كلاكيت:

السينما ومَقتلة مرفأ بيروت: اشتغالات باهرة عن واقع قاسٍ

2022-08-05 00:00:00

السينما ومَقتلة مرفأ بيروت: اشتغالات باهرة عن واقع قاسٍ
من فيلم: اخطبوط

"إلى أين يذهب المرء بعد نهاية العالم؟"، تسأل الراوية (سرد: زهور محمد) في "زهور زرقاء عديمة الرائحة تستيقظ قبل أوانها" لبانوس إبراهاميان. "كم أنّها بشعةٌ نهاية العالم"، يذكر راوي "ورشة" لجان كلود بولس. "4 آب كان إعلان حرب"، يقول إيلي داغر في "إعلان حرب"؛

عشية الذكرى السنوية الثانية للانفجار المزدوج في مرفأ بيروت (4 آب 2020)، يُطرح سؤال عن علاقة السينما اللبنانية بهذا الفعل الجُرميّ، المستمرّة تأثيراته الخطرة والعنيفة في إحداثِ شروخٍ في الذات والروح والعلاقات والتفاصيل اليومية، للبنانيين ولبنانيات كثيرين، ولأناس مُقيمين في البلد، وبعضهم/بعضهنّ يُصاب بجروحٍ مختلفة، بسبب هذا الانفجار المزدوج، الذي يرى البعض أنّ "تفجير" أفضل وصفٍ له، خاصة أنّ ردة فعل النظام الحاكم برمّته تؤكّد، بشكلٍ أو بآخر، مسؤولية أطرافٍ فاعلة فيه عن تلك الجريمة، التي تُصرّ (تلك الأطراف نفسها) على منع التحقيق القضائي فيها، ومنع إحقاق عدالةٍ مطلوبة.

يصعب إنتاج أفلامٍ كثيرة، تتناول جريمةً كهذه، أو جرائم أخرى يشهدها البلد ويعيشها الناس يومياً، أقلّه منذ نهاية صيف 2019، أي عشية اندلاع "انتفاضة 17 أكتوبر" المعطوبة والمعطّلة. رغم هذا، تُنجز أفلامٌ، وثائقية وقصيرة، يختبر مخرجوها/مخرجاتها أساليب متنوّعة في مقاربة أهوال الفعل الجُرميّ، والمصائب المنبثقة منه، مع ميلٍ كبيرٍ إلى الذاتيّ والشخصيّ والفرديّ، في مقابل أفلامٍ قليلة تستعيد شيئاً من تاريخ المرفأ والمدينة والحياة فيهما، بحثاً في مسائل الهوية والعمارة والتصميم المديني والنسيج الاجتماعي؛ أو تكتفي بمراقبة التأثيرات الحادّة للفعل نفسه على أناسٍ مُقيمين في محيط المرفأ.

الاكتفاء بالمراقبة مبنيٌّ على اشتغال سينمائي، يوثِّق ملامح أناسٍ ومعالم مدينة، بعد وقتٍ على الفعل الجُرميّ، في محاولةٍ، فنية وجمالية ودرامية، التقاطَ معنى الحاصل وما بعده، ومدى عمق التشوّه في روحٍ وذاتٍ وأزقّة وفضاء. كريم قاسم يُراقب هذا كلّه، في "أخطبوط" (2021، 64 دقية) بعينٍ ثاقبةٍ، وكاميرا تحذف كلّ كلامٍ، فما من كلامٍ يُقال في لحظةٍ مليئة بقهر وخراب وغضب، والصمت أجمل تعبيرٍ وأصدق بوح.

المتتاليات البصرية تكشف مساحات شاسعة من مدينة منغلقة على ضيق واختناق وحصار. الموت كثيف، ومحاولات الخروج من هول الجريمة غير ناجحة، رغم هوامش يصنعها البعض لخروجٍ آمن كهذا. الوثائقي الآخر، "إعادة تدمير" (2021، 42 دقيقة)، مختلفٌ كلّياً، فسيمون الهبر مهمومٌ بتاريخ ومسار ومحطّات أساسية في هذين التاريخ والمسار، يعود إليهما كي يصل إلى الجريمة، مستعيداً المدينة، بساحتها ومرفئها ونسيجها الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ الثقافي، واضعاً مشروع إعادة إعمار بيروت (شركة "سوليدير") في صلب "إعادة التدمير"، ويُلمّح إلى أنّ إعادة إعمار المرفأ (بحسب ما يتردّد) غير مختلفة عن مشروع "سوليدير"، في تشويه المدينة بإعمارها المُدمِّر. لقاءات عدّة يُجريها الهبر، بينما يبتعد قاسم عنها، مُفضِّلاً منح وجوه الناس وحركاتهم ومسالكهم حرية قولٍ وتعبير صامتين، مع إضافة لقطاتٍ توحي بجانب روائيّ متخيّل، مع ضبطه في أطرٍ محدّدة وصارمة. مع الهبر، هناك معلومات ومعطيات ومشاعر، مستلّة كلّها من أرشيف وصُور وتصاميم ونصوص واشتغالات "غرافيك"، تُساهم كلّها في البناء الدرامي للنص البصري.

في هذا ما يُعزِّز مقولة/عنوان الوثائقي، فـ"إعادة تدمير" معنيٌّ بكشف الروابط بين مشاريع الإعمار وإعادة الإعمار، والتدمير المقصود لكلّ ما يصنع ميزة المدينة ووسطها ومحيطها، عمرانياً واجتماعياً وثقافياً وحياتياً واقتصادياً. ولعلّ الانفجار المزدوج/تفجير مرفأ بيروت منبثقٌ من هاجس التدمير، الذي يؤدّي (التدمير) إلى إعمار مدينةٍ غير متناسقة مع البنى الأساسية، إنسانياً وعمرانياً واجتماعياً وحياتياً، للمدن/العواصم الساحلية. وفرة المعلومات/المعطيات، التي يستند سيمون الهبر إليها، تُكثِّف مضمون الحكاية، المنوي سردها بمتتاليات بصرية، يختفي منها جميع المُشاركين/المشاركات في لقاءات، تبقى منها أصواتهم/أصواتهنّ، التي تقول شيئاً من هذين التاريخ والمسار، وصولاً إلى راهنٍ، يُراد له الاستمرار في نهج الإعمار المُدمِّر.

الصمت العميق في "أخطبوط" تمرينٌ على ابتكار لغةٍ سينمائية، تروي الحكاية، وتُصوِّر الانفعال، وتمنح أناساً وأمكنةً ومشاعر وفضاءات حيّزاً لبوحٍ يُقال من دون كلام. صمتٌ كهذا يقترب من نصوصٍ قصيرة مكتوبة في 5 أفلامٍ، مُنجزة في مشروع "بيروت... آب 2021" (المنتجة: نرمين حداد. إدارة الإنتاج: أنطوني زوين، مع "بيروت دي سي" و Danish – Arab Partnership Programme و IMs، بالشراكة مع "المفكرة القانونية"). نصوص يُصبح كلّ كلامٍ فيها، المختصر والمكثّف أصلاً، أشبه بصمتٍ يصنع من الكلمات صُوراً عن ألمٍ وغضبٍ واضطرابٍ وقلقٍ، وعن تساؤلاتٍ تتناول اللحظة وما سيليها، والهوية والمدينة والغد.

"إلى أين يذهب المرء بعد نهاية العالم؟"، تسأل الراوية (سرد: زهور محمد) في "زهور زرقاء عديمة الرائحة تستيقظ قبل أوانها" لبانوس إبراهاميان. "كم أنّها بشعةٌ نهاية العالم"، يذكر راوي "ورشة" لجان كلود بولس. "4 آب كان إعلان حرب"، يقول إيلي داغر في "إعلان حرب"؛ بينما تلتقط ساره قصقص تفاصيل مختلفة، صوتاً وكلاماً وارتباكَ صُور ونفسيات ومشاعر، لتُشير إلى أنّ الحاصل "اضطراب" (مدّة كلّ فيلمٍ منها 6 دقائق). مع لوسيان بورجيلي، تختلف المقاربة كلّياً، لاختياره لقاءً (7 دقائق) مع جوزف، الذي يجهد في إيراد اسم والدته في لائحة قتلى الانفجار/التفجير، ووضع صورتها بين صُورهم: "يُقال إنّ أكثر من 200 شخصٍ قتلوا جرّاء الانفجار، لكنْ ليس هناك، حتى اللحظة، لائحة رسمية نهائية للضحايا"، كما في نهاية "مينارفا".

جمالية الصُور والتوليف والنصوص البصرية في الأفلام الـ4 الأولى تُحيل، بشكلٍ ما، إلى ذاك الصمت العميق في "أخطبوط"، وإنْ تكن الكلمات والأصوات حاضرةٌ، فمضامينها شبيهةٌ ببهاء صمتٍ سينمائيّ إزاء جريمةٍ كتلك. أي أنّ حجم الكلام والأصوات، بما فيها من تكثيفٍ لانفعال اللحظة وما يلحق بها، مُرادفٌ سمعي لصمتٍ سينمائي، مليء بغضبٍ وألم وتأمّل والتباسات وخوف ومتاهة. كلّ نص/فيلمٍ منها مليء بارتباكِ انفعالات، وبأسئلةٍ ومخاوف، فالانفجار/التفجير يخترق أفراداً، يُعانون أهوال عيشٍ مضطرب في بلدٍ واجتماعٍ آيلين إلى الانهيار الكامل. تناول الانفجار/التفجير، بصرياً، يعكس اهتزازَ نفْسٍ وجسد وروح وانفعال، لحظة الجريمة، وما بعدها أيضاً.

إيلي داغر نفسه يُنجز روائياً طويلاً، سيكون الأول له، بعنوان "البحر أمامكم" (2021)، بعد أشهر طويلة من الاشتغال عليه (منذ ما قبل "انتفاضة 17 أكتوبر"، واللاحق بها من مصائب وأزمات وخراب). لا علاقة لهذا الفيلم بمشروع "بيروت... آب 2021". لكن المناخ، المشغول بحِرفية سينمائية واضحة ومؤثّرة وعميقة، يشي بمسارٍ يمزج بين خراب مدينة وخراب روح، ويكشف شيئاً من بهتان الحياة في مدينةٍ منذورةٍ لانكساراتٍ وخيبات وأوجاع والتباسات. كأنّ "البحر أمامكم"، بنصّه وتصويره ونبشه في أعمق ذات ومدينة وعمارة، "مُقدّمة" لـ"إعلان حربٍ"، يتمثّل (الإعلان) بالانفجار المزدوج/التفجير، الحاصل في مرفأ بيروت.

أما "مينرفا"، فيعتمد أدوات الفيلم الوثائقي التقليدي، مختزلاً إحدى أسوأ نتائج الفعل الجُرمي، المتمثّلة بمصير القتلى/الضحايا (كثيرون يرون في مفردة "ضحية" تعبيراً أفضل، فالانفجار/التفجير جريمة، والقتلى ضحايا أفعال المُجرمين)، وانعدام كلّ توثيق عنهم، لحفظ ذكراهم والعمل على إحقاق العدالة من أجلهم، بمحاكمة المسؤولين، المباشرين وغير المباشرين، عن الجريمة. مينرفا تُشبه عدداً آخر من "مفقودي" تلك الجريمة، أي غير المدرجين في لوائح رسمية. ولوسيان بورجيلي يرافق ابنها جوزف في رحلة إثبات مقتلها في ذاك اليوم المشؤوم.

اعتماد أدوات التسجيل التوثيقي التقليدي في "مينرفا"، المتناقض مع اللغة السينمائية التي تصنع الأفلام الـ4 الأخرى في مشروع "بيروت... آب 2021"، لن يحول دون أهمية الموضوع، الذي يتبيّن لاحقاً أنّ اللائحة المطلوبة غير جاهزة، وأنّ عدد القتلى يرتفع مع موت جرحى بعد أشهر على ارتكاب الجريمة، وأنّ الجريمة تولِّد جريمة أكبر وأخطر، تتمثّل بمحاربة النظام الحاكم في لبنان كلّ إمكانية لتحقيق عدالة مطلوبة.