كما أن عتاب لن تعود، وهي التي توفيت في مصر بعيدة عن أرضها لمجرد أنها امتلكت صوتًا جميلًا، كي تشارك بمهرجانات السينما والطرب في بلدها، فهناك أخطاء كبيرة لا يمكن إصلاحها بالسجادة الحمراء.
أتذكر في طفولتي كنا نسمع أغاني المطربة السمراء عتاب، ويُقال لنا إن جنسيتها سعودية لكنها طردت خارج البلاد، بسبب مهنتها وكونها لا ترتدي الحجاب، كنا أطفالًا لا نفهم معنى أن عتاب متمردة، أو تريد أن تكون ذاتها بعيدًا عن أي سلطة دينية وذكورية، وكنا نغني معها كلمات أغنيتها الشهيرة "جاني الأسمر جاني.." فلم تكن السعودية وقتها تعني الصوابية الدينية، كما حدث في وقت ما نهاية التسعينات، وبداية الألفية.
هذه الأيام تذكرت عتاب حين رأيت صور مهرجان "البحر الأحمر" للسينما في السعودية، هل كانت ستصدق عتاب اليوم أن بلدها الذي طردها قبل عشرين عامًا يجمع كل هؤلاء النسوة "السافرات" على سجادته؟ أو كما قالت إلهام شاهين من على أرضه "اعتدت أن آتي للحج والعمرة، وأول مرة آجي مهرجان سينما"، ربما ليس المطلوب من الفنانين اتخاذ مواقف مبدئية اتجاه بلدان فاشية تقتل وتقطع صحافيًا في سفارتها، وربما نحن اعتدنا على أن الفنان العربي مؤدٍّ فقط.
وكأن مهرجان "البحر الأحمر" يمحو ما قبله مما فعلته هذه الدولة بحق الناشطين والعاملين في حقوق الإنسان والمرأة، فبينما تستعرض النجمات فساتينهن على السطح، يوجد تحت الأرض مئات المعتقلات والمعتقلين الذين لا يعرف أحد مصيرهم/ن، وبين الحين والآخر يعلن موت أحدهم.
من الواضح أن السعودية تصلح على السجادة الحمراء ما أفسدته في السياسة وحقوق الإنسان، ففي الوقت الذي تدخل فيه الدولة مشاريع تطبيعية، نجدها تكفّر عن ذنوبها بطرق أخرى بل تصر على ذلك إذا ما رأينا كمية الأفلام الفلسطينية التي تعرضها في المهرجان، والممثلين والممثلات الفلسطينيين الذين استقبلتهم، وأخيرًا وقف عرض فيلم "أميرة" بناء على طلب منتجيه الذي أثار غضب الشعب الفلسطيني، لكن هل هذا كافٍ؟
يستمر إعلان مهرجان "البحر الأحمر": أمواج التغيير، بالظهور على شاشة قنوات "أم بي سي"، وكأن التغيير يظهر فجأة، فكل هذه الحالة السينمائية في المهرجان تنظمها السعودية، لكن أغلب زائريها وأفلامها عربية أو أجنبية بالأساس، أو نماذج سعودية عالمية مثل هيفاء المنصور مخرجة فيلم "وجدة" لكن حتى هذه النماذج لم تفكر السعودية يومًا في دعمها بل حاربتها في كتبها وخطبها ونموذجها الوهابي الذي كان من الصعب حتى أن يتقبل مسلسل "طاش ما طاش"، قبل أن يقضى عليه ولي العهد، ويقدم وجهًا آخر أكثر تقدمية أنتج لنا مرة واحدة مسلسلات منفتحة مثل "فتيات الملاكمة"، لكنه لم يستطع فعل ذلك مع الأسف داخل مخابراته وسفاراته، ففي الوقت الذي سُمح فيه للنساء بقيادة السيارات، ونظمت أهم مسابقات الملاكمة، وفتحت صالات السينما كان يلاحق الناشطين في كندا وواشنطن... وأصبحت السفارات مقاصل جاهزة كما حدث في إسطنبول قبل ثلاثة أعوام.
كيف يمكن لمستعمرة العقوبات التي اخترعها كافكا في روايته بكابوسيته المعهودة أن تتحول إلى بهرجة مهرجان وفساتين وأجساد ووجوه جميلة؟ كيف يمكن أن يبنى ذلك على كل ذلك الدم؟
يقول صديقي الذي يعرض فيلمه هناك وكان يبدو متضايقًا لانتقادي المهرجان خلال محادثتنا، وأصر، إنّ الأمر ليس كما أتصور بل المهرجان جيد وداعم لفلسطين، ولا يوجد أي تطبيع أو أي إسرائيلي. أحيانًا أبدو متطرفة بل معظم الوقت ولذلك لا تليق بي أي سجادة حمراء أو أي مائدة على عظام المظلومين، فسرعان ما أخلق فضيحة إذا لم يكن لحظتها سيكون فيما بعد خلال كتابتي.
لذلك كان من الطبيعي أن يقلل صديقي من محادثاتنا عن المهرجان، وسيحدث هذا على الدوام معي ومع أقرب الناس حين نفصل السياسة عن السينما عن الحياة الاجتماعية عن حقوق الإنسان... لا أنكر أن هناك محاولات سعودية للحاق بالعالم لكن من العدالة أن يكون ذلك على جميع الأصعدة وليس في مجالي الرياضة والسينما فقط. أعرف أن هنالك مئات السعوديين المعارضين مشتتين خارج بلادهم وعائلاتهم ممنوعة من السفر خارج السعودية فلم يلتقوا لسنين طويلة. ألا يجب أن نرى الصورة بجميع زواياها؟.
ربما يكون مهرجان أولَّ كل شيء، أول مهرجان سينما في السعودية، أول نساء على سجادة حمراء، أول نساء بفساتين سهرة، أول عروض للأفلام. ويحق للشعوب المحرومة من السينما في السعودية أن يغرفوا من جوعهم للسينما ما أرادوا، وأن يرتادوا صالات السينما وقتما رغبوا، ليستحقوا إرثًا من نوع جديد بعد أن كانوا يسافرون بلدانًا أخرى كي يستمتعوا بها. لكن كيف سنعرف رأي الشعب السعودي إذا كان كثيرٌ منه في السجون أو مقموع ليعبر عن هذا التغيير؟
كما أن عتاب لن تعود، وهي التي توفيت في مصر بعيدة عن أرضها لمجرد أنها امتلكت صوتًا جميلًا، كي تشارك بمهرجانات السينما والطرب في بلدها، فهناك أخطاء كبيرة لا يمكن إصلاحها بالسجادة الحمراء.