درسٌ في الرسم

2021-12-01 01:00:00

درسٌ في الرسم
Mark Rothko, No. 16/No. 12 ,Mauve Intersection, 1949

شجرة مقطوعة الأغصان، في أرضٍ مليئة بالحجارة والحصى، إلى جانبها، بذرة جاءت بها الريح. ثمّ أقول لنفسي أنّ هذه الفكرة رومانسية جدًا وتصلح لنهاية فيلم، أو قصّة أطفال. أغمض عينيّ، وتداخل كلمات الأغاني التي أعرفها في رأسي،

مرح خليفة
عاملة ثقافية وباحثة من فلسطين


كيف أرسم رأسي؟

أحاول منذ فترة أن أرسم صورة مقطعية لرأسي. كيف تجلس الأفكار طبقة فوق طبقة. كيف تنزاح طبقة معيّنة، وكيف تتداخل أخرى مع طبقة تشكّلت منذ سنوات بعيدة؟ كيف تختفي طبقة ثمّ تظهر فجأة، وعلى أيّ شكل تظهر؟ أريد أن أرسم الأفكار في رأسي فأتذكّر رائحة الصفّ الثالث في المدرسة الحكومية، حين تعلّمنا الرسم العشوائي. صفٌ كامل يتألف من أكثر من أربعين بنت، مغمضات الأعين، يرسمن رسمة قيل لنا أنها عشوائية، ثمّ يفتحن أعينهن بعد أن تأذن المعلّمة، ليكتشفن الشكل الذي رسمنه عندما غابت أعينهن. 

أفكّر أنّ عينايّ لا تزالان مغمضات إلى الآن.

أحاول أن أرسم رأسي، وأسمع همسًا لبطلٍ في رواية يقول "الفراولة لم تتغير وهي تتجدد في كلّ المواسم. أنا الذي تغيرت. أضحيت خارج المواسم. المواسم تمرّ ولا أتجدد. أضحيت خارج المواسم". تذهب الفكرة سريعًا وأرى رأسي يتحرّك مع موسيقىً لمسلسلٍ رأيت أنّي قد أصلح لأكون بطلة من بطلاته. 

كيف أتخيّل الندم؟

مرّة فكرت في الندم، وقلت لنفسي أنّه إحساسٌ يجلس على القلب، يصل الرئة فيستحيل دخول الأكسجين. بعدها، حاولت أن أرسم الندم، بأدوات طفلٍ يدخل حصّة الفنّ للمرة الأولى. وجدتني أرسم الندم على شكل شجرةٍ لا أغصان لها، في أرضٍ مليئةٍ بالأحجار. حكيت لأبي مرّة أنّ حقل الزيتون الذي تركه جدّي لنا في البلد مليءٌ بالأحجار الكبيرة، قال لي يومها: أنّ الوقت ضيّق وأنّ الأرض تحتاج لمن يتفرّغ لها. حينها عرفت أنّ الندم هو شجرة مقطوعة الأغصان في أرضٍ مليئة بالحصى والحجارة. 

ثمّ ابتسمت ابتسامة صفراء، وقلت لنفسي لماذا عليّ أن أرسم الندم بالذات وأنا أعيش في بلدٍ تقدّم كلّ شيء إلّا الفرص؟ مثلًا، لماذا سأندم وأنا فضائي محدودٌ بمسافة تبدأ من المنزل وتنتهي بالعمل، وبرحلةٍ من مدينة إلى مدينة قد يحكم مستوطنٌ عليها بالموت؟

ما هو شكل الندم فعلًا، سوى أنّه إحساسً يجلس على القلب؟ لو أردت أن أرسم الندم، أن أتخيل شكله، كيف سأراه؟ ثمّ أمشي وأفكّر في الزمن، وكيف أنّه يدور، كخطوط الرسمة العشوائية التي تعلّمناها في الصف الثالث. الندم هو الحزن على ما لن يأتِ.

أين أنا؟

تعلّمت الرسم في الصفّ الثالث، وأقنعتني المدرسة أنّ الله يُمسك العصاة، وأنّ القبر مليءٌ بالأفاعي. فخفت أن أرسم الله. لم أفلح في حصة الفنّ أبدًا، ثم أخذت الحصة تتآكل شيئًا فشيئاً كلّما تقدّمنا في الصفوف، فتتحول حصة الفن إلى حصة للرياضيات. ألهذا أكره الرياضيات؟ استيقظ صباحًا ولا أذكر من الجامعة غير الحصة التي أخذنا فيها مسخ كافكا، وأراني مسخًا يستيقظ كل يوم، بكسلٍ أكبر، لأذهب لوظيفةٍ أقنعني الجميع أنها مناسبة لي. 

أحاول أن أرسم نفسي: امرأة في الثلاثين، أدخلها الله في قلب أخطبوط. لون الأخطبوط أسود، وأذرعه في كلّ مكان. ثمّ أفكّر: هل الله أدخلني؟ ألست حرّة؟ أمزق الورقة وأغمض عينيّ لأرى نفسي في غرفةٍ مليئة بالمرايا، تفضي إلى ممراتٍ ضيّقة، كل ممر يتداخل مع الثاني في لحظاتٍ معيّنة. أنا جالسة على كرسيّ في وسط الغرفة. هنالك حبل يلف خاصرتي ويدايّ مطوقات للخلف. وأراني أغادر جسدي بشخصياتٍ متعددة وأدخل الممرات ولا أخرج. أحاول أن أخرج من الصورة التي رسمتها لنفسي. أحاول أن أكسر المرايا، أن أفتح عينيّ، وأفكّر بأنّي كنت نائمة، وأصرخ للنجدة، أصرخ لكنّ صوتي لا يغادر حلقي. 

كيف تتحول اللغة إلى صمت؟ مثلًا كيف أفكّر في فكرة ولا أستطيع كتابتها ولا أستطيع أن أحكيها؟  أفكّر أنّه بمقدوري أن أرسمها، فأتذكر أنّ أدواتي هي أدوات حصة الفن في الصف الثالث في المدرسة الحكومية.

تتحول اللغة إلى صمت. ينقطع التواصل. الكلمات لا تموت لأنها لم تخلق. 

حسنًا، إذا كنت سأرسم الأمل؟ ماذا سأفعل؟

شجرة مقطوعة الأغصان، في أرضٍ مليئة بالحجارة والحصى، إلى جانبها، بذرة جاءت بها الريح. ثمّ أقول لنفسي أنّ هذه الفكرة رومانسية جدًا وتصلح لنهاية فيلم، أو قصّة أطفال. أغمض عينيّ، وتداخل كلمات الأغاني التي أعرفها في رأسي.

كيف أرسم الأمل على قصاصة من الورق اختيرت بعناية؟ ورقة صفراء، قلم رصاص جديد، قشرته برتقالية، وعلى رأسه ممحاة. أمسك الورقة، أحاول أن أرسم. وأفكّر أنّ الأمل هو غيمة في وسط القصاصة، وعلى أعلى يسار الورقة، هناك شمسٌ صغيرة، أمّا أسفل الورقة فهناك أمواجٌ لبحرٍ. أو كوخٌ خشبي، على مدخله حديقة للأزهارـ وشجر تفّاح. أمزّق الورقة سريعًا، وأفكّر أن الأمل هو انتظار ما لم يأتِ.