في المعنى:

«الأفغاني: سماوات قلقة»: انزياح عن هامش النقد السياسي والفكري

2022-07-05 05:00:00

«الأفغاني: سماوات قلقة»: انزياح عن هامش النقد السياسي والفكري

وأمّا محور التّاريخ وأساطيره، فيعدّ محوراً إشكالياً يطرح أفكاراً ورواياتٍ مُختَلَفٍ على بعض تفاصيلها في السِيَرِ المتناقلة، سواء ما يخصّ منها التاريخ الحديث أو القديم، على نحو يُدخل هذه السرديّة في دائرة النّقد والمجادلة، مع الأخذ بعين الاعتبار تسجيل الكاتب في نهاية العمل تنويهاً يفيد بأنّ سرديّته وإن اتّكأت على أسماء وأحداث حقيقيّة،

كي نساهم في تغيير الواقع والمستقبل، جدير بنا الانطلاق من قراءة مختلفة لتاريخ خضع لصياغات كلّ قويّ ومسيطر، شوّه ملامحنا في مراياه، أو زيّف حضورنا وما تركه من أثر بُني عليه كما تقدّم، تماماً كما حدث مع تشكيل مفهوم الهويّة في العصور الحديثة، وما حمله هذا التشكيل من تشويه متعمّد في كثير من الأحيان على نحو إبراز العصبيّات العرقيّة أو الدينيّة أو المذهبيّة، على حساب ما يُضيئه المفهوم العام لفكرة الهويّات وتنوّعها في مساحة جغرافيّة بعينها، ما أدّى بالضّرورة إلى تأجيج النّفوس والتلاعب بالمشاعر لصالح تعزيز الصّراعات الداخليّة على حساب الإنسان وممارساته الأخلاقيّة. هذا ما سنحاول محاكاته في نصّ الكاتب والروائيّ الكرديّ هوشنك أوسي وروايته الأخيرة "الأفغانيّ: سماوات قلقة – الصّادرة عن دار خطوط وظلال 2021" عبر ثماني سرديّات وتمهيد.

ولأنّ القراءة المختلفة بحاجة لوعي مختلف، يصبح السؤال: هل فَعّلَ الكاتب هوشنك أوسي هذا الوعي؟ سؤال مشروع نصوغه هنا بغية الاقتراب من إجابة موضوعيّة يمكنها أن تشكّل المتكأ الأساس لهذه المقاربة ومفاتيحها البحثيّة، فإن اتفقنا أنّ إحدى وظائف النقد، هي نقل مفاهيم وتصورات النصّ المنقود، وبالتالي مفاهيم وتصوّرات كاتب العمل نفسه، من حيّز الصيغ الأدبيّة المقترحة، إلى فضاء الحوار الفاعل، فنحن بالضّرورة نؤمن بفكرة تنوّع الأفكار وأهميّة سجالها، بهدف فتح آفاق الرؤى وتأويلها مع أيّ تصوّرات ممكنة. ببساطة لأنّ المسألة هنا ليست مجرّد مسألة تفكيك نصّ عابرٍ وحسب، خاصّة وأنّه نصّ إشكاليّ يحمل بين طيّاته قدراً كبيراً من المباغتة الطارحة لعديد الأسئلة المحقّة والمشروعة في آن؛ ما الفائدة المرجوّة من إثارة جدلٍ حول بعض الأحداث التاريخيّة المختَلَف حول حقيقة تفاصيلها؟ وما جدوى المسّ برموز دينيّة أو وطنيّة تتّفق عليها شريحة واسعة من شعوب المنطقة؟ وإلى أيّ حد قدّمت هذه المعالجة السرديّة خطاباً مغايراً؟ أين تكمن الأزمة بالضّبط؛ في الحكاية موضوع النصّ، أم في زاوية الرؤية ونمط معالجتها؟

اعتراف

بداية وجب التنويه والاعتراف بأمرين مهمّين، فأمّا التنويه فهو على الرّغم من كون فكرة الشخصيّة العابرة للأزمنة، هي فكرة مكرّرة وردت قبلاً فيما قدّمه الرّوائي البرتغاليّ جوزيه ساراماغو في روايته الشهيرة "قايين"، وكذا فكرة الموت وغيابه التي وردت أيضاً لدى نفس الكاتب في روايته "انقطاعات الموت"، إلاّ أنّ الشكل الكلّي المقدّم في رواية الأفغاني لهوشنك أوسي، أثار إعجابي واهتمامي لسببين أساسيّين، الأوّل يكمن في الجرأة التي يتحلّى بها النصّ الحكائيّ، والثاني يحوم حول تلك الأفكار الدافعة إلى كسر التابوهات المقدّسة سواء على الصّعيد الاجتماعيّ أو السياسيّ أو الدينيّ، بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معها. إلاّ أنّ الاعتراف يؤكّد أنّني حين شرعت في التوقّف أمام عديد المشاهد والأحداث لإجراء البحث في قراءتي هذه، بدت أمامي الأسئلة المطروحة أعلاه، مما دفعني لإعادة النظر في المعالجة المقدّمة في هذه السرديّة التي تحسب لها جرأة الطرح، ويؤخذ عليها محمولها الفكري الخطير.

الحكاية

انطلاقاً من قاعدة أنّ "معنى المعنى فتح مفهوم الحقيقة، على المغاير والمختلف، أو على الهامشيّ والمنفيّ، أو على الضدّ والنقيض"، على حد تعبير الدكتور علي حرب، في كتابه أوهام النخبة، شيّد الكاتب سرديّته في فضاء مركز توقيف للمهاجرين غير الشرعيّين، بوصفه إطاراً يجمع بالضّرورة أجناساّ مختلفةً وأفكاراّ متجانسةً أو متباينةً، ربّما ليقدّم للقارئ فضاءً معكوساً لصورة الحياةِ بكلّ أبعادها الاجتماعيّة والثقافيّة، في محاولة لإعادة تشكيلها دون أيّ تدخّل من سلطة عابرة أو معتقد سائد، وذلك على الرغم من سطره الأول: "كلُّ ما مضى، كان عبثاً، والآتي لن يكون مختلفاً" (ص7).

هكذا دخل الروائيّ هوشنك أوسي في صلب الموضوع دفعةً واحدةً، مع الانتباه لصيغة الجزم، "كان عبثاً، ولن يكون"؛ قبل أن يفتح نافذة بالقول: "هذه الأوراق البيض التي في متناولي الآن، تقول لي: لا تقلق لوننا الأبيض، حزمة ألوان انصهرت في بعضها البعض. كلُّ لونٍ له قلقه وخياله، يختلف عن قلق وخيال اللّون الآخر. ربما يناقضه أيضاً" (ص8). ما يعني أنّ الرّاوي قرّر أن يقدّم معالجته عبر التدوين، وفي كلّ تدوين آراء قد نتّفق أو نختلف معها، ولكنّ المهم أنّه تدوين بلون مختلف يتكئ على الفلسفة ببعدها الشكّي في مواجهة الحقيقة والأسطورة على حدّ سواء.

مركز التوقيف ورواياته المتضاربة

يبدأ الروائيّ أوسي قصّته من السجن والتداعيات والظروف الغامضة لاختفاء سجين وجد مقتولاً، كان قد قدّم نفسه لإدارة المركز بوصفه أفغاني، الشخصيّة المركزيّة التي تدور حولها الحكاية، لتكشف التحقيقات لاحقاً، صعوبة التعرّف على هويّته الحقيقيّة في ظلّ حالة الانتحال التي يقوم بها عادة كلّ مهاجر غير شرعيّ، فيغلق التّحقيق الذي يعاد فتحه بعد عقد من الزّمن جرّاء العثور على صندوق وجدت فيه رزمة من الأوراق المكتوبة باللغة البشتونيّة. حيث أظهرت ترجمتها، أنّها تعود لشخصيّة القتيل. دون أن يقول لنا الكاتب لماذا جاءت الأوراق باللغة البشتونيّة تحديداً، وليست العربيّة على سبيل المثال؟ علماً بأنّ هويّة المغدور لم تحسم بعد!

ومع كشف شخصيّته متعدّدة الهويّات والانتماءات، وسيرته الملتبسة والمتداخلة مع الأسماء والأحداث، يصوغ الكاتب سرديّة مختلفة تتّخذ من الماضي منطلقاً، لخدمة السرديّة الأساسيّة في الحاضر المُعاش؛ عبر فكرة القطع والوصل، قطع مع الحاضر، ووصل عبر محاكاة الحاضر بلغة الماضي وموروثه الثقافيّ والأسطوريّ، مقدماً نموذجاً لكائن بشريّ، حباه الله بما لم يعطه لرسله وأنبيائه، فجمّد عمره عند سنّ الأربعين، ليصبح إنساناً عابراً للعصور والأزمان، ولد يوم قُتل الخليفة عمر بن الخطاب بهويّة معلومة. ليكون شاهداً على كلّ أحداث التاريخ الإسلاميّ بهويّات وسير مختلفة، وصولاً إلى يوم مقتله في جزيرة خيوس اليونانيّة في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين بشخصيّةٍ آسرةٍ وغامضةٍ أشْكَلَتْ على كلّ من تعامل معها أنّه من بلده ودينه، لتأتي معلومات رفقاء السّجن عنه ملتبسة ومتناقضة فتزيد الغموض تشويقاً للبحث عن الحقيقة، ليتحوّل سؤال الحقيقة بشكلٍ تدريجيٍّ في السرديّة إلى سؤال هويّة وتاريخ ووجود. 

من هنا يتعرّض الكاتب في النّصف الأوّل من سرديّته، لجملة من الوقائع والأحداث في تاريخ المنطقة العربيّة في القرن العشرين، عبر نماذج شخصيّات السّجناء رفقاء الأفغانيّ المغدور في السّجن، ولكلّ منهم حكايته مع الرّاحل وتاريخ بلده، فكان أن حضرت الشخصيّة المصريّة والفلسطينيّة والأفغانيّة والجزائريّة والتونسيّة والكرديّة والإيرانيّة، على نحو يشي بأنّ الكاتب تعمّد تناول هشاشة المنطقة من نقطة تميّز خصوصيّتها المنطلقة من تنوّع مكوّنها الاجتماعيّ، الدينيّ والمذهبيّ والعرقيّ.

مثل هذا التناول لفضاء المنطقة، استدعى بالضّرورة تقديم شخصيّة الأفغانيّ في كلّ رواية من روايات رفقاء السّجن بشكل مغاير عن الأخرى، فنجد الكاتب قد استخدم تقنيّة تعدّد الأصوات، بكلّ ما صاحبها من لغة تقريريّة في الكثير من الأحيان، للتنقّل ما بين رواية المصريّ المقدّمة لهويّة الأفغانيّ بوصفه الشيوعيّ المتحوّل إلى متطرّف، وعند الفلسطينيّ هو ذلك المناضل المتورّط في قضيّة تصفيّة لآخر شريك، ولدى الجزائريّ ذاك اليهوديّ المتأرجح ما بين هويّته الوطنيّة وهويّته الدينيّة، وهكذا توالت الروايات إلى أن يُفعّلَ الكاتب فكرة القطع مع الزّمن الحاضر لصالح استدعاء الظروف التي هيأها الماضي، وفق تصوّره، ليولد كلّ هذا التداخل والتشابك في الشخصيّة العربيّة متمثّلة في شخصيّة  الأفغانيّ كنموذج. 

النّقد السياسيّ والرمزيّة

المفارقة اللاّفتة في سرديّة هوشنك أوسي، تحوم حول قيمة الانتصار لفكرة بعينها على حساب أخرى، وإن شكّلت الأخيرة بحالتها وشخوصها الحالة المعنويّة أو الرمزيّة لهذا المجتمع أو ذاك، وهو ما يمكننا تسميته بمحاولة إماتة الرّمز، عبر التّشكيك في سلوكه الخاص أو العام، وهي محاولة تحمل قدراً واضحاً من التّحامل المصحوب بلغة متعالية دشّنت السرديّة على أعمدة دون قواعد، هي قواعد التعقل والتدبر، تعقل الظّروف والملابسات التي رافقت كلّ حدث متناول، وتدبّر أمر المعالجة السرديّة، حيث المثاليّة المفرطة لا يمكن لها أن تقدّم حلولاً ناجعة.

من هنا أقام أوسي سرديّته على محورين أساسيّين ومتداخلين، الأوّل محور الفضاء المكانيّ والتاريخيّ وانعكاسهما على الواقع أفراداً وأحداثاً، والثّاني يكمن في محور التاريخ وأساطيره المؤثّرة على تشكيل الهويّات الفرديّة والجماعيّة. فأمّا المحور الأوّل فالملاحظ أنّ استدعاء الحالة المصريّة والفلسطينيّة والجزائريّة والتونسيّة على وجه الدّقة، في إطار ما اصطلح على تسميته "الأفغان العرب" إلى جانب عنوان العمل، واسم بطله، لم يأت على سبيل المصادفة، ولكن للقول إنّ النّقد لم يقتصر على فئة دون غيرها، بهدف تهيئة القارئ للغمز اللاحق من قناة الصراع التاريخي بين السنة والشيعة.

وأمّا محور التّاريخ وأساطيره، فيعدّ محوراً إشكالياً يطرح أفكاراً ورواياتٍ مُختَلَفٍ على بعض تفاصيلها في السِيَرِ المتناقلة، سواء ما يخصّ منها التاريخ الحديث أو القديم، على نحو يُدخل هذه السرديّة في دائرة النّقد والمجادلة، مع الأخذ بعين الاعتبار تسجيل الكاتب في نهاية العمل تنويهاً يفيد بأنّ سرديّته وإن اتّكأت على أسماء وأحداث حقيقيّة، أنّها "ليست رواية تاريخيّة أو وثائقيّة"، إلاّ أنّ هذا التنويه لا ينفي أو يلغي حضور المقاربة التاريخيّة حكماً. وهي المأخذ الأساس على مجمل هذه السرديّة.

غير أنّ مكمن العلّة ووجه الإشكال في هذه الرواية، يدور حول تناقض الخطاب وتحوير المعنى، فمن جهة هناك جرأة في الطّرح تحت شعار الانتصار للتّاريخ والإنسان، دفع الكاتب أوسي لممارسة فعل النّقد السياسيّ لعدد من القضايا الفكريّة والسياسيّة العربيّة والإسلاميّة الشائكة في العصر الحديث والماضي السّحيق على حدّ سواء، كما هو حال نقده للخلاف السنيّ الشيعيّ منذ بداياته الأولى، وسياسات أمير المؤمنين سيّدنا عليّ ابن أبي طالب كرّم الله وجهه، وكذا نقده لزعيم عربيّ قوميّ يحظى بشعبيّة هائلة بوزن جمال عبد الناصر على خلفيّة تدخّله في شؤون بعض دول الإقليم، وكذا صدام في تعامله مع الأكراد، ومسعود بارزاني وجلال طالباني والصّراع الكرديّ الإيرانيّ، والكرديّ الداخليّ، وصولاً إلى نقد الحالة السياسيّة الفلسطينيّة وانقسامها على نفسها، فضلاً عن نقده اللاّذع للحركات الإسلاميّة وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين، ومن جهة أخرى نجد تحويراً للمعنى مرتبطاً بأسلوبيّة المعالجة وأفكارها المطّروحة، أقلّ ما يمكن أن يُفهم منها، أنّها عملية انزياح أحاديّ الفكر والتوجّه، غيّب أي بقعة ضوء يُمكنها أن تُبدّد ظلام المشهد الذي عملت السرديّة على تأبيده في مخيال القارئ، على نحو جاء ليدين تاريخاً لم يكن ورديّاً بكليّته، ولكنه لم يكن سوداويّاً تماماً، في الحالة العربية والإسلامية بكل مركباتها الثقافية والاجتماعية والسياسية، وكأنّنا بالكاتب أوسي يقدّم روايته الأفغاني – سماوات قلقة، ليشنّ حرباً شعواء على مفاهيم الهويّة انتصاراً لهموم الإنسان، ما يطرح سؤالاً بديهيّاً وبسيطاً: هل بالضّرورة أن يتعارض سؤال الهويّة مع سؤال الإنسان؟