كلثوميّات الخيبة

2022-02-04 12:00:00

كلثوميّات الخيبة
February 1975, Photograph by Claude Salhani/ Sygma via Getty Images

مع نهاية الأغنية، انطلقنا على الدرب الطويل: لم أستطع ألا أفكر بأنني السنّي الوحيد في الميكرو، وبالمراهقة التي ألبسها أبوها الشيخ عباءة ولد بدويّ كي تغني في القاهرة لأول مرة.

كتب بدر شاكر السياب قصيدة ساحرة متشائمة للست، كما كتب لها نصاً ناصعاً محمود درويش. في كلا العملين، لحسن الحظ، يغيب النقد الموضوعي تماماً: يستسلم الشاعران، المريض الفقير المخذول في لندن الباردة، والنجم الماكر الغارق في ماضيه في باريس، لسطوة الست عليهما. يشرب العراقي صوتها "فيغوص من روحه إلى القاع"، ليعود إلى قريته "بويب" طفلاً؛ ويدمنه الفلسطيني كل ليلة إدمان الوحيد، "جالساً على مترٍ من ريح". 

في الليل البهيم، تعيدني تساؤلات الست عن الهوى الغلّاب مراهقاً على كتف بردى الفقير في مقهى "الشعّار"، في نهاية التسعينيات، أُطلّ منه على كراج سيارات قذر صغير غير واضح الحدود، وسماء مفتوحة الحدود والمعاني والنهايات، بين أصحاب تخدعهم الست بأحلام عن حياة عادية هادئة فيها القليل من الحب، مرددين بابتسامات عريضة بريئة غضّة: "يا قلبي آه، الحب وراه، أشجان وألم"، غير مدركين لما تعنيه العبارة البسيطة القاسية التي يرددونها؛ تساؤلات لم يبق منها إلا إجابة الخيبة الكبرى: نطارد حياة عادية وحباً بسيطاً، ونفشل دوماً. 

تختزل أم كلثوم الماضي كله، لتحضر تجسيداً لكل ما عشناه: للحب الأول، والثاني، والثالث؛ وليال طويلة في المقاهي مع أصدقاء تفرقوا في أركان الأرض الغامضة القصية؛ وسهرات عائلية؛ وظلام الوحدة؛ والميتافيزيقيا المشتهاة الخائبة التي لا تُعقل؛ وحنين غامض لأشياء حسية يؤلم الحلق كحسك السمك... كأن الماضي صرحٌ من خيال هوى.

أحسد أولئك الذين يفكرون في نقد الست وفهمها. أنا عاجز تماماً أمامها. وفي المنافي، يتزايد عجزي طرداً مع ابتعادي عن دمشق؛ لتتبدى الست في النهاية كسوريا نفسها، بعيدة حزينة مكسورة، درامية، مشتهاة، لا أمل في الوصول إليها. 

يختلف الناس كثيراً فيما يفضلونه لها: من ثلاثمائة أغنية شدَتْ بها، لم يحتفظ أتباعها إلا بأربعين أو خمسين أغنية يرتلونها ليلاً. ولقد تعلمت ألا أجادل الناس فيما يفضلونه: كلهم يتعصبون بعنف لأغنية أو اثنيتن، كأنهم وهابيون يهدمون قبوراً صوفية أو صوفيون محاربون قزلباش يأكلون لحوم أعدائهم البشرية كرمى لشيخهم الصفوي إسماعيل. البعض يميل إلى أربع أو خمس اغان شائعة في الخمسينيات والستينيات، والبعض يفضل أغاني الثلاثينيات والأربعينيات "الأثقل". أكثرهم حنكةً وحساسية يستسلمون كلياّ أمام "رق الحبيب"، أمام التوق الشموس المتفائل الصبور قبل الوصال الحسي؛ وبعضهم يكتفي بأهزوجة سهلة يسيرة مرحة مثل "سيرة الحب" أو "أنت عمري"؛ كلهم يطربون عندما تقول بدلال خشن "لسا فاكر"؛ معظمهم يبتسم بخبث، عندما تفلت من بحّتها الشهيرة أمنية غير صادقة، بحرقة صادقة: "يا ريتني عمري ما حبيت"؛ وكثيرون يهزون رؤوسهم لائمين الدهر، مرددين بهدوء متحفّز: "حب إيه!"؛ ويتململ المصابون بالأرق، عندما تترنّم بمكر: "يطولوك يا ليل، ويقصروك يا ليل"، كأن الليل حلوى "غزل البنات" يتلاعب بمقاييسه ومقاديره باعة جوالون في مدن مشرقية كئيبة وفقيرة؛ وتنتاب الحائرين منهم رعشة حمى لا تزور إلا في الخفاء، عندما تبوح بما يعتمل في قلوبهم المنهكة:

وأقول ماشافش الحيرة علي لما باسلم

ولاشافش يوم الشوق في عينيّ راح يتكلم.

اسمها نادر جداً، ومركب، له نكهة عتيقة وعرة. نعرف جميعاً ابنة النبي محمد، والتي سميت المطربة تيمناً بها. تزوجت عثمان بن عفان، بعد وفاة أختها رقية، زوجة عثمان أيضاً. وماتت في السابعة والعشرين من العمر. لم تحظ في التراث الإسلامي، ولا حتى الشيعي الذي يقدّس آل البيت، بالمكانة التي حظيت بها فاطمة الزهراء؛ ربما لأنها لم تنجب أولاداً سيكتبون التاريخ بدم المجازر؛ كما لم تنجب المطربة أيضاً. وفي السويد، قابلتُ مدرّسة تسمى "كلتومة"، صومالية، مبتسمة دوماً بصفاء كما في لوحة لرينوار، تجعل الصباحات الباردة المظلمة تشرق بالقوة، ولا تجيد من العربية إلا أبجديتها وبضع كلمات من الإسلام، وتعرف ابنة الرسول، والمطربة المصرية. هي وحدها من ينطق أسماءنا، أنا وابني، بعربية فصيحة تماماً. 

ولم تكن الصباحات والليالي باردة عندما كنتُ أتعرّف على الستّ، ولكنها لم تكن سائغة أيضاً. أذكر ليلة صيفية حارة، وأنا في الثامنة عشرة من عمري، في ساحة "البرامكة" تائهاً: لا مواصلات إلى بيتي البعيد، وقد فقدت أثر صديقي فراس في "قدسيا" حيث كنت أخطط لقضاء الليل. محبطاً في كشك التليفون، أتصل كل خمس دقائق بالرقم نفسه، ولا ردّ.

الكشك القريب يبيع كل شيء: من كاسيتات إلى دخان وعصائر وسندويش وأغراض البيت الصغيرة التي لن تفكر يوماً في شرائها من هذا المكان: مسامير ومطارق ومفكات، صابون وشامبو ومرهم للأيدي الناعمة، ألعاب مونوبولي و"السلم والثعبان" ودمى باربي قديمة قبيحة رخيصة صُنعت في الصين، قرطاسية من الثمانينيات، وكراكيب أخرى كثيرة.

يلعب البائع مع صديقه "محبوسة" على طاولة زهر قديمة متآكلة الأطراف، فيما هما يتبادلان الأركيلة ويشربان شاياً أسود كالكحل العربي، ويستمعان إلى "يللي كان يشجيك أنيني". كانت هذه المرة الأولى التي أسمع الأغنية. سألته عنها. أجاب بكرمٍ غير معهود مع الغرباء في مدننا القاسية، من خلال ابتسامة بنيّة لا تتبيّنها بين شاربه الكث والدخان الفذ المنطلق من حلقومه، "اجلس واسمع". أعطاني كوب شاي مجاني، وسيجارة حمراء طويلة، أكثر صلابة من السجائر الأجنبية، وأقل رغبةً في حرق النفْس: سيجارة عمرها عندما تشتعل يدوم أكثر من نظيراتها جميعاً.

جلستُ صامتاً لمدة تقارب النصف ساعة، مسحوراً، منصتاً إلى الست تشكي وتلوم، على وقع حجري النرد يتحكمان بالبائع وصديقه بلا رحمة، متأملاً مدينتي الغريبة الهادئة المليئة بأوساخ اليوم الطويل في قلب العاصمة.

في النهاية، فاوضتُ الرجل على شريط الكاسيت: دفعت 45 ليرة بدلاً من ال55 التي طلبها.

توجهتُ إلى الكراج القريب وبحثتُ عن ميكرو. أخبرني السائق أننا عادة ننتظر ساعتين في هذا الوقت حتى ينطلق؛ أو علي أن أقنع الركاب بأن يدفع كل منهم ضعف التسعيرة، فننطلق الآن. رفضوا جميعاً.

طلبت منه أن نستمع إلى الكاسيت. وافق، جالساً أمام الميكرو مثرثراً حول ارتفاع الأسعار، وترفيع أخيه في الشرطة العسكرية، وزيارة ماهر الأسد إلى مساكن الديماس، والبرد القارس في بيوت الزنك المخيفة شديدة الفقر في تلك المساكن، أحد أشهر أماكن تجمع العلويين العسكر من الرتب الدنيا والوسطى مع عوائلهم حول العاصمة.

مع نهاية الأغنية، انطلقنا على الدرب الطويل: لم أستطع ألا أفكر بأنني السنّي الوحيد في الميكرو، وبالمراهقة التي ألبسها أبوها الشيخ عباءة ولد بدويّ كي تغني في القاهرة لأول مرة.

من بيت ريفي فقير إلى كائن أسطوري يشبه تنين اللفياثان. حتى الماركسية تعجز أمامها، إذ لا يبدو أن للصراع الطبقي مكانة في تفسير جماهيريتها: اكتسحت آهاتها قلوب الناس من الريف إلى المدينة ومن العمال وصغار الكسبة إلى المشايخ والمسيحيين والمسؤولين وصنّاع القرار والفاسدين والمثقفين والمتمردين والمعتقلين ومحبي الديكتاتوريات والرماديين والشهداء. وكما في كل قصص النجوم، يقبع وراء نجاحها عشرات المجدّدين والمظلومين والناجحين: موسيقيون من زمن القصبجي إلى زمن بليغ، بما فيهم الشيخ زكريا أحمد يجرجرها في المحاكم؛ وقصائد من الكلاسيكية الجديدة عند أحمد شوقي والرومانسية الهادئة عند أحمد رامي إلى الشاعرية الشعبية عند بيرم التونسي. تحولت الفتاة الريفية البسيطة إلى هرم لا يُطال ولا يموت، ولا يحيا حياةً طبيعية طبعاً. وكل هذا طبيعي، ويكاد ينطبق على كل أساطير النجاح: كما في قصص معظم الأنبياء، والعلماء، والثوار!

ومع توسع شهرتها، شاع لقب "ثومة". وهو لقب غريب: فصوص الثوم تتراكب على فرع هش كجيران تفصلهم عن بعضهم البعض جدران يابانية رقيقة؛ رائحته كريهة، ولكنه يعطي نكهةً للطعام لا تُضاهى؛ يُشاع أنه يقي من الأمراض حتى السرطانية؛ ولولاه لفقد "اليبرق" روحه القدس. وثومة يشير إلى حبة ثوم واحدة، هشة صغيرة. لا يبدو لي أن اللقب يستند إلى الثوم أو إلى الكلثوم؛ والكلثوم، في اللغة، الخدود الكبيرة الممتلئة الجميلة. في العمق، "ثومة" دلعٌ عجيب، يستقل عن المعاني، لتبقى البساطة والخفة في اللفظ وحده: خفة محببة ومطلوبة، قرّبت كائن الرخ الأسطوري هذا من قلوب الناس. على أنه لم ينجح في خلع لقب أثقل: "الست"، وهو لقبٌ يجمع بين الاحترام والأمومة والمحبة والأنوثة والسلطة. والخاسر الأكبر كان اللقب الأثقل والأسخف: "كوكب الشرق"، وهو لقب يشبه الألقاب الرسمية: مبالغة مغرورة بلا نكهة ولا طعم. 

توارت معظم أغنياتها الوطنية والدينية من الذاكرة العامة، ليبقى لنا حب صاف محض، كأول مطر في الخريف. أعرف أن البعض ينفر من البنية المحافظة للكلمات واللحن والحضور الطاغي لصوتها ومنديلها وضعف توسلاتها الشاكية، ومن أغاني الليل الطويل الحزين، ومن الغرام الرومانسي التقليدي: أشواق وعذاب وعذّال وهجر وسهر وخصومات وشكاوى. ولكنني لا أجد ما يعيب في كل ذلك: فالغناء والطرب والرقص، والشعر والفلسفة والدين، والثورات السياسية والاجتماعية والفكرية والعلمية والأدبية، تبحث بشكل مستمر دؤوب عما يجمع البشر ويوحدهم، لتكون الإجابة دوماً هي الغرام والهيام. 

لمَ ننكر الحب إذن؟ 

أليس الإنسان، في جوهره، حيوان عاشق؟