في تكريم يُسري نصرالله: اشتغالات تبغي تطويراً وتجريباً ومعاينات

2022-07-22 11:00:00

في تكريم يُسري نصرالله: اشتغالات تبغي تطويراً وتجريباً ومعاينات

أفلام ما بعد "باب الشمس" منخرطةٌ في أحوال أناسٍ، يبحثون عن خلاصٍ أو تمرّد (جنينة الأسماك)؛ أو يحلمون بصفاءٍ غائبٍ، فالمرأة، تحديداً، تعاني، ونصرالله يضعها أمام الكاميرا كامرأة أولاً، ثم كزوجة وحبيبة ومستقلّة في عيشها وتفكيرها وعلاقتها بنفسها (إحكي يا شهرزاد)

باختياره المخرج السينمائي المصري يُسري نصرالله لتكريمه في دورته الثالثة (20 ـ 27 تموز 2022)، يؤكّد "مهرجان عمّان السينمائي الدولي ـ أوّل فيلم"، وإنْ من دون قصدٍ أو تخطيط واضحين، أنّ التواصل فعلٌ أساسيّ في طرح أسئلة الصورة ولغتها، في سينما عربيّة تتجدّد في فهمها، البصري والفكري والجمالي والفني، أحوال أناسٍ وبيئاتٍ وعلاقات.

تكريم نصرالله في مهرجانٍ، يهدف إلى اكتشاف أوّل الخطوات في السينما العربية، امتدادٌ لأهمية تفعيل حوار دائم بين عاملين/عاملات في صناعة السينما العربية، خاصة إنْ يكن بعض هؤلاء منتمٍ إلى جيل سابق، يملك قدرة على اختراع ترجمات سينمائية لشؤون وحالات، وعلى التنقيب في ذاكرة وذات وعلاقات، وعلى طرح أسئلة الراهن والتاريخ والبشر وبيئاتهم، بلغة الصورة، وبمحاولات دائمة للابتكار والتجريب.

بدايات تكوين وتأثّرات

تكريم يُسري نصرالله يتزامن مع احتفاله بعيد ميلاده الـ70، فهو مولود في القاهرة، في 26 تموز 1952، بعد 3 أيام فقطٍ على "حركة الضباط الأحرار"، التي تُعرف بـ"ثورة 23 يوليو" ضد الملكية المصرية. وهذا لن يبقى صدفةً فقط، فالثورة نفسها، وأفعالها اللاحقة على "انقلاب" جمال عبد الناصر على محمد نجيب (14 تشرين الثاني 1954)، ستؤثّر في وجدان نصرالله وتفكيره وعيشه فصولاً من التاريخ الحديث لبلده ومحيطه العربي، ومفاصل أساسية في التكوين الثقافي والاجتماعي والسياسي والحياتي لأكثر من جيلٍ مصري وعربي.

الثورة تلك ستنقضّ على أملاك الطبقتين الثرية والوسطى، في مرحلة التأميمات الناصرية، ما ينعكس سلباً، إلى حدّ كبير، على السيرة الحياتية والمهنية لمخرج "سرقات صيفية" (1988)، أول فيلمٍ له، وفيه جانبٌ شخصيّ، لكنّ الأبرز في هذا الشخصي ومعه كامنٌ في مقاربته السينمائية للفترة الناصرية، طارحاً فيها سؤالاً جوهرياً: "هل كنا بالفعل في تجربة اشتراكية، أم رأسمالية دولة؟" ("يُسري نصرالله ـ محاورات أحمد شوقي"، منشورات "مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية"، الدورة الـ6، المُقامة بين 16 و22 آذار 2017، بمناسبة تكريمه. ص 19). وهذا بعد عيشه "لحظاتٍ"، بين عامي 1967 ("نكسة" حرب الأيام الستة، 5 ـ 10 حزيران) و1988 (سرقات صيفية)، سيكون لكلّ منها فعل تغييري ما (لن يكون إيجابياً دائماً)، بدءاً من الحركة الطالبية، المنادية بالإصلاح والتغيير ومعالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، التي (الحركة الطالبية) تواجه سياسة الانفتاح الاقتصادي، بتأثيراتها السلبية على الناس والمجتمع؛ ثم "حرب أكتوبر" (6 ـ 25 تشرين الأول 1973)، والإفرازات الثقافية والفكرية والاجتماعية، على الأقلّ، لذاك الانتصار المعلّق.

"حرب أكتوبر" وانتصارها المعلّق يستعيدان، من بين أمور كثيرة أخرى، أسئلة الهزيمة (نكسة 67) وأسبابها، بل يُبلورانها أكثر فأكثر. والحرب تلك سابقةٌ على انخراط نصرالله في تظاهرات شعبية، مندلعة في نهاية سبعينيات القرن الـ20، دفاعاً عن الرغيف، وتُعرف بـ"مظاهرات الطعام"، المطالِبة بتثبيت الأسعار، وتحسين أوضاع العمّال، وتحقيق العدالة الاجتماعية. هناك أيضاً نزاعات فلسطينية عربية، أولاً في الأردن (بدءاً من 12 أيلول 1970)، ثم في لبنان، الذي يشهد صدامات عسكرية متتالية بين الجيش اللبناني ومنظمات مسلّحة فلسطينية، أعنفها ذاك الحاصل بدءاً من 2 أيار 1973، قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (13 نيسان 1975 ـ 13 تشرين الأول 1990) بجريمة قتل مدنيين فلسطينيين في باصٍ أمام كنيسة في عين الرمانة المسيحية.

هذا كلّه، وغيره من تفاصيل مرتبطة بالمقاومة الفلسطينية، واليسار العربي، وتحوّلات حاصلة في العالم العربي وأوروبا، منذ نكسة 1967، ومجيء نصرالله إلى بيروت بعد وقتٍ قليل على اندلاع حربها الأهلية، واشتغاله في "السفير"، الصحيفة اللبنانية العربية (الجامِعة بين ناصرية ناشرها ورئيس تحريرها طلال سلمان وعروبيته، ويسارية متنوّعة لمحرّرين وكتّاب، في بداياتها على الأقلّ)، بين عامي 1978 و1982، عام عودته إلى القاهرة، قبل وقتٍ قليل على الاجتياح الإسرائيلي الثاني للبنان (بدءاً من 6 حزيران ذاك العام)؛ هذا كلّه مُساهمٌ أساسيّ في التكوين الإنساني والفكري والمعرفيّ لنصرالله.

"هناك عالمٌ يتغيّر. البوليس يُطارد اليساريين، والحركة الإسلامية تتنامى. لذا، عليك حينها أنْ تفهم جيداً ما الذي يحدث، كي تستطيع أنْ تقول: أنا كذا" (كتيّب "سؤال الذات ـ سينما يُسري نصرالله"، منشورات "محترف شمس للثقافة المهنية"، بيروت، 2001)؛ وفيه تكثيف لسيرة نصرالله واشتغالاته، يستند إلى حوارات مختلفة لي معه، منشورة في "السفير"، وأخرى مع آخرين منشورة في صحف لبنانية وعربية).

اشتغالات سينمائية وتساؤلات ثقافية

يُمكن اعتبار هذا كلّه، ومسائل أخرى كثيرة، تمهيداً لـ"سرقات صيفية"، المنبثق أيضاً من قراءاتٍ عدّة ليُسري نصرالله، تتعلّق بمشكلة الزراعة والإصلاح الزراعي في مصر. والفيلم، في جانبه الشخصي، مرتكزٌ على عيش مخرجه مع أفراد عائلته هلعاً إزاء قرارات الإصلاح الزراعي. الجانب الشخصي يحضر أيضاً في "مرسيدس" (1993)، إذْ يُتابع نصرالله انهيار المعسكر الاشتراكي، مقتنعاً "بأننا نعيش نهاية عالم وبداية عالم جديد بقواعد مختلفة تماماً" ("محاورات أحمد شوقي"، ص 27). بعده بعامين، يُنجز وثائقياً بعنوان "صبيان وبنات" (1995)، يلتقط فيه أحوال شبابٍ وشابات مصريين، يروون تحدّياتهم وأحوالهم ونظرتهم إلى العلاقات الثنائية بمختلف وجوهها: المناخ العاطفي، مفهوم الجنس، التقاليد الاجتماعية المتوارثة، طغيان الحالة الدينية، المتطرّفة أحياناً، والمتنامية بسرعة وقوّة منذ مطلع تسعينيات القرن الـ20؛ من دون تناسي ظاهرة الحجاب ودلالاتها الاجتماعية، وتأثيراتها النفسية والإنسانية.

في "المدينة" (2000)، هناك بحثٌ عن الذات عبر السفر، فالفرد غير قادر على تواصل سليم مع ذاته في بلده، ما يدفعه إلى اختبار السفر ظنّاً منه أنّ في السفر خلاصاً، بينما "الخلاص" (للكلمة معانٍ وسمات عدّة) ينبع من مصالحةٍ وتواصل مع الذات نفسها، بعد محاورتها وفهمها، أو محاولة فهمها على الأقلّ. ردّاً على سؤال عن انفصال محوري عن الأم (إلى جانب الانفصال عن المجتمع والطبقة والعائلة)، والأم دائماً هي الشخصية الأهمّ التي ينفصل عنها البطل، في "سرقات صيفية" و"مرسيدس" و"المدينة"، يُجيب نصرالله إنّ هذا عائدٌ إلى "غياب الأب دائماً"، حتى في "صبيان وبنات"، فالأمّ تُربّي الأبناء والبنات، والأب مسافر، وعند عودته يكون "شخصاً مختلفاً". يقول إنّ هذا "ربما" يتعلّق بغياب والده أيضاً، لكنّ الأهم كامنٌ في "الجانب السياسي"، و"محاولة فهم السلطة الأبوية، الناصرية والعروبة وصورة الأب البطريركي، الذي يعيش حالة "سي السيد"، في زمنٍ لم يعد مناسباً لهذه الحالة" ("محاورات أحمد شوقي"، ص 43).

إنْ يكن النصّ السينمائي في الأفلام هذه "مصرياً"، أي أنّه منهمك بمعاينة الحاصل في مصر، والسابق على الحاصل راهناً، متّخذاً من سيرة كاتبه/مخرجه ما يُناسب الهاجس الثقافي والفكري لنصرالله؛ فإنّ "باب الشمس"، بجزئيه "الرحيل" و"العودة" (2005)، المقتبس من رواية بالعنوان نفسه (1998) للروائي اللبناني الياس خوري (المُشارك مع نصرالله، ومع السينمائي والكاتب اللبناني محمد سويد، في كتابة السيناريو)، يبقى الاستثناء العربيّ سينمائياً في سيرته المهنية، إذْ يعود نصرالله بعده إلى المصريّ، بإنسانيته وثقافته وتحوّلات مجتمعه وناسه، وبهموم بلده، من دون انقطاع عن متغيّرات العالم، متابعة وتنبّهاً ورصداً. الاستثناءُ فلسطينيٌّ، ينبع من ارتباط يُسري نصرالله بشأنٍ، لن يشعر إزاءه باغترابٍ منذ وعي شبابي أوّل له. فتأثيرات "نكسة 67" وما يتلوها من تأثيرات متفرّقة غير مرتبطةٍ بالهمّ المصريّ البحت، بل بمدى اتّساع رقعة الانكسارات والتحوّلات والتساؤلات، عربياً بشكل خاص. "باب الشمس" يمنح نصرالله فرصة اختبار الاشتغال السينمائي في نوعٍ يقترب من الملحميّ، ويميل إلى التأريخ الفردي لمسألة عامة، ويذهب في لغة الصورة إلى محاكاة فرادة النصّ في مزجه الروائي بالتاريخي، عبر قصة حبّ، وسيرة هجرات، وأسئلة انتماء وانفعال واقتلاع وهوية ومشاعر.

عودة إلى مصر بعد فلسطين

العودة السينمائية إلى مصر تصبو إلى استكمال مشروع يُسري نصرالله في تفكيك الذات الفردية، وما يصنعها من انفعال وتفكير وارتباطات وعيش ومواجهات وتحدّيات، بدءاً من "جنينة الأسماك" (2008)، ثم "احكي يا شهرزاد" (2009)، وصولاً إلى "الماء والخضرة والوجه الحسن" (2016)، من دون تجاوز "ثورة 25 يناير" (2011) المصرية، التي تضع نصرالله، وكثيرين غيره، أمام لحظة التغيير المنشود، لكنْ مع تمعّن عميق ولاحق في أهوال اللحظة وتداعياتها، قبل أن ينكشف حجم الخراب والفساد والعنف، وهذه غير ظاهرةٍ مباشرة، فنصرالله يكتفي بروائيّ طويل مستمدّ من تلك الثورة، عنوانه "بعد الموقعة" (2012)، وبآخر قصير، بعنوان "داخلي/خارجي"، في الفيلم الجماعي "18 يوم" (2011)، المؤلَّف من 10 أفلام قصيرة. أي أنّ التساؤلات السجالية والنقدية والتحليلية للثورة غير مطروحةٍ في فترة قليلة للغاية، تفصل بين لحظتي اندلاعها وإنجاز الفيلمين في عامٍ وبضعة أشهرٍ، لا أكثر.

"بعد الموقعة" يستند إلى حادثة مشهورة، تُعرف بـ"موقعة الجمل"، وتتمثّل بهجوم "بلطجية" نظام حسني مبارك، في 2 شباط 2011، على متظاهري ميدان التحرير، ممتطين جِمالاً وبِغالاً وخيولاً. لكنّ نصرالله يتعمّق أكثر في ما يُشبه سيرة بلطجي (باسم سمرة) في حيّه وعائلته وبيئته، وفي علاقته بنظام متكامل في الاجتماع والحياة والسياسة والحكم، محاولاً (نصرالله) تفكيك شيءٍ من تلك السيرة، وفهم مكنونات نَفْس البلطجي وروحه وانفعالاته. أمّا "داخلي/خارجي"، فيكشف شيئاً من علاقة مصريين ومصريات بثورةٍ، مندلعةٍ في لحظةِ تخبّط وانهيار وقهر وكبت ورغبات في خلاصٍ معطّل، عبر سرد حكاية زوجين (منى زكي وآسر ياسين)، يختلف أحدهما عن الآخر في كيفية التعاطي مع الثورة، فالزوجة تريد مشاركة حيّة، والزوج رافضٌ، والنهاية معقودة على كسر حاجز الخوف، وعلى أولوية المواجهة سعياً إلى تغيير.

أفلام ما بعد "باب الشمس" منخرطةٌ في أحوال أناسٍ، يبحثون عن خلاصٍ أو تمرّد (جنينة الأسماك)؛ أو يحلمون بصفاءٍ غائبٍ، فالمرأة، تحديداً، تعاني، ونصرالله يضعها أمام الكاميرا كامرأة أولاً، ثم كزوجة وحبيبة ومستقلّة في عيشها وتفكيرها وعلاقتها بنفسها (إحكي يا شهرزاد)؛ أو يختبرون بهاءً وجمالاً حاضِرَين في ريفٍ يجمع بعضهم في احتفالٍ، تنكشف فيه مَوَاضي أفراد وبيئة وعلاقات، ويُبرز (الاحتفال) راهناً إنسانياً شفّافاً وبهيّاً (الماء والخضرة والوجه الحسن). لكنّ تحديدات كهذه غير لاغيةٍ تمدّد كلّ فيلمٍ على مساحات أوسع، في بحثٍ سينمائي في راهنٍ مصري، يُمكن أنْ يتماهى براهن إنساني/بشري عربيّ أيضاً.

مقالةٌ كهذه، مكتوبةٌ بمناسبة تكريم يُسري نصرالله في عمّان، غير قادرة على إحاطة نقدية متكاملة لسيرة مهنية، يتداخل فيها الحياتي بما يملكه الحياتي من تأثّرات ومناكفات ومواجهات، ومن بحثٍ دائمٍ عن إجاباتٍ، أو عمّا يُشبهها، على الأقلّ. أو ربما لن يكون نصرالله معنياً بإجابات، فالأهمّ عنده مهمومٌ بكيفية تطوير أدوات الاشتغال السينمائي، وبكيفية معاينة الحاصل في مصر والعالم العربي والعالم.