ويبدو أنّ الروائيين لجآ إلى ما هو نظريّ، ومن ثمّ انشغلا في دحضه. فالمثقف الذي قرأ حتمية الثورة ونظّر لها كان من أكثر الخاسرين بالمعنى المباشر المادي، بسبب اتّباعها، لا لتحالفه مع الدهماء عند هاني الرّاهب، أو مع ضحايا تمثّلوا جلّادين عند فواز حدّاد.
إحدى وظائف الرواية، تمثيلُ البشر ضمن طيفهم الواسع الذي يتعدّى المشاعر والأحاسيس إلى النماذج والأفكار. وذلك في الحياة العادية التي تعرف صراعاتٍ تقليديّة، وفي حضور الأحداث الكبرى التي تقسم وعي البشر مثل الثورات.
في الأدب بصورةٍ عامة يمكن للكاتب أن يتروّى في مقولته. لذلك يمكن الحديث عن رواياتٍ تعالج الثورات بصورةٍ أكثر عقلانية من النظر إلى الواقع الذي أحكمت عليه قوى الأمر الواقع بصورة مبرمة. تحضرُ النظرية في الكتب حضوراً مثالياً، وفي حضورها تمثيلٌ لصورة من صور الواقع. وعلى ضوءِ هذا يمكن مقاربة رواية "بلد واحد هو العالم" (1985) للروائي السوري هاني الرّاهب (1939-2000) ورواية فواز حدّاد (1947) "تفسير اللاشيء" (2020). وكلتاهما تنتميان إلى بلدٍ مثالي لدراسة هذا النوع من الأدب. إذ في الروايتين تحضرُ شخصية المثقف حضوراً مأساوياً، وفي كلتا الروايتين يجد المثقف نفسه ضائعًا، وعلى قلقٍ بين الجموع والسلطة.
كتب الرّاهب روايته أثناء إقامته في اليمن. لكنّ العنوان يشير إلى سورية في استعارة من الشاعر اليوناني ميلياغروس (القرن الثاني قبل الميلاد): "أنا ميلياغروس/ سرت مع ربة الشعر/ على خطا مينيبوس/ إن كنتُ سورياً فما العجب في ذلك؟ / أيّها الغريب إنّنا نسكن بلداً واحداً/ هو العالم". على الرغم من أنّ الرواية تحدث في مكان غير محدّد، إلا أنّ العنوان يقول لنا بوضوح إنّها سورية في رواية مليئة بالرموز؛ أم اللولو التي تمثّل الرأسمالية وأم عبود التي تمثّل البروليتاريا الرثّة وفق الأدبيات الماركسية. أي الرعاع أو الغوغاء. فيما علوان الأستاذ والمثقف يمثل البرجوازية الصغيرة التي تطمح إلى تغيير واقعها عبر التحالف مع الرأسمالية تارةً ومع الغوغاء تارة أخرى. تتلخّص مقولة الرواية في الثورة ضد سلطة رأس المال. بعدما أخلى علوان القبو الذي كان يستأجره وحصل على تعويض مالي دفعه في منزل جمعية اشتراكية؛ أقام مع زوجته في حارة قيد الهدم بسبب إقامة مشروع تجاري على مقربة منها. وفي الحارة يقترب علون من أم عبود ويفكّر بتغيير واقعه عبر التحالف مع الفقراء. ثمّ ما يلبث أن ينقلب على أم عبود بوقوفه في صف أم اللولو. هنا يهدم زوج أم اللولو الذي يشير إلى السلطة، منزلَ علوان. وفي ذلك الفضاء المرتبك يحاول علوان إعادة تحالفه مع الفقراء.
لكن في تقلّبات المثقف تلك يخسر هو، وتخسر الدهماء التي لم تجد الإخلاص لقضيتها لديه. والثورة التي تولد في الحي تولد ميتة. فالقيمة التي منحها رأس المال للمثقف كانت من أجل أن يضرب الدهماء، لا من أجل أن يتحالف مع الدهماء ضدها. في مقابل رواية الرّاهب التي ترصد التحولات الاجتماعية والسياسية في المجتمعات العربية في السبعينات والثمانينات. تعالج رواية "تفسير اللاشيء" للروائي السوري فواز حدّاد الذي انشغل في أعماله الأخيرة في تحليل بنى النظام الشمولي بأدواته وتحالفاته داخل المجتمع؛ صورةَ المثقف في "الداخل" الخاضع بصورة مباشرة لقمع النظام الشمولي. وهو بذلك مهدّد بحياته، وبتفكّك علاقاتهِ كافة مع كُلّ من وما يحيط بهِ. يرصد حدّاد أشد أزمات مثقف الداخل عنفاً، ويصف شخصيته بأنّ الانقلابات الفكرية جزء منها. كما أنّ مخاوفه أكبر من إنسانيته. لا يؤمن بالعنف، ويعيش في بلدٍ يخرج العنف من كلّ زاوية فيه. ألغى الأستاذ الجامعي صاروف العالم وفق نظريته عن "اللاشيئية"، ومن ثمّ اعتبر نفسه غير موجود. وعلى ضوء ذلك، تمثّل العلاقة مع المرأة لدّى صاروف -ما مثلته لدى علوان- أحد مآلات التغيير والثورة. إنّ كلّاً من نازك في "بلد واحد هو العالم" وسهير في "تفسير اللاشيء" تريدان الإنجاب، وكلتاهما تفشلان في ذلك مع زوجين عاجزين. وتهجران زوجيهما. فالمثقفان المبدئيان مشغولان بالتغيير. وكلاهما مثقف يخسر زوجةً وقفت إلى جانبه بدافع الحبّ، لا الزواج. فالتفكّك الذي طالهما كان أعمق من تَفكّك الشرائع، إنّه انقسام نفسيّ لا يلتئم، فكلاهما خسر ثورته. وخسر جدارته بأن يكون رجلاً وحبيباً.
يمثل علوان وصاروف في زمانيهما ما تمثلهُ النخبة التي خذلها الواقع. ما يبدو قلباً للمنظور النقدي الذي يقول بأنّ النخبة هي من تخذل النّاس. وكانت نازك سألت علوان أيّهما حقيقي؛ الواقع أم الوعي؟ وبدا أنّ كلّاً من الروائيين استدلّ على الواقع باستخدام الوعي بضرورة التغيير. السلطة أداة المال "بلد واحد هو العالم" والعنف أداة السلطة في "تفسير اللاشيء". ويبدو أنّ الروائيين لجآ إلى ما هو نظريّ، ومن ثمّ انشغلا في دحضه. فالمثقف الذي قرأ حتمية الثورة ونظّر لها كان من أكثر الخاسرين بالمعنى المباشر المادي، بسبب اتّباعها، لا لتحالفه مع الدهماء عند هاني الرّاهب، أو مع ضحايا تمثّلوا جلّادين عند فواز حدّاد. بل أيضاً لأنّ الروائيين السوريين قصرا بطليهما على الخوض في واقعٍ محسوم لصالح القوي الآني. وفي الغد، من يعرف؟ لربما تثمر بذرة الانكسار تلك عن شجرة الحرية الباسقة. فهناك، وسط العاصفة، من فكّر بها وطواها في سرديّته من أجل المستقبل.