مهرجان "البحر الأحمر"، أو "أغنية وحرب وعربات"

2021-12-09 02:00:00

مهرجان
Daniele Venturelli/Getty Images

العين هنا ليست رائية فقط، فالعين بما هي عضو الممارسة الثقافية والجمالية والاجتماعية وحتى الخطابية في ما يتعلق بمهرجانات السينما، هي عين سياسية بمعنى أنها تصدر ما تريده من صور وثقافات، وتسوق لها، هنا تظهر العين كممارسة أرشيفية.

مدخل

"من دون الضوء واللون، لا يدرك منظور بواسطة البصر وحده"، يخبرنا هنا الحسن بن الهيثم عن ثنائية أساسية لإدراك معنى النظر والمنظور، وهما الضوء واللون. والضوء واللون بكل سيميائيتهما الثقافية والاجتماعية والسياسية، يحضران بقوة في مسألة المهرجانات الثقافية، والمهرجانات السينمائية منها، وبالتحديد مهرجان "البحر الأحمر"، عنوانًا لهذه المادة، وهدفًا لها. فاللون هو الشاشة، بكل إغراءاتها، والضوء هو رمزية الإعلان والإيضاح والإشهار بكل مركزيته، لكن ما الذي ندركه في هذا المنظور المركب؟

تتشكل الهوية المعاصرة مابعد الحداثية، في زمن انهيار السرديات الكبرى، في جزء كبير منها بالإعلام والصورة. وعلى الرغم من كون "الفرجة السينمائية"، Film ،Spectatorship هي جزء أصيل من المخيلة الامبريالية إلا أنها ليست بالضرورة ارتكاسية، ولا يجب أن تكون كذلك.

لفهم هذه العلاقة والربط بينها وبين مهرجان "البحر الأحمر" السينمائي، ونقد الوجود الفلسطيني فيه، ومساءلته، وهو موضوع هذه المادة على قلة شأن هكذا مهرجان والجهة خلفه. علينا أن نبحث في التاريخ الثقافي للعين. وعلاقتها بأنماط الفرجة الحداثية ومابعد الحداثية، وهل يمكننا كفلسطينيين/فلسطينيات أن نؤسس لعصيان ابستيمي لهذه العين ومنتجاتها على مستوى المتخيل السينمائي؟ ومكون المتعة المباشرة فيه. ثم وبشكل براغماتي بحت: لم علينا أن نقاطع مهرجان "البحر الأحمر" ودبي، دون غيرهما؟

العين، مدخلٌ ثانٍ

"العين أقوى من الأذن" يقول هيراقليطس، ويصفها أفلاطون بأنها "أعظم الملكات البشرية". و"العين" هي براديغم الفلسفة، والمميّز بشأنها أنها لا تمارس النظر فقط، ولكنها تنظر إلى نفسها وتدركها أثناء النظر، جزء كبير من الفلسفة هو "ردّ فعل" بصريّ، "ديالكتيك" بصريّ، نظرة للذات وهي تنظرنا/تنظر إلينا.

وفي هذا الديالكتيك، والنظر إلينا منّا، تصبح المرآة تمثل متوالية بصرية ذاتية-ذاتية غير منتهية بل ومركزية تنبع من "كما نحن عليه"، وهنا لعبة الاستعارة في الخطاب الرسمي السعودي (والإماراتي والمصري) الحالي: "ما نحن عليه"، وما لتلك العبارة من عين استعارية.

 تلك القدرية التي تضع العين مركز إدراكنا لأنفسنا والعالم والحياة والموت، جاعلة من حكم العين عمّا تراه وجودًا أو عدمًا ضرورة للـ "تماثل الشغوف مع الحياة والموت". العين في هذه البنية التخيلية أداة لخلق الذات البدئية وتنويعاتها وتهويماتها، وصولًا للشغف بما تراه "العين" المركزية، وما تريد رؤيته.

فكانت تلك العين وسياسات النظر أعلاه هي الأساس في بناء المعرفة والحقيقة والواقع، فأنتجت أجسادها وخرائطها وخطوطها ومناظيرها ومنظوراتها (أول مساق تعلمي في كليات العمارة لأغراض السيطرة البصرية على المكان هو المنظور، بما هو إدراك فلسفي للعالم، وليس أداة رسم وتنظيم للمكان كمنظور، فقط). خلقت مركزية العين والنظر الثنائيات الحداثية التالية: النظر/المعرفة، النظر/الوجود، النظر/القوة (السيطرة) والنظر/الأخلاق، جاعلة من النظر سباقًا ومتجاوزًا للقيم الإنسانية المطلقة وحاكمًا عليها. يصف الفيلسوف الأمريكي دافيد مايكل لافين، العين، بأنها "الأكثر توحشًا وتسلطًا"، وأنّ "الرغبة في السيطرة والنزوع للتحكم في النظر قويّ: ففيه ميل للإمساك والتثبيت والتنميط والتعميم، ونزوع للحماية والرقابة".

العين هنا ليست رائية فقط، فالعين بما هي عضو الممارسة الثقافية والجمالية والاجتماعية وحتى الخطابية في ما يتعلق بمهرجانات السينما، هي عين سياسية بمعنى أنها تصدر ما تريده من صور وثقافات، وتسوق لها، هنا تظهر العين كممارسة أرشيفية.

(جدير بالذكر أن تتبع سياسات العين والصورة (الفرجة) لدى النظام المصري الحالي وإلغاء وطمس الذاكرة البصرية المتعلقة بثورة يناير 2011، وإحلال الأرشيف البصري لأحداث 2013، لا يختلف من حيث الهدف عن سياسات الإغراق البصري الفوتوغرافي لسعودية جديدة مغايرة لتلك ما قبل ولي العهد الشاب، تتحول فيها الصحراء إلى عنصر على نموذج دبي، كجزء من لوحة استشراقية).

بالعودة للهوية والفيلم بما هو منتج بصري بالأساس. لنا أن نقول أن نظريات الفيلم غالبًا ما تمحو سؤال ما نوع الفرجة، بالمعنى المرتبط بالعين كحاسة ثقافوية، والفرجة بمعناها السوسيولوجي، أي بما هي الفرجة كفضاء للدراسات الثقافية والاجتماعية، من النفسي الداخلي، Intrapsychic، إلى ما بين الأشخاص، Intersubjective، الجمعي. وعليه فإن موقع الفرجة الثقافي، إنما ينبع من تعددية وتراكبية مواقع تلقي الفيلم، ومن الفجوات الزمنية بين زمنية الفيلم، وزمنية السياق، وكذلك تموضعات الصراع الفردي والجماعي للمشاهد. فالوضع الكولونيالي مثلًا الذي ارتاد فيه الأفارقة والآسيويون المستعمَرون مسارح مملوكة لأوروبيين، شجعت نوعًا من الفصام المرتبط بالفرجة، أو لنقل اضطراب عدم الاتزان عند الشخص المستعمَر.

نظرية الفيلم ونوع الفرجة هنا لا يتطرقان بالتحليل إلى موقعية، Positionality، التلقي من حيث أن التلقي الفيلمي والسينمائي، يتم في سياق اجتماعي وسياسي، تأثر بانهيار السرديات الكبرى، وهو ما جعل إدوارد سعيد وفرانز فانون والمخرج الأمريكي من أصول إثيوبية هايل جريما، يتنبهون لأثر شخصية طرزان مثلًا، وهو ما لم يكن ليتم من دون انهيار سرديات كبرى، ساهم موقع الفلسطيني والمارتينيكي والإثيوبي في مراكمتها، وهنا نتساءل في أي سياق يتلقى الفنان/ة الفلسطيني/ة مهرجان رام الله دون أن يكون جزءًا من تعطيل معناه الذاتي الفلسطيني؟

المهرجانات، مدخل ثالث

 في مطلع قصيدة "لقالق أيبيكوس" (1797)، The Cranes of Ibycus، لفريدريش شيللر، الشهيرة، ذات البريق الدرامي الأخّاذ، مجسدةً عبقرية الشاعر في تعليم الناس والدعوة إلى العدالة من خلال الفن الجميل، وإدانة العنف، والدعوة للتآلف بين البشر، والتي كتبها كرد فعل على موجة العنف التي أطلقت في أعقاب الثورة الفرنسية، وأوقعت الكثيرين تحت حد المقصلة، في ذلك المطلع ترد عبارة تقول: "أغنية وحرب عربات"، وهنا نستعيرها كمجاز أساسي لفهم مهرجان "البحر الأحمر".

لعل تلك العبارة وتلك القصيدة وسياقاهما هما الأقرب في فهم حالة مهرجان "البحر الأحمر"، والدعوة للوقوف ضده وضد من يقف خلفه. إذ ثمة "حرب عربات" في خلفية هذا المهرجان، لا "أغنية" لها، تجري في اليمن، الذي كان سعيدًا، وتمتد منه لكل "البحر الأحمر"، إلى فلسطين، بالمعنى الجيو سياسي والجيو استراتيجي، والأهم بالمعنى الخطابي أيضًا!

يدفعنا هذا للبحث في تاريخ العلاقة بين الفن والسياسة من خلال العلاقة بين الدولة والمهرجانات.

يقول إريك هوبزباوم إن "المهرجانات معولمة اليوم بالقدر نفسه لعولمة بطولات كرة القدم" (لنا هنا ولو على عجالة الإضاءة على كتابات نعوم تشومسكي عن رأسمالية كرة القدم، وكريستوف فيرارو عن إمبرياليتها) ، فهي مورد اقتصادي هام للدولة الحديثة، ولكن بوضعنا العامل الاقتصادي جانبًا في تأمل تلك المهرجانات وعلاقتها بالدولة الحديثة، لنا أن نستعير أداة بديلة عن الاقتصاد للتحليل، وتلك هي الجغرافيا وتحليل الخطاب.

إن اتخاذ هذا النهج لفهم السياسة الثقافية في ما يتعلق بالمهرجانات في مرحلة الرأسمالية المتأخرة، يكشف لنا موقعها كأداة هيمنة حداثية على مستوى المكان بشكله المادي والرمزي. ينبهنا هوبزباوم إلى مواقع المهرجانات الحديثة، من "أنها تقع أساسًا خارج المراكز الفعلية لنتاج الثقافة، أي المدن وعواصم البلدان"، إلا أنها لا تنفصل عن فكرة الدولة وخطابها، لا من ناحية مركزية المدينة العاصمة، لكن من حيث مركزية الخطاب المتعلق بالمخيال الجمعي لتلك المدينة غير العاصمة، وخلق زمنية جامعة مخيالية دولانية. "ذلك أن المبادرات الثقافية والمهرجانات منها خصوصًا تتطلب روحًا مجتمعية معينة، لا تعني مجرد إدراك المصالح والمشاعر المشتركة، بل تنبع من التعبير الذاتي الجمعي لعامة الجمهور... ذلك أن الاستمتاع بالفن ليس خبرة خاصة خالصة، بل خبرة اجتماعية وخبرة سياسية"، وهنا يأتي دور المخيال الجمعي المنبني بالخطاب (وليس عليه)، ودور الإستعارة في تأسيسه ومركزته.

هنا لنا أن نشير لأرسطو في كتابه عن الشعر ومقولته أن الاستعارة تستلزم تغيرًا في المكان. في هذه المرحلة تندمج الجغرافيا بتحليل الخطاب، وتصبح استعارة "البحر الأحمر" هي الأغنية لحرب عربات، نحن ميدانها؛ إذ تحضر الخريطة الجيوسياسية للبحر الأحمر في ما يتعلق بمهرجان "البحر الأحمر". ففيها أكثر من نقطة هامة، ليست فقط مقتصرة على موقع المهرجان، إنما بالنظر إلى البحر الأحمر باعتباره ممرًا استراتيجيًا تكاد إسرائيل تتحكم فيه بشكلٍ كامل من خلال وكلائها ومنهم السعوديون. بدءًا باليمن، ودور الإمارات والسعودية فيه، والحرب والسيطرة على الجغرافيا البحرية والبرية هناك، ثم في السودان ودعمها للانقلاب العسكري ومدّ جسور التطبيع للسيطرة على تهريب السلاح الذي كان يصل إلى حركات المقاومة الغزية، وثم النظام العسكري المصري الذي منح جزيرتيه هدية للنظام السعودي لخلق حالة حدود جغرافية وبحرية بين السعودية وإسرائيل، تجعل من مشروع "نيوم" شراكة بالمعنى الرسمي بين تلك الكيانات الثلاثة، وبالمعنى المتواتر في الاقتصاد اليومي لخطط التنمية الرسمية في تلك الدول (على فشلها).

يقفز السؤال هنا عن دور الفنانين والفنانات والعاملين والعاملات الفلسطينيين والفلسطينيات، في السينما في كل هذا، وهل من المنطق أن نحاسبهم/ن على كل هذه التفاصيل السياسية والجيوسياسية؟ لا أظن، لكننا لا نستطيع الفصل بين "البحر الأحمر" كاستعارة جمالية وفنية، وسياسات الهيمنة فيها، وموقع إسرائيل من كل ذلك، حينها يتحول سؤال الجمالية ونظرية الفيلم إلى جزء سياسي علينا أن نعي دورنا فيه، وإلا اقتصر عمل هؤلاء على كونهم أدوات متعة. 

براغماتيًا

ما الفرق بين "البحر الأحمر" ومهرجان دبي ومهرجانات القاهرة والجونة وعمّان ومهرجانات أوروبا وأميركا كسندانس وكان وبرلين وغيرهم، طالما أنها جميعها تقف خلفها أنظمة دولانية ارتبطت باتفاقيات طبيعية مع إسرائيل؟

سؤال يبدو في ظاهره وجيهًا في ما يتعلق بأداة المقارنة، لكن هذه المقارنة لا تطرح ضمن سياق خطابي، حداثي يتعامل مع الدولة باعتبارها فوق تاريخية، ويسرق من الفرد والجماعة الحق في تقرير المصير، لأسباب تتعلق بمركزية الدولة والاقتصاد والسياسة على حساب طرفية الفرد والخيار الحر، وهي لعبة أساسية متكررة في كل خطابات مواجهة التطبيع والدعوة للمقاطعة، إذ لا يقدم بديلًا عن مقاطعة المهرجان. 

علينا أن نثير النقاط التالية، محاولين طرح العلاقة النقدية من داخل كل تلك المؤسسات والفضاءات:

- لا يخفى على أحد حجم المال الخليجي في الإعلام العربي والإنتاج، سواءً المتلفز (القنوات الفضائية) أو السينمائي، بشكلها الإنتاجي أو منصات الأفلام ("شاهد" وغيرها)، وهذا الأمر هو ما تغفله أي مقارنة بين مهرجانات الخليج ومهرجانات مصر وبلاد الشام والأردن، ودور المقاطعة هنا. 

- النقطة السابقة لا تنفي ولا تنزع عن الأنظمة الرسمية والخاصة الداعمة للمهرجانات في مصر (القاهرة والجونة) والأردن (عمان السينمائي)، إلا أنها لازمة للنظر في موقف المؤسسات السينمائية من نظيراتها الإسرائيلية، ولنا هنا أن نشير إلى تعاقدات سينمائية إسرائيلية إماراتية سابقة وسعودية لاحقة (على غرار التعاقدات بين هيئة ميناء دبي وهيئة ميناء حيفا). في المقابل لا يمكننا أن نتخيل "الهيئة الملكية للأفلام" (وهي الجهة الوحيدة في الأردن المسؤولة عن السينما) تطرح شكلًا مشابهًا من التعاقدات، برغم اتفاقية وادي عربة في التسعينيات. ونؤكد أن هذا الرفض لهذه الاحتمالية مرده ليس الدولة وخطابها الرسمي، إنما الحاضنة الاجتماعية الفنية. والأمر في مصر لا يختلف كثيرًا، صحيح أن النظام العسكري المصري جعل من فلسطين والقضية الفلسطينية أشكالًا خطابية عدائية ضد الدولة، إلا أن الموقف الاجتماعي الشعبي لا تزال فلسطين بالنسبة له عتبة أكبر من أن تلغيها الدولة، ولأسباب بنيوية ودبلوماسية تترك الدولة المصرية تلك المساحات للتنفيس وتعديل الخطاب الرسمي كما حدث في الاعتداء الأخير على قطاع غزة. والأمر معكوس في ما يتعلق بالسعودية والإمارات والبحرين، والتي نشهد فيها ضخًا اجتماعيًا لمواقف تدشن الوجود الإسرائيلي على المستوى الشعبي باعتبارها الدولة الصديقة والمجتمع المحب للسلام والتعايش. هل يمكننا تخيل أي سينمائي أو سينمائية من ضيوف مهرجان البحر الأحمر ضيف أمسية حوارية معلنة لجماعة "سعوديون ضد التطبيع مثلًا"؟

- النظرة المقارنة التدريجية بين مهرجانات الأفلام وحاضنتها الدولانية والاجتماعية بين الخليج (السعودية والإمارات والبحرين) ومصر والأردن، تؤسس لخط يمكننا مدُّه على استقامته إلى أوروبا، ومهرجاناتها. فالأمر في أوروبا مختلف قليلًا، صحيح أن الدول الأوروبية ترتبط بشكل رسمي باتفاقيات طبيعية وتسليح وديبلوماسية مع إسرائيل، إلا أنها دول ذات مؤسسات تمثيلية، يمكن للخيارات الفردية والاجتماعية والجمعية أن تجد لها موقعًا تفاوضيًا مراكمًا داخل مؤسسات الدولة والمجتمع. فنسمع عن دولة أوروبية يقرر فيها اتحاد الجامعات بشكل رسمي مقاطعة الجامعات الإسرائيلية، أو اتحاد العمال في أخرى يعلن تبنيه لمعايير حركة المقاطعة، وغير ذلك. ليس الأمر مديحًا في مؤسسات الدولة الحديثة، ووسائل الهيمنة، إنما في مساحات التفاوض العام داخل النظام السياسي والاجتماعي. وبمنطق براغماتي بحث: أين يمكن للادعاء القائل إن من ينادي بمقاطعة مهرجان "البحر الأحمر" عليه أيضًا أن يقاطع مهرجان دبلن أو برلين أو غيرها من المهرجانات الأوروبية، أن يوصلنا؟ ألا يذكرنا هذا بكل الخطابات المضادة للمقاطعة حين أسست لعدمية فلسطينية باعتبارنا إما أن نقاطع العالم كله أو لا نقاطع أي شيء؟! بمعنى آخر: إما أن تقبل بكل هذا القمع، أو أن تخرج خارج حدود عالمنا وسينماتنا ومنحنا ودولنا و… و… و… .