"فرحة" لدارين سلاّم: حِرفية أداء عن لحظة تاريخية

2022-01-10 11:00:00

في الحجرة نفسها ـ بالتزامن مع لحظات القلق والخوف والارتباك والغموض والانتظار ـ تغتسل فرحة، فالخروج ولادةٌ، رغم انعدام كلِّ فرحٍ، إزاء نكبةٍ تُصيب عائلةً صغيرة، فيختفي الأب، وتتمزّق الابنة قبل ولادتها الجديدة؛ وتُصيب بلداً، يهرب كثيرون منه خوفاً وارتباكاً، قبل أنْ تكون الولادة الجديدة عيشَ مصيرٍ آخر.

استناداً إلى "أحداثٍ حقيقية"، تروي الأردنية دارين ج. سلاّم (1987) حكاية مُراهِقَةٍ فلسطينية تُدعى فرحة (14 عاماً)، في لحظة تاريخية، تشهد انقلاباً جذرياً في الحياة والوعي والسلوك. يتّخذ الفيلم اسم المُراهِقَة، التي تؤدّي دورها كرم طاهر، عنواناً له. ابنة المختار (أشرف برهوم)، المتمرّدة على تقاليد ذكورية في بلدة ريفية، تجد نفسها فجأة وحيدة ومعزولة عن لحظة الانقلاب ذاك، الذي سيُعرف لاحقاً بـ"نكبة 1948". يهجم جنود صهاينة على البلدة، فيُدخِل المختار ابنته الوحيدة إلى حُجرةٍ في باحة المنزل، حمايةً لها من بطش العدو، فهو ذاهبٌ إلى المعركة، لكنّه يعدها بعودة قريبة لإنقاذها.

هذا الاختزال الحكائيّ غير لاغٍ تفاصيل مختلفة، تتعلّق بالسينما والواقع واللحظة. تريد فرحة إكمال دراستها في المدينة، لكنّها تواجَه برفض والدها، الذي سيرضخ لمشيئتها قبل وقتٍ قليلٍ على نكبة البلدة، ونكبة فلسطين. لها عمٌّ (علي سليمان) يدعمها للغاية. حضوره في المشهد، سينمائياً بالنسبة إلى الفيلم وحياتياً بالنسبة إلى فرحة، عابرٌ وقليل، لكنّه يقول شيئاً أساسياً: هناك وعيٌ بأهمية علمٍ ومعرفة، وهناك ضرورة للعلم والمعرفة، للفتاة كما للفتى. النكبة تحول دون تحقيق حلم العلم والمعرفة، لكنّها تمنح فرحة (كما يبدو) شيئاً أهمّ وأعمق من العلم والمعرفة، من دون أنْ يُلغي هذا الشيء الحاجة إلى العلم والمعرفة: اختبارٌ حياتيّ يضع فرحة أمام ذاتها وروحها وجسدها، في لحظة خرابٍ يحلّ على بلدة وناسها، وعلى اجتماع وناسه.

اختبار حياتي يُصنع لفرحة في حجرةٍ مُعتمة، والأصوات الآتية إليها من الخارج تُضفي على العتمة مزيداً من وحدة وخوف وقلق، وتحريضاً ـ في الوقت نفسه ـ على مواجهةٍ، وعلى محاولةِ كسر الوحدة والخوف والقلق. مشاعر كهذه تساهم في تحويل فرحة من مُراهِقَةٍ إلى امرأة، تنظر بعينيها ـ من ثقب باب أو جدار ـ بعضَ ما يجري في باحة منزل الأهل، وتُعاين بانفعالاتها ملامح من الحياة، تنكشف أمامها في عتمة الحجرة، فتصنع منها إنساناً مختلفاً، يستمدّ من قوّة شخصية المُراهِقَة قبل النكبة إضافةً حيوية وعميقة إلى قوّة شخصية المرأة التي يُفترض بفرحة أنْ تُصبِحَها، مع خروجها من الحجرة وعتمتها إلى الحياة وعتمتها، التي يصنعها احتلالٌ صهيوني، بإنشائه كياناً محتلاًّ، اسمه إسرائيل.
 


الحجرة، إذْ تُصبح ملاذاً يحثّ فرحة على اختبار ملامح الحياة المقبلة، تُشكِّل مساحة تمرينٍ لكرم طاهر، تُتيح لها أنْ تكشف حِرفية أدائية لديها، تتلاءم ومُراهَقَتها أولاً، وتتوافق ومُراهَقَة فرحة أيضاً. الاشتغال السينمائي في الحجرة نواةٌ جوهرية للنصّ والتمثيل والتقنيات، المندرجة كلّها في سياقٍ يروي، من داخل الحجرة، شيئاً من لحظة الانقلاب العام، ويقول بعينيّ فرحة وانفعالاتها شيئاً كثيراً من تبدّلات ذاتٍ ونفسٍ وروح، تؤدّيها كرم طاهر بكلّ ما تملكه من حماسةٍ وانشغالٍ عميق بالبناء الدراميّ والإنساني والاجتماعي لفرحة، ولمحيطها، ولما يجري حولها وفيها.

منذ دخولها إليها، تُصبح الحجرة خشبة مسرحٍ، يُتيح (المسرح) لكرم طاهر اختبار التمثيل في فضائه المُغلِق، وتُترجِم فنيّات عدّة ـ التصوير (راشيل عون) والتوليف (بيار لوران) والصوت (رنا عيد وفلوران لافالّي) مثلاً ـ شدّة انغلاقه: عتمة، وظلال، ومساحة ضيّقة، وأشياء قليلة تُعين على عيشٍ غير معروفة مدّته فيها (الحجرة)، وصمتٌ شبه مطلق، مع أصواتٍ قليلةٍ تقول إنّ أحداثاً تجري في الخارج، وإنّ أناساً يُقتَلون  يُعذَّبون، ويحاولون نجاةً من موتٍ وتعذيب. اختبارٌ تُبدي طاهر تمكّنها منه، باستعانتها بذاتها، جسداً وحركة وتنهّداتٍ وانفعالاتٍ إزاء ما تسمع وما ترى، كأنّها تخترق العتمة بأداءٍ يُضيء تلك المساحة الضيّقة، ويُحطّم جدرانها، كاشفاً براعة تمثيلٍ يعكس وحدةَ مُراهِقَةٍ، يُفرَض عليها فجأة أنْ تتعامل مع أمورٍ، لن يكون سهلاً التعامل معها، لما فيها من تغيير جذري وفجائيّ في مسارٍ وإحساسٍ ومعايناتٍ وتحوّلات.

كرم طاهر، بتمرينها التمثيلي في الحجرة، تُتقن معنى الصمت كلغةِ قول وتعبير وتفاعل، وتُدرك أنّ الخارج ـ بعنفه وانهياره وخيباته (رغم عدم شعورها بهذا كلّه، إلاّ مع مرور وقتٍ وبعد خروجٍ من الحجرة) ـ لن يكون كعهدها به، إذْ تعكس عيناها قلقاً يتجاوز الخوف والارتباك إلى الأبعد والأعمق منهما: هناك مصيرٌ غامضٌ لها، وهناك انتظارٌ مُعلَّق لأبٍ، يعدها بالعودة.
 


في الحجرة نفسها ـ بالتزامن مع لحظات القلق والخوف والارتباك والغموض والانتظار ـ تغتسل فرحة، فالخروج ولادةٌ، رغم انعدام كلِّ فرحٍ، إزاء نكبةٍ تُصيب عائلةً صغيرة، فيختفي الأب، وتتمزّق الابنة قبل ولادتها الجديدة؛ وتُصيب بلداً، يهرب كثيرون منه خوفاً وارتباكاً، قبل أنْ تكون الولادة الجديدة عيشَ مصيرٍ آخر. هذا ينكشف بأداءٍ يقول إنّ العفوية أساسٌ، لكنّ تمريناً تمثيلياً قادرٌ على صقله، معطوفاً على حيوية شابّة صغيرة السنّ، وحماستها في اختبار كيفية إزالة كلّ فاصلٍ بين أداءٍ وعيشٍ.

لكنّ كرم طاهر لن تحصر جمالية أدائها في الحجرة فقط. قبل بدء الهجوم على البلدة، تعيش فرحة حياةً صعبةً، رغم تمكّنها من إشاعةِ مناخٍ من هدوء وفرح وصداقة وأحلام وطموحات. الارتباك حاضرٌ، فالرغبة في إكمال الدراسة في المدينة تُلحّ عليها بقوّة، والأب المختار يتريّث في الموافقة، فالتفكير الجمعيّ يقول بضرورة زواج الابنة، وهذا أهمّ، ما يوقع فرحة في قلقٍ دائمٍ. أخبار النزاعات المسلّحة تصل البلدة، ومسلّحون يُريدون من المختار دعماً، لكنّه يخشى على البلدة وناسها، قبل الهجوم الصهيوني عليها وعليهم. في هذا كلّه، تُعيد دارين ج. سلاّم (كاتبة السيناريو أيضاً) رسم مناخٍ وبيئة واجتماعٍ وعمارة، تقول كلّها إنّ ما يظهر على الشاشة الكبيرة يعكس شيئاً من فلسطين عشية نكبتها. وفي هذا كلّه أيضاً، تمهِّد كرم طاهر لأدائها في الحجرة، إذْ تُظهر كلّ التناقضات التي تعيشها مُراهِقَةٌ، تريد العلم والمعرفة، وتواجه سلوكاً ذكورياً بتمرّد وعدم انصياع لرغبات أفراد مختلفين، وتحتمي بصداقةٍ، وبعمٍّ يُدرك أهمية ما تريده فرحة وضرورته، فيدعمها.

تقول دارين ج. سلاّم، في تصريحاتٍ صحافية، إنّ تصوير "فرحة" ـ المشارك في قسم "اكتشافات"، في الدورة الـ46 (9 ـ 18 سبتمبر/ أيلول 2021) لـ"مهرجان تورنتو السينمائي الدولي"، والمُختار رسمياً في الدورة الـ16 (14 ـ 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان روما السينمائي الدولي"، إلى مهرجانات أخرى ـ حاصلٌ في "مواقع بكر في الأردن"، وإنّ المواقع مبنيةٌ بشكلٍ يسمح بـ"خلق فلسطين عام 1948 بمصداقية"، وهذ مُطبّق أيضاً في تصميم الملابس وتصفيف الشعر وتشييد الديكور (إنتاج ديمة عازار وآية جردانة وويليام جوهانسن كالِن). هذا يصنع "فرحة"، المحتاج إلى تكثيفٍ دراميّ أكبر وأعمق لجزءٍ من بدايته، يتعلّق تحديداً بتقديم الشخصيات وأحوالها ومسالكها وأنماط تفكيرها وانفعالاتها، وبتقديم البلدة ويومياتها وأساليب عيشها وعيش ناسها، وبتقديم أفرادٍ يُحيطون بفرحة، ويرتبطون معها بعلاقاتٍ مختلفة (أهل، أقارب، صديقة، زميلات دراسة في مدرسة البلدة، إلخ.).

رغم هذا، يُصبح "فرحة"، بما فيه من جماليات عدّة، شهادة سينمائية عن لحظة تاريخية مصيرية، وعن مصائر أناسٍ، وعن آلية اشتغال سينمائي.