هوامش:

أزهار وبكائيات

2022-03-04 19:26:00

أزهار وبكائيات
On the Beach, Japan, David Burliuk, 1921

هم يريدون التحرر، يريدون أن يكونوا كالكاتب الألماني، كالشاعرة المصرية، كالكهل اللبناني، كالناشط الطلياني، كالنسوية الأمريكية، كالـ... يريدون أن يكتبوا ويقرأهم الناس وراء البكائيات، خارج اللجوء، خلفه، بعيداً عنه. يريدون أن يكتبوا كما يكتب كل الناس. 

(1)

أزهار الطحلب

مرمية على طول الرصيف

في مطر المساء.

الشاعر الياباني بوسون. هايكو

(2)

لا أحد يحب البكائيات. لا أحد يختار أن يكتب البكائيات طوعاً. لا أحد تستهويه البكائيات. والفنان الحقيقي يريد أن يكتب أشياء أخرى. 

كلنا هؤلاء الفنانون المخلصون الشجعان التقدميون المتمردون. كلنا يريد أن يخرج من عباءة اللاجئ التقليدية كأنها لشيخ في القرية، من نظرات الشفقة التي تلسع، من معطف الضحية الذي يغطي الجسم واليدين والوجه وكل الملامح، من عبارات التشجيع الكذوبة كأنها تقول لطفل يخربش على ورقة بيضاء: "عظيم، سنعطيك شوكولا ومِنحة كي تعبر عن الألم والمعاناة".

وكل الفنانين المتمردين يريدون التحرر من البكائيات. يريدون أن يروا العالم بدونها، أن يفهموه ويخلقوه، أن يحلّقوا بعيداً عنها. 

وهذا مفهوم، بالطبع. لا يجب أن يقيّد المرء نفسه بماضيه وحاضره.

هم يريدون التحرر، يريدون أن يكونوا كالكاتب الألماني، كالشاعرة المصرية، كالكهل اللبناني، كالناشط الطلياني، كالنسوية الأمريكية، كالـ... يريدون أن يكتبوا ويقرأهم الناس وراء البكائيات، خارج اللجوء، خلفه، بعيداً عنه. يريدون أن يكتبوا كما يكتب كل الناس. 

(3)

لا تجهش صوتك

أيها الجُنْدب

لأن غدًا خريف أيضًا.

الشاعر الياباني إيسا. هايكو.

(4)

تصف البكائيات عالماً من الصعب وصفه: 

  • عوائل مفككة، بين الوطن والمنافي الكثيرة.

  • اكتئاب عام. 

  • أرق خاص.

  • فشلٌ في تعلم لغات البلاد المُضيفة.

  • ذكرياتٌ ساحرةٌ عن بلدٍ لم يكن إلا سجناً.

  • تأنيب الضمير اليومي، عندما نرى كيف يحيا من يحيا في الوطن. 

  • أن يحيا الناس تلك الحياة في الوطن.

  • امتنانٌ ممزوجٌ بالذل في انتظار الحصول على الجنسية.

  • خوفٌ دائمٌ لا يهدأ من صعود اليمين المتطرّف.

  • الوحدة، حتى بين الجموع.

  • شوقٌ كاشفٌ ممضّ للمطبخ السوري المتنوّع. 

  • غضبٌ مستمرٌ من عالمٍ تركنا في يد الروس والإيرانيين.

  • حسدٌ نحاول ضبطه اتجاه كل من يعيش في بلده آمناً. 

  • تساؤلٌ لاهوتي: ما الذي فعلناه كي نستحق كل هذا العقاب؟

  • التخلي الكلي عن السياسة في الدول غير الأوروبية، والعجز عن انتقاد أوضاعنا المأساوية في دول الجوار، والاستسلام الإجباري لانتصار الشر في الوطن.

  • نوبات القلق المتكررة.

  • اليقين بأن الأمور لم تبلغ الأسوأ بعد.

  • المصيبة الأكثر بلاغة: لا أحد يفهم ما نمرّ به. 

  • وفاة صباح فخري، آخر ما أجمع عليه السوريون.

  • البرد: برد الشمال البارد، وبرد المخيمات، والبرد في دمشق وحلب وحمص، وفي كل مكان.

  • كوابيس عن المخابرات السورية أو الأجنبية تقتحم بيوتنا وتسحبنا إلى معتقلات النظام. 

  • نهايات الصداقات مع تباعد اللقاءات.  

تصف البكائيات عوالم اللاجئين في الخارج والمهزومين في الوطن، تلك التي لا يعرفها إلا اللاجئون وأهلهم، ومن ذاق اللجوء قبلنا؛ عوالم هزائم ونكسات ونكبات وخيبات وخسارات وأحزان ومصائب ونكد ومِحَن ونوائب ودموع. 

ولوصف هذه العوالم، تفشل البكائيات الدارجة العجفاء القاصرة العاطفية كلياً: تفشل لأنها ليست صادقة كفايةً، ولأنها تجعل الفن وسيلةً لاستجرار العواطف ببلادة بدلاً من كونه المنبع والغاية. 

لا أحد يريد أن يكتب بكائيات. 

لا أحد يحب البكائيات. 

لا أحد، حتى اللاجئين الهاربين، واللاجئين الذين بقوا في الوطن.

لا أحد... 

(5)

الأوراق المتساقطة

تسّاقط فوق بعضها البعض

المطر يضرب المطر.

الشاعر الياباني كيوتاي. هايكو