«منزل عائم فوق النهر»: غياب الحبّ حضور الجريمة

2021-12-21 10:00:00

«منزل عائم فوق النهر»: غياب الحبّ حضور الجريمة

تبدأ الرواية بإدراك ليلى أنّ لديها ما تدافع عنهُ، وهو شعورها بالحُبّ، وتعود إلى بيروت كي تصنع معركتها الأخيرة مع فاطمة التي أرادت تدمير ابنتها بأن ألمحت إلى الجريمة التي اقترفاها بحقّ بانة، تعود ليلى، تلتقي بالأم،

يُشكّل عالم النّساء كامل رواية الكاتبة اللبنانية زينب مرعي (1986) "منزل عائم فوق النهر" الصادرة عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان، وتقتصر الشخصيات الذكوريّة وجوداً وسلوكاً في كونهم أصداء لنساء حياتهم. في الوقت نفسهِ، لا يشيرُ خيار الكاتبة هذا إلى مجتمع تحرّر من سلطة الذكور. إنّما يطرح الغياب الكلّي للرجال في الرواية تساؤلات حيال حضورهم في الحياة. 

تقصّ الرواية حكاية أربع نساء، وتتناوب الراوية في سرد حكاياتهن. لكنّ العنوان يشيرُ إلى عقدة هذه الرواية، فالمنزل العائم فوق النهر دلالة على جريمة قتل إحداهنّ ورمي الجثة في النهر. المنزل أخذ مكان الجثة في العنوان، فهو منزل عائلة باعدت الجريمة بين سكّانهِ. إنّها عائلة تدمّر ذاتها، وتتوارى وراء عقدة تدمير الذات هذهِ، علامات الإنسان الذي يعيشُ أزمة. أمّا عن الأزمة التي تخصّ حكاية المنزل العائم فوق النهر، فهي غياب الحُبّ. يتولّد من غياب الحُبّ-وهذا غياب شاق على البشر-سلوك الشخصيات جميعها، إذ لا تترك الكاتبة اللبنانية شخصياتها لا مبالية أو خالية بغياب الحبّ. بل تملأ الكراهية والرغبة بالانتقام نفوسهن. إنّهن بحسب الراوية نساءٌ ملعونات، تحركهنّ روح التدمير، إن كانت بانة قد دمّرت نفسها بمحاولة الانتحار التي انتهت بأن قتلها أمها فاطمة وأختها ليلى. فإنّ ليلى الراوية دمّرت الأم التي دمرتها منذ البدء الجدّة بديعة. إذاً، في الرواية أربع شخصيات نسائية تتوزّعن مناصفة إلى فريقين؛ أحدهما يدمّر الآخر. 

عند تساؤل القارئ عن سبب غياب الحبّ المدمّر هذا، يجد أنّ قصة عاطفية موءودة في حياة الجدّة هي من صنعت سلالة النّساء الملعونات. فالجدّة بديعة تزوّجت من رضوان، رجلٌ يسخر منهُ الناس ويدعونه "ممما صار شي" بسبب تأتأتهِ، وقد زوّجوها رضوان عقوبة على حبّها لرجل أرمني. لكنّها استمرت بمغامراتها العاطفية، واستمر الأرمني يحضر إلى منزل زوجها. حداً كانت ابنتها فاطمة تواجه سؤالاً مريراً عن إن كانت ابنة الأرمني أم ابنة رضوان. كان لفاطمة أبوين، والحبّ العنيف أودى بحياة كليهما، قُتِلَ الأرمني على مقربة من منزل الجدّة، وقُتِل رضوان ثأراً. أمّا بالنسبة إلى بديعة التي اعتادت حياة الترف، فقد جعلت من طفليها فاطمة ونزيه يتسوّلان حاجاتهما من النّاس. ينتحر نزيه في الثالثة عشرة، وهذا خيار مفهوم بالنسبة إلى الكاتبة بالتخلّي عنه. فهي تصنع رواية من أبطال نسائية فقط. 

عند زواج فاطمة التي لها عينان تشعّان بالكراهية، فكّرت بالنجاة من العيش في لبنان والسفر خارجه. إلا أنّ زوجها خذلها وأعدل عن مشروع السفر، ولذلك دمّرته بإعادته إلى الإدمان ما تسبّب في خسارته عمله، ومن ثمّ طردته من المنزل. لتربّي كلّاً من ليلى وبانة وفق مبدأ واحد؛ وهو كراهية الرجال. يزرع هذا المبدأ الشقاق بين الأختين، بانة التي تطيع أمّها طاعة عمياء قبل أن تعرف الحُبّ، وليلى التي تحاول أن تبقى طبيعية في علاقتها بالآخر. تتطوّر علاقة بانة في الخفاء مع زميلها في الجامعة، الشاب الذي يستغل طباع بانة الطيّعة أيما استغلال. ثمّ عندما تعرف فاطمة بذلك، من خلال مراقبة تغيرات العاطفة لدى ابنتها، ومراقبة سلوكها داخل المنزل، تتدخّل الأم. وتنتحر البنت قبل أن تتمكّن الأم من مساعدتها. لكنّ المساعدة هنا افتراض لدى القارئ. فالكاتبة لا تترك ما يشير إلى شعور فاطمة تجاه محاولة ابنتها الانتحار. وفي النهاية ترميها بمساعدة ليلى إلى النهر، وتبقى الجثة منسيّة في أعماق النهر، وفي أعماق الذاكرة طوال أحد عشر عاماً، ثمّ تعود للظهور. وكانت فاطمة قد استقرّت في مصح الأمراض العقلية، فيما ليلى تعيش في طهران، وقد تزوجت من دون أن تخبر أمّها، وظفرت أخيراً بالحُبّ لبنيامين. 

تبدأ الرواية بإدراك ليلى أنّ لديها ما تدافع عنهُ، وهو شعورها بالحُبّ، وتعود إلى بيروت كي تصنع معركتها الأخيرة مع فاطمة التي أرادت تدمير ابنتها بأن ألمحت إلى الجريمة التي اقترفاها بحقّ بانة، تعود ليلى، تلتقي بالأم، ومن ثمّ تحضّر مخططاً وهو أن تُشعر فاطمة للحظة أخيرة بالذلّ. وتشرك مغنياً لبنانياً معتكفاً، ليفتضح ذل فاطمة أمام الكاميرات، وتنهار للمرة الأخيرة. إذاً، إنّ الرواية برمّتها تتساءل حيال الحُبّ، ويتّضح للقارئ أنّ الحبّ-حتى في غيابهِ-هو ما صنع مصير العائلة. ومن خلال حكاية النّساء الأربع صنعت الكاتبة اللبنانية نداءها للعاطفة، من غير أن تدين سلوك شخصياتها. 

يمكن للإنسان الخالي من الحُبّ أن يكون خطيراً، فهو يشعر بأنّه منبوذ، ويشعر بأنّه ذليل. لا تجد ليلى عندما تصارح زوجها عمّن تهجس باسمه خلال النوم، مناصاً من إخباره بأنّه وهم تتكئ عليهِ، فشيرو مجرد عصا سيكولوجية ساعدها افتراض وجوده على العيش مع أم تمقتها في منزلٍ خالٍ من الحُبّ. باستخدام هذه الشخصية الخيالية ندرك أنّ الحبّ يمكن أن يكون خياراً. فليلى، لم تكره، بل اخترعت شخصاً يرافقها طوال الوقت، كي تشعر بالحبّ. ثمّ عندما جاء رجل حياتها بينيامين، بدأ شيرو بالانسحاب من مخيلة ليلى. وبدأت تعاني من أعراض انسحابية للحبيب المفترض ما إن وُجِدَ شخص حقيقي يحبّها. عبر العصا السيكولوجية هذه توصل الرواية أبلغ مقولاتها؛ بإمكان الإنسان أن ينتظر الحبّ، على نحوٍ ما، عوض أن تفتك بهِ الكراهية.