«حصار» لهمّام الخالدي... الرواية والبندقية

2022-01-05 11:00:00

«حصار» لهمّام الخالدي... الرواية والبندقية

كل تلك الخيبات والمرارات التي قاساها بطل رواية "حصار"، لم تستدرج الكاتب لاجتراح لغة تجنح لشعرية مجانية غير موضوعية ولا تناسب الحدث، بل على العكس، فقد عرض همام الخالدي حكايته بلغة تقريرية هادئة ومتزنة، ولم ينجرف لاستخدام مفردات أو تراكيب مزخرفة دون الحاجة إلى ذلك.

كتب غسان كنفاني (1936 – 1972)، في كتابه الشهير "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 1968": "لقد رأينا باختصار كيف يرتبط أدب المقاومة في فلسطين المحتلة بالبعد الاجتماعي ويطرح ولاءه للطبقة الكادحة، ورأينا ثانيًا كيف يحافظ أدب المقاومة على هذا الارتباط الاجتماعي التقدمي في ممارسته لبعد آخر وهو الالتزام بالثورات التحررية في العالم. ورأينا ثالثًا كيف يرتبط أدب المقاومة ببعده العربي ارتباطًا عضويًا راسخًا. ولكننا قلنا إن هذه الارتباطات الثلاثة، تظل تدور حول محور أساسي، هو التصدي الشجاع للمعركة المباشرة مع العدو".

ويبدو أن الاشتراطات الفنية التي فككها كنفاني من نماذج لأعمال كتاب فلسطينيين مختلفين، والتي جمعها في دراسته المشار لها سابقًا والصادرة في 1968، تكتمل في غالبيتها، لتنطبق على رواية "حصار" للروائي الفلسطيني الشاب همام الخالدي، والتي تحمل عنوانًا فرعيًا "حياة قصيرة.. طريق طويل" وقد صدرت في يونيو 2021 عن دار تويا في القاهرة.

أدب المقاومة والبعد الاجتماعي

منذ الإهداء في بداية الرواية، بل ومنذ مطالعة الغلاف الخارجي، يدرك القارئ أنه مقبل على رواية "ملتزمة" بالمعايير التي لخصها غسان كنفاني عن أدب المقاومة.

يتناول الخالدي في روايته حصار، حكاية الطفل الفلسطيني باسل، الذي ضاع من أهله أثناء هروب الأهالي قبيل اقتحام القوات الإسرائيلية لقرية كرتيا في 17 يوليو 1948، وتاه وسط الجثث والمصابين والهاربين، قبل أن تلتقطه عائلة فلسطينية أخرى، هاربة بدورها من الاجتياح الإسرائيلي لقرية حتا القريبة.

التقط الشاب الفلسطيني سليمان جمعة الطفل التائه، وأخذه معه إلى بني سهيلا التي لم تسقط في يد الاحتلال الإسرائيلي في تلك الفترة، وقرر سليمان تبني الطفل، وأخفى حكايته عن الجميع باستثناء بعض المقربين.

بهذه البداية الذكية، استهل الخالدي روايته، في فصل بعنوان "بروفة ليوم القيامة"، رابطًا بين خسارة الأرض، وفقدان الأهل/الهوية، في تطبيق عملي وفني لما أشار له كنفاني في كتابه عن الارتباط بين البعدين السياسي والاجتماعي في أدب المقاومة.

وهكذا، مع أسرة جديدة، سيعيش الطفل باسل، منتسبًا إلى أبيه بالتبني، الذي رمم الشرخ الاجتماعي الذي أصاب باسل، مبرزًا روحًا تضامنية كبيرة، وملخصًا الوضع الفلسطيني، أو زلزال نكبة 1948، على الصعيد الاجتماعي.

وفي هذا السياق، لم يسقط همام الخالدي هنا في فخ الطوباوية، وتفادى مسألة تقديم الشخصية الفلسطينية بشكل ملائكي، فاستعرض بعض المضايقات التي تعرض لها سليمان جمعة في وطنه الجديد، حيث يعمد بعض التجار في السوق للتحرش به باعتباره لاجئًا جاء ليزاحمهم في أرزاقهم. إلا أن وجهاء العوائل الفلسطينية يتدخلون لينهوا ذلك الاشتباك.

في القسم الثاني من رواية "حصار"، المكونة من أربعة أقسام، يبدأ البعد الاجتماعي في التجلي، ويكون باسل قد كبر وصار معلمًا في إحدى المدارس التابعة للأونروا. وبعد قصة عاطفية فاشلة، لم تكتمل بسبب رفض عائلة حبيبته له نظرًا لكونه من "اللاجئين" وكذلك بعد أن يكتشف باسل أن صديقه الشيخ مأمون لم يكن سوى ضابط إسرائيلي متنكر، بل وسيصبح ذلك الضابط الإسرائيلي نفسه، الحاكم العسكري للمنطقة، يتحول باسل بالتدريج إلى العمل المسلح، وينخرط ضمن خلية صغيرة للمقاومة، وهكذا، تتسبب الصدمة الاجتماعية مجددًا، في تأجيج "المقاومة" في روح بطل الرواية، ويحدث التماس مجددًا بين السياسي والاجتماعي.

صعود السلم التنظيمي

بمساعدة من نسيبه محمود، ينضم باسل لمجموعة منضوية ضمن الخلايا المقاومة، وينفذ أكثر من عملية ضد جنود الاحتلال، هنا يبدأ البعد الاجتماعي في الخفوت والتراجع مؤقتًا، لحساب ملف المقاومة. إذ يترقى باسل، داخل الهيكل التنظيمي، ويصعد السلم، حتى يصل إلى تولي مهمة ضابط اتصال قطاع غزة لدى قيادة القطاع الغربي التابعة لحركة "فتح". هكذا تحول الفتى التائه إلى ترس في آلة الصمود والمقاومة.

غير أن جيش الاحتلال استهدفه، هكذا جرت الأمور في "حصار" كما تجري في الواقع، ليجد باسل نفسه مطاردًا، فيضطر للفرار من قوات الاحتلال، ويتم تهريبه – بعد عرسه بيوم واحد - بأمر من القيادات الفلسطينية، إلى مصر، بمساعدة المهربين الذين يعملون بين شمال سيناء وقطاع غزة، ومنها إلى ليبيا، بمساعدة المهرب المصري المعلم عبدو. وتبدأ مرحلة جديدة في رحلة الفتى التائه.

هنا يأخذ ملمح آخر، من الملامح التي أشار إليها غسان كنفاني "أدب المقاومة" في التجلي، إذ يبدأ البعد العربي في الحضور، شرقًا وغربًا، فمرورًا بمصر، ومن بعدها ليبيا، ثم لبنان، يظهر الارتباط الفلسطيني العربي في ملف "التصدي الشجاع للمعركة المباشرة مع العدو"، وربما ليس هناك أفضل من الفصول التي عنونها الخالدي بـ "الخروج إلى مصر" و"أيام في ليبيا" و "شرق.. غرب.. شرق" للتدليل على هذا الامتداد وتشابك الجذور أو كما قال كنفاني: "الارتباط بالبعد العربي ارتباطًا عضويًا راسخًا".

التخييل في الحيز التاريخي 

مجهود بحثي كبير وظفه همام الخالدي في حبك خيوط رواية "حصار"، إذ يتضح ذلك في التفاصيل الجغرافية الدقيقة التي تبرز في ثنايا الحكاية، إلى جانب حضور قوي للأغاني والقصائد الشعبية الفلكلورية الفلسطينية، لا سيما تلك المرتبطة بالمقاومة والأعراس وحتى أغاني الصيادين. إلا أن أبرز الجهود البحثية تظهر في البعد التاريخي، حيث احتاج الروائي إلى معرفة دقيقة بالخط الزمني للتاريخ الفلسطيني بدءًا من 1948 وحتى لحظة النهاية المتمثلة في معركة قلعة الشقيف بالقرب من قرية أرنون في لبنان، والتي خاضتها كتيبة الجرمق في 6 يونيو 1982.

ووسط تلك الحقائق ذات المرجعية التاريخية، اشتغلت المخيلة على زرع شخصية باسل، في قلب كتيبة الجرمق الفدائية، التي تولت الدفاع عن قلعة الشقيف في المعركة الفاصلة ضد الاحتلال الإسرائيلي. فبين شهداء مثل يعقوب سمور (راسم) قائد الكتيبة، والشهيد اليمني عبد القادر الكحلاني ومجموعة من المقاتلين المنتسبين لحزب العمال الكردستاني. حقن همام الخالدي شخصيته المتخيلة، في عروق الحقائق التاريخية.

وبعيدًا عن الارتباط بين فعل المقاومة الثقافي مع حركات التحرر العالمية، المتجسد في حضور سيرة حزب العمال الكردستاني، فقد أجاد الروائي دس شخصية باسل، في ثنايا الوقائع التاريخية والأسماء الحقيقية والشهداء الموثقة أسماءهم في المدونة النضالية الفلسطينية.

معركة قلعة الشقيف، التي خاضتها كتيبة الجرمق، والتي انتهت باستشهاد كل أفراد الكتيبة المتواجدين في القلعة وتمكن قوات الاحتلال الإسرائيلي من السيطرة على القلعة، كتبت لباسل، الفتى الذي ضاع من أهله في 1948، النهاية التي كان يتمناها. إذ رحل عن الدنيا وهو يقاوم العدو في "معركة مباشرة" لتكتمل بذلك كافة ملامح "أدب المقاومة" التي أوردها كنفاني في دراسته.

لغة موضوعية

كل تلك الخيبات والمرارات التي قاساها بطل رواية "حصار"، لم تستدرج الكاتب لاجتراح لغة تجنح لشعرية مجانية غير موضوعية ولا تناسب الحدث، بل على العكس، فقد عرض همام الخالدي حكايته بلغة تقريرية هادئة ومتزنة، ولم ينجرف لاستخدام مفردات أو تراكيب مزخرفة دون الحاجة إلى ذلك.

وإمعانًا في تقديم قصته، بعين محايدة، دون انحيازات، حرص الروائي على جعل الحوار في الرواية، باللهجات العامية، متوخيًا الحذر في منح كل شخصية لهجة تناسب البيئة الجغرافية التي جاءت منها. ويتضح ذلك بجلاء في الفصول الأخيرة من الرواية، حيث تتكلم كل الشخصيات الفلسطينية، حسب لهجات مدنها وقراها، وبالمثل، فإن الشخصيات المصرية، واللبنانية، تنطق بألسنة مختلفة ومتسقة مع بلدانها وثقافاتها. ويتجلى هذا الحرص في فرز مستويات اللغة واللهجات المتشعبة عنها، في الأحاديث التي جاءت على لسان المهرب المصري المعلم عبدو، وضابط الجوازات اللبناني خالد، وغيرهما من الشخصيات.