أناهيد الحردان: ارتكزت دراستي على الروايات الشفهية المشكّلة للذاكرة الجمعية

2021-12-14 11:00:00

أناهيد الحردان: ارتكزت دراستي على الروايات الشفهية المشكّلة للذاكرة الجمعية

لا يمكن لدولة إسرائيل كدولة قائمة على الفصل والعزل العنصري القمعي أن تستمر في الوجود في شكلها الحالي، محكوم عليها ذات يوم بالتحول إلى دولة لجميع مواطنيها من النهر إلى البحر. ومع ذلك، فإذا ما كان اللاجئين الفلسطينيين من جميع أنحاء العالم مستعدين أو قادرين على العودة والمطالبة بحقوقهم فهذا أمر آخر.

في آب / أغسطس عام 2020 صدر عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت كتاب "الفلسطينيون في سوريّة، ذكريات نكبةِ مجتمعاتٍ ممزقة" لأستاذة علم الاجتماع المساعدة في الجامعة الأمريكية في بيروت، أناهيد الحردان، وبترجمة للروائي الراحل محمد الأسعد. وقد حاز كتابها الصادر بالإنجليزية على جائزة الكتاب الأكاديمي مناصفة عام 2016، وهي إحدى جوائز جمعية كتاب فلسطين في لندن. حول هذا الكتاب وتجربتها في سورية أثناء إجرائها البحث عام 2008، كان لنا هذا الحوار المطوّل.

في البداية حدثينا عن البحث، كيف بدأ من كونه فكرة إلى أن صار كتابًا بأكثر من لغة؟

مشروع البحث الذي يشكل أساس كتابي بدأ كأطروحة دكتوراه في علم الاجتماع في جامعة دبلن. حينها انتقلت إلى لندن لبداية دراساتي العليا في ظل اندلاع انتفاضة الأقصى وأحداث 11 أيلول / سبتمبر وغزو كل من أفغانستان والعراق. كانت هذه الأحداث مهمة جدًا لتشكيل وعيّ السياسي، في الوقت الذي كنت أعيش فيه في أوروبا لأول مرة، وكان عليَّ أن أتعلم كيفية التعامل مع تصريحات مثل "لا يمكنك أن تكوني فلسطينيةً لعدم وجود دولة فلسطين". ما أصبح واضحًا بالنسبة لي أن فهم الأحداث الجارية في ذلك الوقت لم يكن ممكنًا دون إدراك الطريقة التي تعمل بها الإمبريالية والاستعمار في العالم العربي، وأن الأمر الأساسي لكليهما كان استعمار فلسطين في عام ١٩٤٨.

هذا من حيث المسار السياسي والفكري الذي قادني إلى بداية كتابي في شكل أطروحة دكتوراه عن ذكريات نكبة فلسطين.

في الوقت نفسه، وبما أنني لاجئةً فلسطينية من الجيل الثالث، نشأتُ بين سبع دول مختلفة بعد غزو الكويت عام ١٩٩٠ بسبب حملنا لوثائق اللاجئين الفلسطينيين من العراق، مكان لجوء أهلي عام ١٩٤٨. بداية دراستي في لندن صادفت أيضًا قراءة وترجمة رواية والدي الراحل محمد الأسعد الأولى "أطفال الندى" التي تدور حول ذكريات جدتي والقرويين عن قرية أم الزينات في جبل الكرمل في فلسطين.

لذلك كان البحث حول ذكريات النكبة في أطروحة الدكتوراه مسعًا سياسيًا وبذات الوقت شخصيًا. بدأت في مشروع البحث كوني مهتمة باستعمار فلسطين عام ١٩٤٨، والآثار المستمرة لهذا الواقع في العالم العربي. في الوقت نفسه، كنت مهتمةً أيضًا بكيفية استمرارنا نحن الجيل الثالث والآن الرابع من اللاجئين الفلسطينيين المولودين خارج فلسطين في "تذكر" قرى ومدن أهلنا، والأماكن التي لم نعش فيها بالطبع، والتي لا تزال تحدد تجاربنا بسبب حرماننا من الانتماء إلى وطن. من هنا جاءت فكرة استكشاف ذكريات الجيل الثالث من اللاجئين الفلسطينيين عن النكبة وفي سورية.

اهتمامي بسورية في ذلك الوقت جاء بسبب واقع اندماج مجتمع اللاجئين الفلسطينيين اجتماعيًا واقتصاديًا، ولم تتم إنجاز دراسة مركزة عنه وتجربته لم تكن قائمة على الحرب والنزوح المتكرر. بعدما وصلت إلى دمشق، اتضح لي أن المقابلات مع الجيل الثالث وحده لن تعطيني فهمًا كاملًا للذاكرة الجمعية. فانتهى الأمر بإجراء مقابلات مع ثلاثة أجيال من اللاجئين الفلسطينيين، غالبًا من نفس العائلة، ونشطاء اجتماعيين وسياسيين، وموظفين في وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين والهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب. على الرغم من أن أطروحتي كانت عن الجيل الثالث فقط، إلا أنني وسعتها لاحقًا في كتابي خلال فترة زمالة ما بعد الدكتوراه في برلين ليشمل ذاكرة النكبة في المجتمع الفلسطيني في سورية، بالإضافة إلى الخطابات العربية والفلسطينية حول النكبة منذ عام ١٩٤٨.

ترجمة كتابي إلى اللغة العربية كان دائمًا أمرًا بديهيًا ولا بد منه واحتفظت بحقوق اللغة العربية منذ البداية. أجريت البحث باللغة العربية، وآمنتُ أن البحث ملكًا لكل من جعله ممكنًا، وكنتُ دائمًا أعتزم العودة إلى دمشق لأشارك نتائج البحث مع الذين شاركوا فيه وجعلوه ممكنًا. لقد تعاونت في ترجمة كتابي مع والدي ليس فقط بسبب خبرته التي امتدت على خمسين عامًا في الشعر والادب والنقد والبحث والترجمة، وكذلك بسبب علاقتنا الشخصية، خصوصًا لأن الترجمة تضمنت العودة إلى مئات الساعات من تسجيل المقابلات، وكتابتها مباشرة من العامية. الترجمة العربية للكتاب كان عملًا مشتركًا: سواء من خلال تأثير كتابات وتجارب والدي، ولا سيما كتاباته عن تجاربنا كما في "أطفال الندى" و"نص اللاجئ"، وأيضًا لأننا جلسنا معًا وناقشنا كل تسجيل وحتى كل جملة ونقطة في الكتاب أثناء هذا العمل المشترك.

لا بد أنك واجهت العديد من التحديات أثناء إقامتك في مخيم اليرموك وخلال إجراء المقابلات مع اللاجئين، ما هي أبرز هذه التحديات أو الصعوبات التي واجهتك في هذه الفترة؟

ذاكرتي عن الفترة التي تم إجراء الجزء الأكبر من البحث فيها في عام ٢٠٠٨ متأثرة بالتدمير الذي بدأ في عام ٢٠١١ والذي شهدته عن بعد. وبسبب الحرب لم أتمكن من العودة إلى سورية. ومع ذلك، إذا أردت تحديد صعوبة معينة وبعد أكثر من عقد على مرور الزمن من وجودي في دمشق، كان التحدي الأكبر يتعلق بفهم الناس بما يشكل الذاكرة. كان مفهوم الذاكرة غالبًا منحصرًا بتلك التي تدور في المجال العام والمروية من قبل الرجال والشخصيات المثقفة والوطنية، بينما كنت مهتمةً بالحديث مع الجميع وفي تفاصيل اليوميات المعتادة للحياة في فلسطين ولاحقًا في سورية، بغض النظر عن المستوى التعليمي وجنس الراوي وما إلى ذلك. التحدي الأكبر كان تجاوز هذه التصورات لما يشكل ذاكرة تستحق التسجيل من قبل الباحثة، والتحدث مع جميع انواع الناس من خلفيات تعليمية مختلفة والإصرار على أهمية تسجيل جميع أنواع الذكريات. لم أقم بإعادة بناء تاريخ النكبة القائم على الذاكرة الشفهية، فقد كنت مهتمةً بكيفية تذكر الناس لأماكن وأحداث معينة ولماذا تذكروها وصلتها بذكريات متداولة في مجتمع أكبر. هذا المفهوم للذكريات وللروايات عن الذكرى و"للذكريات التابعة"، أي ذكريات جيل ما بعد فلسطين، حدد نهج الكتاب للذاكرة الفلسطينية في سورية.

ذكرتِ في بداية الكتاب أن الغاية منه أو موضوعه يتمثل في القوى الكامنة في الذكريات المشتركة التي أنتجتها التجارب التاريخية لمختلف الفلسطينين، أو بمعنى أدق نكبة عام ١٩٤٨ وليس الأحداث الجارية حاليًا. السؤال الذي يمكننا طرحه: لماذا تأخر توثيق هذه الحكايات للمجتمعات الفلسطينية المهجرة؟ ولماذا لم تكن في بال الباحثين والأكاديميين منذ زمن طويل؟

لا أعتقد أن توثيق هذه الذكريات تأخر. على سبيل المثال، هناك دراسة مهمة قام بها نافذ نزال بناءً على مقابلات مع لاجئين فلسطينيين في سورية ولبنان في السبعينيات حول ذكرياتهم عن النكبة في الجليل. نعلم عن هذه الدراسة بعد أن تم نشرها من قبل مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ونحن بالطبع لا نعرف أي شيء عن الدراسات أو أعمال التوثيق التي لم تنشر. من الواضح أن محاولات التوثيق كانت موجودة، لكن في المقابل، الإرادة السياسية لإعطاء أهمية لهذه الذكريات وروايات اللاجئين الفلسطينيين لم تكن موجودة. اهتم معظم المؤرخين والمفكرين الفلسطينيين ومؤسساتهم مثل مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالروايات الكبرى للقادة السياسيين وأعيان المدن. وبعد تأسيس مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية ومجلتهم "شؤون فلسطينية"، أصبح الاهتمام الأكبر بالفصائل الفلسطينية المسلحة وتأثيرها على المخيمات الفلسطينية.

ماذا يمكننا أن نفعل اليوم لنستذكر ما تبقى من هذه المرويات؟

إذا كان مفهومنا للذاكرة قائم على ذكريات الأشخاص الذين عاشوا النكبة، أي جيل فلسطين، يمكننا اليوم فقط العمل مع تسجيلات التاريخ الشفهي المتوفرة على PalestineRemebered.com أو أرشيف التاريخ الشفهي الفلسطيني الذي تم تأسيسه في الجامعة الأمريكية في بيروت على سبيل المثال. تسمح لنا هذه المصادر بإعادة النظر في ذكريات عام ١٩٤٨ كروايات شفهية، وكما رواها جيل فلسطين. أما إذا كان مفهومنا للذاكرة قائم على التأثير المستمر لذكريات جيل فلسطين على اللاجئين الفلسطينيين من الجيل الثاني والثالث والآن الرابع، فبالتأكيد هناك مجال كبير لمواصلة البحث في هذا المجال ومحاولة فهم كيف يستمر تداول هذه الذكريات بشكل "الذاكرة التابعة" والروايات عن الذاكرة بعد أن رحل الأغلبية من جيل فلسطين اليوم.

عند الحديث عن مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين، عادة ما يتم الإشارة إلى اللاجئين في الدول المجاورة لفلسطين، وبرغم وحدة الأسباب التي أدت إلى ظروف لجوئهم، إلا أن واقع الحياة وظروفها تختلف من بلدٍ لآخر. إلى أي مدى لاحظت أن هناك تشابه في السردية أو الحكاية وتماثلها بين هذه المجتمعات الفلسطينية؟ وهل يمكننا القول إن تغير أو تحسن الظروف للجيل القادم قد يؤثر على تمسكهم بمعرفة وإبقاء ذكرى النكبة حيّة للجيل التالي؟

أعتقد أننا بحاجة إلى تحديد الجيل الذي نتحدث عنه، قبل أن نبدأ في هذه المقارنات. على سبيل المثال، وكما أوضحت في الكتاب، هناك ذكريات وروايات مشتركة ضمن جيل فلسطين، بغض النظر عن البلد الذي لجأ إليه، لأن هناك قواسمًا مشتركة في العيش في والاقتلاع من فلسطين عام ١٩٤٨. وهذه القواسم تتجسد في الذاكرة المشتركة لهذا الجيل وفهم جيل فلسطين "كجماعة ذاكرة" أو جماعات تعبر عن معالمها الرمزية بذكريات مشتركة وفقدان مشترك على الرغم من دمار عام ١٩٤٨ لمجتمعهم في فلسطين.

إذا انتقلنا عبر الأجيال، فهناك اختلافات مهمة تنبع من تجارب مختلفة. لم أقم ببحث بين جميع مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين حتى أتمكن من التوصل إلى استنتاجات قاطعة. لكن يمكنني القول قبل الحرب في سورية لم تكن ذكريات جيل ما بعد أوسلو عن مدنهم وقراهم في فلسطين تأتي من حاضر متميّز بالحروب والاقتلاع المتكرر كما هو الحال لمن نشأ خلال الحرب الأهلية في لبنان مثلًا. إذا فهمنا الذاكرة كسيرورة اجتماعية نابعة من واقع التجارب الاجتماعية للفرد كجزء من جماعته - كما هي بالتأكيد - فإن هذه التجارب المختلفة لها بلا شك تأثير على أجيال فلسطين التالية التي عايشت حقيقة وضعهم كلاجئين في بلدان عربية مختلفة بعد ١٩٤٨.

صدر الكتاب باللغة الانجليزية ولجهة أوروبية في البداية، حدثينا عن ردود الفعل تجاه الحقائق الواردة في الكتاب؟

الكتاب هو كتاب أكاديمي، وللعالم الأكاديمي والبحثي، وهناك ملاحظة أنه منذ بدأ من يُطلق عليهم المؤرخين الإسرائيليين "الجدد" الذين بحثوا في وثائق الحكومة الإسرائيلية التي رفعت عنها السرية مؤخرًا في الثمانينيات، أصبح هناك وعي عام مما ترتبت عليه النكبة من اقتلاع غالبية أهل فلسطين وتدمير فلسطين العربية في الأراضي التي احتلتها الحركة الصهيونية، لكن هذا لا يعني أن هناك قبول للتداعيات الأخلاقية لهذا البحث، كالإصرار على حق العودة. وإذا كان الخطاب الأكاديمي الناطق باللغة الإنجليزية أكثر قابلية إلى مناقشة ما جرى في فلسطين في عام ١٩٤٨ باعتباره نكبة، فهذا بالطبع لا يُترجم إلى الخطاب السياسي الرسمي في أوروبا وأمريكا الشمالية، والذي لا يزال صهيونيًا وبشدة.

وردت في مقدمة الكتاب عبارة "إلاّ أن المؤكد هو أن المجتمعات التي أكتب عنها، والتي درست ذكرياتها، هي جزء من سورية التي لم يعد لها وجود الآن"، كيف انعكس هذا الواقع عليكِ من حيث قيامك بإنقاذ ذكريات نكبة قديمة خلال حدوث نكبة أخرى في سورية؟

لم تكن دراستي تتعلق بإنقاذ ذكريات النكبة، ما حاولت القيام به هو تسجيل كيف ولماذا تتذكر الناس عام ١٩٤٨ بالطريقة التي فعلتها ولماذا. بهذا المعنى، فإن كتابي لا يشكل تاريخًا شفهيًا ولا يسعى إلى إعادة بناء تاريخ النكبة، وعلى الرغم من أنه يفعل ذلك بالطبع في حالات معينة بسبب طبيعة الذكريات التي قمت بتسجيلها. الكتاب محاولة لفهم كيف يتداول المجتمع ذكريات مشتركة، ولماذا؟ وما يخبرنا هذا عن السيرورة الاجتماعية للذاكرة والتذكر، وكيف يؤثّر الحاضر الذي نتذكر منه على الذاكرة. بسبب هذه الأسئلة الأساسية للكتاب وثقت أحداث النكبة التي لم يتم الكتابة عنها من قبل، مثل مذابح في قرى معينة أو أول شتاءٍ قاسٍ في الجولان وموت العديد من اللاجئين الفلسطينيين من البرد والجوع والمرض.

وبسبب ما لحق بسورية بعد ٢٠١١، وعلى الرغم من أنه الكتاب لم يقصد ذلك، أصبح الكتاب أيضًا تأريخًا يوثق طبيعة حياة مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في دمشق الذي لم يعد موجودًا، لا سيما في مخيم اليرموك وحوله.

يتناول أحد فصول الكتاب حركة حق العودة وذكريات من أجل العودة، ومن ضمن ما هو وارد فيه، قيام عدد من النشطاء بتسجيل التواريخ الشفهية لجيل النكبة، من ضمنها مجموعة "عائدون" ولجان "واجب"، وهو نشاط بالغ الأهمية لتدوين هذه الذاكرة بمجهود شعبي، لماذا باعتقادك لم تمتد هذه النشاطات لتشمل كافة اللاجئين الفلسطينيين حول العالم ممن شهدوا النكبة والأجيال اللاحقة؟

قد تم تنفيذ العديد من المبادرات المتفرقة لتسجيل التاريخ الشفهي لجيل فلسطين. لقد ذكرت بعضها أعلاه، وهناك أيضا مبادرات مهمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. لم أقرأ عن مبادرات سجلت ذكريات أو روايات الجيل الثاني أو الثالث، وهذا ليس مفاجئًا، فالمفهوم السائد للذاكرة هو بمعناها المرجعي الصارم، وبالتالي فإن الجيل الثاني والثالث لا يملكان شيئًا يتعلق بذاكرة فلسطين. من حيث سبب عدم وجود هذه المبادرات في كل مكان، وبشكل مكثف أكثر، أعتقد أن هناك سببين رئيسيين: أولًا، مسألة الموارد، وحقيقة أن تسجيل التاريخ الشفهي يحتاج إلى مهنيين مدربين لديهم إمكانية الوصول إلى الموارد من أجل القيام بمثل هذا المسعى على نطاق واسع. وثانيًا، لأننا كفلسطينيين أصبحنا مهتمين بذكريات النكبة بعد اتفاقيات أوسلو، أي من فترة زمنية قصيرة، وبسبب تهميش قضية اللاجئين والعودة.

لاحظنا في الكتاب أهمية القصص التي ترويها الجدّات، وبالاطلاع على ما كتب عن النكبة نجد أن معظم المؤلفين من الرجال. برأيك، لو أن هناك نساء فلسطين كتبن مذكراتهن بالقدر الذي كتب فيه الرجال، هل كنا سنقرأ تفاصيل جديدة لم نعرفها؟

كتبت النساء الفلسطينيات مذكراتهن، على سبيل المثال، في سورية الراحلة هدى حنا. لذا سأترك القارئ يقرأ هذه الكتب ويحكم بنفسه. أستطيع أن أقول بشكل قاطع إن النساء والجدة تحديدًا لديهن دور محوري في سرد الذكريات وأن عملية وأسلوب التذكر متصلة بجنس الراوية.

ذكرتِ أيضًا أن اجتماع اثنين أو ثلاثة أثناء إجراء أي مقابلة كان يفتح بابًا لتدفق الذكريات بشكل أكبر وأحيانًا تتطور أفعال التذكر هذه إلى اختلاف في وجهات النظر، كيف تعاملتِ مع هذه المواقف؟

عندما بدأت إجراء المقابلات، كان وجود أكثر من شخص في المقابلة يمثل تحديًا، خاصةً عندما كانت الأجيال المختلفة حاضرة وتعبر عن وجهات نظر مختلفة أو متضاربة. كان التحدي يكمن في كيفية إجراء مقابلة مع شخص واحد وهناك شخص آخر يرغب في الحديث، ويريد التدخل، وكوني أقوم بعمل بحثي، فأكون مضطرة إلى الحديث مع أكثر من شخص في نفس الوقت، علمًا أن دوري كان هو الاستماع بشكل دقيق والتحقيق عبر المزيد من الأسئلة بناءً على السرد الذي يتم تقديمه.

وأذكر أنه في أحد اللقاءات الذي ذكرتها في الكتاب، كنت مع العديد من الرجال من مختلف الأجيال وامرأة في المضافة الخارجية لمنزل عائلة في مخيم قبر الست، وكانت محاولة تمرير آلة التسجيل من راوي إلى آخر أمرًا صعبًا، ومحاولة مواكبة المناقشة، ومتابعة العديد من الخيوط المختلفة للروايات، وبالطبع كان هناك جدل بين الرواة وأحدهم ترك المضافة بعد أن حدث اختلاف في الآراء. عند الاستماع إلى هذه المقابلة ومقابلات مثلها بعد عدة سنوات، أدركت بالطبع أن هذه اللقاءات جعلت المادة أكثر ثراءً، حتى لو كانت تمثل تحديًا لي كباحثة في ذلك الوقت. نظرًا لطبيعة العائلات الفلسطينية وحياة اللاجئين الفلسطينيين في سورية، في أغلب الأحيان كنت أجري مقابلات وأفراد الأسرة الآخرين حريصين دائمًا على القدوم والاستماع، سواء بصمت أو بالمشاركة.

في الحديث عن معاني النكبة، لاحظتِ وجود فاعل مرئي وآخر غير مرئي، هل نفسر ذلك بأن جيل فلسطين حين لم يستطع مقاومة التهجير لجأ إلى لوم جهات أخرى غير الفاعل المرئي على ما حدث له؟ وهل أحسست أن الأجيال اللاحقة لديها ذات الشعور؟

كانت مسألة المغادرة أو البقاء في فلسطين عام ١٩٤٨ مسألة حساسة للغاية في روايات جيل فلسطين، وغالبًا ما كان التباين الذي يكتنف المغادرة خلال النكبة موضوعًا مثقلًا بالاتهامات والاتهامات المضادة. يضاف إلى ذلك أن هذه الذكريات المتباينة تم تداولها في حاضر اللجوء في سورية وبعد ستين عامًا (وقت إجراء المقابلات في عام ٢٠٠٨) وبالتحديد كيف أُجبر جيل بأكمله أن يبدأ بناء حياته من نقطة الصفر وبتهمة مغادرته لبلده من قبل المجتمع المحيط به أو إشعاره بالعار والخزي بسبب واقعه الجديد كلاجىء. بالإضافة إلى التداعيات السياسية التي نتجت عن النكبة وفقدان فلسطين. إذًا الصعوبة المتعلقة بذكرى النكبة تفاقمت بسبب هذه الحقائق المادية والاجتماعية والسياسية التي عاشها هذا الجيل في المنفى.

أما بالنسبة للجيل الثالث، كان هناك الكثير من اللوم على أجدادهم بسبب مغادرتهم لفلسطين، هذا هو الجيل الذي اضطر لمغادرة سورية، لذلك أتساءل في كتابي كيف سيعود هذا الجيل في النظر فيما قاله لي قبل عام ٢٠١١.

بعد التمعن بذكريات جيل فلسطين، تحديدًا تلك المتعلقة بالقصص الأسطورية كما وصفتها ومقارنتها بالقصص الأخرى البطولية، كم كان صعبًا بالنسبة لكِ كباحثة استخراج حقيقة ما حدث من هذا السرد المتدفق لدى هذا الجيل، لاسيّما وأن معظمهم مر بالنكبة حين كانوا أطفالًا أو مراهقين أو في بداية شبابهم؟

كما قلت، كتابي دراسة للذاكرة الاجتماعية، وإذا ظهرت روايات التاريخ الشفهي لما حدث في ١٩٤٨ من خلال مقابلاتي مع الأجيال المختلفة، فهذا شيء ثانوي بالنسبة لغاية بحثي. أردت أن أفهم لماذا يتذكر جيل فلسطين النكبة عن طريق استدراك ذكريات معينة وما يمكن أن نستنتج من هذه الذكريات عن الحقائق الاجتماعية في الماضي وفي الحاضر الذي يؤثر على ذكرياته. لذلك وعلى سبيل المثال عندما صادفت ذكرى مشتركة بين أفراد جيل فلسطين عن الرجل الذي نجا بأعجوبة من خمسين رصاصة كانت قد اخترقت جسده بعد أن تم إحضاره إلى سورية من قبل والدته، لم يعنيني الأمر إذا كانت هذه الذكرى عن حدث حقيقيًا. ما لفت انتباهي هو ما معنى أن يتذكر جيل فلسطين النكبة عن طريق العجائبي وفهم النجاة كحدث عجائبي.

عانى الفلسطيني من وصفه باللاجئ منذ النكبة، واليوم نحن نشاهد موجات لجوء كبيرة في مختلف مناطق العالم، يرى البعض أن وصف اللاجئ صار يستدعي تعاطفًا ما، ما الذي تغيّر منذ ذلك الوقت؟

لا أوافق على أن كلمة "لاجئ" تستدعي التعاطف اليوم في كل مكان. في العالم العربي، ولا سيما في لبنان الذي لا يزال يستضيف عددًا كبيرًا من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، فإن كلمة لاجئ بالتأكيد لا تستدعي التعاطف وما زالت تستخدم بشكل مهين.

قرأنا الكثير من التفاصيل عن الأوضاع المعيشية الصعبة التي مرّ بها اللاجئين، من خلال ملاحظتك لمن قابلتهم وقتها، ذكرتِ أن هذه الذكريات المؤلمة أحيانًا تطغى على ذكريات النكبة الحقيقية، هل الأجيال اللاحقة قادرة على تكوين ذكريات تتعلق بالنكبة ومسبباتها فقط، أي دون تداخل مع القصص الأخرى التي نتجت عنها؟

يوضح كتابي أنه لا توجد ذكريات مرجعية خالصة في الأساس حتى لمن عاش الحدث الذي يتم تذكره بما أن الذاكرة دائمًا تابعة تتلو الحدث وقائمة على سيرورة اجتماعية. ولهذا السبب قمت في كتابي بدراسة ما سميته "روايات الذاكرة"، أو ذكريات أولئك الذين عاشوا النكبة، و"روايات موضوعها ذكرى النكبة"، أو روايات موضوعها فكرة الذكرى تروى من قبل أجيال فلسطين التالية التي ولدت أو نشات في سورية. كما أنني أناقش فكرة "الذاكرة التابعة"، أو ذكريات أولئك الذين عاشوا في ظل روايات سائدة سبق وجودها ميلادهم. إذا كتابي يخرج عن التفكير النمطي عن الذاكرة ويوضح الطابع الاجتماعي للذاكرة والتذكر.

لاحظنا كيف أن الجيلين الثاني والثالث اتهموا الأول بأنهم كانوا أضعف من البقاء في فلسطين، لكننا اليوم نرى كيف أن هذين الجيلين عاشوا أوقاتًا قاسية خلال الثورة السورية، هل بقيتِ على تواصل مع أحد الذين قابلتهم خلال إعدادك للبحث؟ وإذا ما تم ذلك، هل رأيتِ تغيرًا في وجهات النظر هذه؟

في كتابي، سواء في المقدمة أو في الخاتمة، أحاول أن أجري حواراً بين بحثي كما أجريته في عام ٢٠٠٨ وسورية التي تغيرت بعد ٢٠١١ وأماكن المنفى الجديدة في العالم العربي وفي أوروبا. ذلك لأن أجيال فلسطين التالية شهدت ولأول مرة منذ وصول الفلسطينيين إلى سورية عام ١٩٤٨ نزوحًا اجتماعيًا وجغرافيًا غير مسبوق. ولهذا السبب تغيرت روايتهم عن الذاكرة بشكل جذري وبما أن الذاكرة متمركزة في الأطر الاجتماعية للجماعات، فلم يكن من غير المألوف سماع الناس ما بعد ٢٠١١ يقولون "أننا عشنا نكبتنا الآن"، أو "نكبة ١٩٤٨ لا تقارن بما حدث في سورية". بصفتي عالمة اجتماع، لا أتعامل مع هذه الادعاءات من حيث ما إذا كانت محاولة مقارنة النكبة الفلسطينية عام ١٩٤٨ بالحرب في سورية بعد عام ٢٠١١ مقارنة صحيحة أم لا. السؤال الذي يطرح نفسه هو ما تخبرنا به هذه المقارنات من قبل أولئك الذين يؤمنون بها عن إحساس الرواة بالذات والمكان والمجتمع والنزوح...الخ.

يحلم فلسطينيو سورية اليوم بعودتين، الأولى إلى سورية، والثانية إلى فلسطين، وكلما طالت الأولى ابتعدت الثانية، كيف ترين مستقبل هذه الأحلام في ظل ما نشهده اليوم من أحداث؟

لا يمكن لدولة إسرائيل كدولة قائمة على الفصل والعزل العنصري القمعي أن تستمر في الوجود في شكلها الحالي، محكوم عليها ذات يوم بالتحول إلى دولة لجميع مواطنيها من النهر إلى البحر. ومع ذلك، فإذا ما كان اللاجئين الفلسطينيين من جميع أنحاء العالم مستعدين أو قادرين على العودة والمطالبة بحقوقهم فهذا أمر آخر.

الهبّة الفلسطينية الأخيرة في أيار/مايو أثّرت كثيرًا في الرأي العام العالمي، برأيك، ما الذي نحتاجه في هذا الوقت، لاسيّما بعد أن عادت فلسطين إلى واجهة الأحداث خلال الفترة الماضية؟

ما نحتاجه كفلسطينيين، وكما ذكرت في كتابي، هو قيادة فلسطينية موحدة مناهضة للاستعمار تعمل لصالحنا كشعب بغض النظر عن وضعنا السياسي أو القانوني (مواطنون إسرائيليون، تحت الاحتلال، لاجئون... إلخ). ما لدينا حاليًا هو نظام قمعي سمح للاحتلال بترسيخ السيطرة الكاملة علينا منذ أوسلو وتحت غطاء "عملية السلام". التعاطف والتضامن العالمي أمران مهمان، ومع ذلك، لا يكفيان لتحرير فلسطين. المطلوب وبشكل عاجل قيادة سياسية موحدة وتمثل الشعب الفلسطيني، تكون مناهضة للاستعمار وتطالب بحقوقنا السياسية وتعمل من أجلنا ولصالحنا، قيادة يمكنها صياغة مطالبنا والدفاع عنها على أسس تحررنا من الاستعمار وفي تحالف مع دول عربية وإقليمية ودولية لإنهاء الفصل العنصري الإسرائيلي في كل أنحاء فلسطين التاريخية. إسرائيل دولة طائفية تحكم على أغلبية من غير اليهود، وقيادتنا تتحدث عن دولتين بطريقة خدمت مصالح إسرائيل لما يقارب ثلاثين عامًا لأن هذا الهراء يحجب الواقع على الأرض ويعطي إسرائيل الغطاء لتواصل مشروعها المتمثل في سلب القدر الأكبر من الأراضي الفلسطينية واقتلاع الفلسطينيين منها. نحن بحاجة إلى قيادة سياسية جديدة ولغة وخيال واستراتيجية سياسية مختلفة تماما للتحرر من الاستعمار ومن مقاوليه.

بعد هذا البحث الذي سجلتِ به ذكريات مهمّة كادت أن تختفي، بماذا تفكرين اليوم؟ هل هناك أي مشاريع بحثية قريبة؟

في الحقيقة إن مركزية فلسطين في النضالات المناهضة للاستعمار في آسيا وإفريقيا، في مرحلة تصفية الاستعمار من القرن الماضي، وفشل تحرير فلسطين عندما نجحت العديد من الحركات الأفريقية والآسيوية التحررية في تحرير بلادها، دفعني للعودة إلى هذه المرحلة والقيام بمشروع بحث جديد في هذا الصدد. أنا حاليًا الباحثة الرئيسية في برنامج أبحاث تحت اسم الآفاق المستقبلية للماضي الافريقي-الاسيوي. البرنامج يشمل مجموعة من الباحثين متعددي التخصصات المهتمين بالنظريات الاجتماعية والسياسية والأدبية الناتجة عن مرحلة تصفية الاستعمار في آسيا وإفريقيا. ويشمل البرنامج الجامعة الأمريكية في بيروت وجامعة غانا وجامعتي كيب تاون وويتواترسراند في جنوب إفريقيا كشركاء، ويسعى أيضًا إلى تعزيز أرشيف وأدبيات ووثائق المصادر الرئيسية التي تستطيع أن تشكل أساس علوم إنسانية واجتماعية معاصرة عن جنوب الكرة الأرضية وله.