كانوا قد أرسلوا رسالة بواسطة القنصلية الروسية عن طريق بريجيتا إلى مقرّ جمعية الفتاة العربية في بيروت، ليخبروهم بأمر انضمامهم إلى الجمعية وأهدافها، لكنّهم لم يتوقعوا أن يتوصّلوا إلى ردّ بهذه السرعة، حيث لم تمضِ ثلاثة أسابيع على إرسال الرسالة، وهذا الشخص حسب ما فهموا قد جاء للتفاهم معهم بهذا الصدد. وقف إيلي ورحّب به بحفاوة شديدة، ثمّ عرّف عن نفسه، فباغته الضيف قائلًا بلهجة شامية: 

– تشرّفنا فيك، اسمي سامي البكري من دمشق، وجاي من طرف أخي نسيب البكري، بدّي أخبركم إنّه راح نعمل اجتماع تحضيري ببيروت لأنّه في حزيران اللي جاي راح نعمل الاجتماع الموسّع في باريس، راح نتواصل معاكم عشان تحضروا الاجتماع، بعتني نسيب بيك لحتى أفهم شو السيرة، وشو راح نقدر نعمل مع بعض، بس عارفين طبعًا إنّه مش لازم أيّ حدّ يعرف اشي عن اللي بيصير، عيون الأتراك في كلّ مكان. 

أحسّ إيلي بوجود شيء غير منطقي، فالردّ أتاه أسرع ممّا توقع، هل من الممكن أن تكون الرسالة وقعت في شرك الدرك العثماني؟ وها هم أرسلوا شخصًا من أجل التأكّد من فحواها؟! 

إصدار عام 2022 عن نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطوان.