محطات من شبكة سجون الأسد

ممالك الرعب والموت والجنون... هل واجهوك به وأنت معصوب العينين؟

2022-08-18 11:00:00

ممالك الرعب والموت والجنون... هل واجهوك به وأنت معصوب العينين؟
FATEH MOUDARRES, Al Burak, 1974 Medium: Oil on canvas

قرَّر الحزب مفاتحة صارم بكل التفاصيل، فإن أبدى ندماً أو رغبة في الخلاص من الورطة التي وقع فيها، فإن الحزب يعرض عليه المساعدة في تهريبه إلى لبنان، ليعيش بأمان خارج قبضة النظام.

كتب لي أبو النور، عبر المورس:
- لقد واجهوني بصارم أبو داوود.

*  *  *

الاسم الحقيقي لصارم هو زهير سعود، وهو طالب طب في سنته الأخيرة، وكان رفيقاً ألمعياً وعضواً في خلية نوعية تكرِّس لها قيادة منطقية دمشق اهتماماً خاصاً لإعداد أعضائها ككوادر حزبية في المستقبل.
 

في مساء أحد أيام شهر أيار 1986، وكانت حملة الاعتقالات ضد الحزب في أوجها، اعتُقِل زهير سعود خطفاً من الشارع مع رفيق يدعى محمد الصمودي، وبينما تم عزل الأخير في زنزانة خاصة، أطلق سراح زهير من فرع الأمن بعد يومين فقط إثر إذعانه ووعده بالتعاون مع المحققين لتصفية الحزب نهائياً، من دون أن تعرف قيادة الحزب أي شيء عن اعتقاله، وعما جرى خلال ذلك. ولكن لاحقاً وصلتنا رسالة من رفاقنا المعتقلين تحذّرنا من"صارم أبو عميل...". الأرجح أن الرفاق أرادوا أن يقولوا إن صارم أبو داوود عميل. حدث ذلك بعد أن تمكن محمد الصمودي من كشف حقيقة اعتقال زهير، بينما كان الأخير قد تمكن عبر علاقته القديمة بأحد الرفاق من استعادة اتصاله مع الحزب، وحاول تبرير انقطاعه عن الموعد اليومي، الذي عادة ما يستخدمه الحزب في "مواسم" الاعتقالات، باضطراره للسفر إلى قريته لسبب اجتماعي قاهر.

من ذلك اليوم بدأت مرحلة جديدة لدور زهير سعود في سلسلة الاعتقالات التي طاولت أكثر من عشرة رفاق بعضهم قياديين، حيث لم يكتف بتعريف ضباط الأمن، الذين خصصوا لمرافقته، على وجوه أولئك الرفاق، بل كانت لديه اجتهادات لئيمة للنيل من الحزب، ليس فقط عبر الكشف عن طرائق بناء المواعيد التنظيمية وإشارات الآمان والمغلفات أو الأكياس المتشابهة لتوزيع الراية الحمراء، الأمر الذي مكّن رجال الأمن من مراقبة بعض حملة هذه الأكياس في المنطقة المخصصة للمواعيد التنظيمية وملاحقتهم، وإنما أيضاً عبر طرق خبيثة ومتنوعة، فعلى سبيل المثال استثمر فقر الحزب وحاجة بعض الرفاق المتخفّين لمستلزمات منزلية كفراش وأغطية ومدفأة وغيرها، فأعلن عن وجود فائض يمكنه التبرع به، وعبر سائق الشاحنة الصغيرة التي كانت تنقل هذه الأغراض، ويصعب تبديلها ونقلها إلى شاحنة أخرى، تم التعرف على بيت يسكنه ثلاثة رفاق ومراقبته ثم اعتقالهم منه. 

خلال تلك الفترة كلَّفني الحزب بمتابعة شأن زهير من غير أن أثير ريبته، على أن أدعوه إلى المحكمة الحزبية، بوصفي رئيسها في تلك الفترة، من أجل مناقشة وضعه الحزبي وتقصيراته المتتالية ومنها تغيبه عن المواعيد الحزبية لبضعة أيام.

كان رأي قيادة الحزب أن أعمل على تربية الأمل عند صارم في أنه يمكن أن يصبح عضو لجنة مركزية، لا سيما بعد حملات الاعتقال المتتالية التي خسر فيها الحزب عدداً كبيراً من قيادييه. كان هذا الأمل كفيلاً بجعل مشغِّليه يرون فيه ورقة بالغة الأهمية ولا ينبغي حرقها مقابل تسليم أحد أو بعض القياديين، فوصوله إلى المركزية يجعل كامل مصير الحزب بين يديه.

أرسلتُ له موعداً يمرّ بسلسلة مراسلين مراقَبين عن بعد إلى أن وصل إلى الموعد معي ومع عضو آخر في المحكمة الحزبية.

عمالة صارم مرجحة لدى الحزب، ولقاءاتي معه وأسئلتي وإجاباته جعلت حقيقة عمالته مؤكدة، ولكن الحزب كان ينتظر وثيقة دامغة ليطرحها أمامه بصورة مباشرة. 

أخبرنا الرفاق في المطبعة بأن العدد الجديد من جريدة الحزب صار جاهزاً.

طلبنا عدداً من النسخ مع التأكيد على عدم خروج أي نسخة أخرى من المطبعة إلى أن تقرر القيادة توزيع العدد أو إعادة طباعته كاحتمال أرجح.

وضعنا على الصفحة الأولى من كل نسخة نقطة علّام لا تلفت الانتباه، ثم قمنا بتوزيع الأعداد على بعض مراسلي الخلايا، والطلب إلى كل منهم العودة بعد ساعتين إلى نفس مكان الموعد. وحين طلبنا استرداد أعداد الجريدة لأن هناك خللاً يقتضي إعادة الطباعة، سلَّم الجميع نسخهم باستثناء زهير.

بعد يومين وصلتنا صورة "كوبي" عن العدد الذي وصل إلى فرع فلسطين، وتبيَّن من الإشارة عليها أنها النسخة التي سُلِّمت لصارم. في الواقع وصلنا إلى هذه النتيجة عبر قريب لأحد الرفاق، كان قد فرز كمجند إجباري الى فرع فلسطين، وكان يستطيع الوصول إلى أرشيف المصادرات وتصوير الراية الحمراء، وقد سبق لهذا الصديق ونصحنا بتجنب الشوارع الرئيسية بعد أن فسَّر لنا الاعتقالات الغامضة لعدد من الرفاق خلال حملة 1986، التي كانت تجري خطفاً من الشارع، وأن ثمة بين المعتقلين من خنع وخان وبات يركب سيارة خاصة مع رجال الأمن، تجوب الشوارع الرئيسية، ليرشدهم إلى رفاق يعرفهم بوجوههم فقط، إن شاهدهم، بمحض الصدفة، في الشارع أو على مواقف الباصات، ويتم اعتقالهم.

قرَّر الحزب مفاتحة صارم بكل التفاصيل، فإن أبدى ندماً أو رغبة في الخلاص من الورطة التي وقع فيها، فإن الحزب يعرض عليه المساعدة في تهريبه إلى لبنان، ليعيش بأمان خارج قبضة النظام.

في 31 آذار 1987 اعتُقِلتُ، وفي الأيام الأولى سئلتُ عن رفاق عديدين مع بعض التركيز على صارم أبو داوود وما هو اسمه الحقيقي وأوصافه، فقلت أني لا أعرف اسمه الحقيقي، ووصفته بأنه أسمر بعينين سوداوين. كانوا يبتسمون وهم يستمعون إلى أكاذيبي التي استنتجوا من خلالها أن قيادة الحزب لا تشك بصارم أبو داوود، وإلا فما مبرر أن أحرص على عدم تقديم أي معلومة صحيحة أو يمكن أن تفضي إلى اعتقاله؟

بعد عدة أسابيع طلبني مظهر فارس رئيس الفرع ليقول:

- أريد أن أسألك عن رأيك فيما فعله رفاقك بصارم أبو داوود.

- ألا ترى أنك تسألني عن ألغاز لا أعرف عنها شيئاً؟ 

- رفاقك سملوا عينيه، وصلموا أذنيه.

- وهل هناك حزب يمكن أن يفعل مثلما تقول بأحد رفاقه؟

- نعم.. حزبكم فعلها.

- ولماذا في رأيك.. أهي هواية لدى الحزب أم مزاج؟

- بل لأن صارم إنسان محترم أدرك أن الحزب الذي كان فيه لا يمتُّ إلى الوطنية بشيء.

- كأنك تحدثني عن أساطير أو قصص من خارج زماننا.

- وإذا أثبت لك أني أقول الحقيقة تماماً، فماذا تقول عن حزبك؟

- حزبي وأعرفه جيداً. ورفاقي لا يمكن أن يفعلوا ذلك.

- وإذا أريتك صارم بعينيك؟

- أرني إياه عن قرب، وبعدها يمكن أن أقول ما عندي.

- على أية حال صارم صار واحداً منا، والاعتداء عليه هو اعتداء على أحد عناصرنا، وستدفعون مقابل ذلك ثمناً فادحاً.

تظاهرت بأني لا أفهم شيئاً من كل ما قيل.

عدت حينها إلى زنزانتي مغموماً رغم ثقتي بأن قصة صلم الأذنين وسمل العينين مجرد ادعاءات وتهويلات من مظهر فارس).

*  *  *

أحدثت كلمات أبو النور عن مواجهته بصارم ضجيجاً مكتوماً في أعماقي. 

- هل واجهوك به وأنت معصوب العينين؟

- بل رفعوا الطميشة عن عينيّ.

- هل تعلم أن رئيس الفرع حاول إقناعي قبل شهور أنكم سملتم عيني صارم وصلمتم أذنيه؟

- إنه دأبهم في الكذب، فقد حضر صارم بعينيه الوقحتين وبأذنيه وتعامل معي بوصفه محققاً. ولكن هناك تفاصيل كثيرة حدثت بعد اعتقالك، وسنحكي عنها لاحقاً.

*  *  *

طبيعي أنه لا يستطيع أي معتقَل ضمان صموده مسبقاً مئة في المئة. فتحت التعذيب يمكن لأي رفيق أن ينهار كلياً أو جزئياً، لفترة طويلة أو مؤقتة، ويمكن للآخرين أن يتفهموا ذلك. قد يكون هناك عتب أو لوم، وفي النهاية التماس للأعذار وربما الصفح. أمّا أن يتحول المرء من مناضل إلى عميل، ثم يفعل عكس كل ما كان يفعل أو ينوي، فتلك فداحة الفداحات التي أزعم أنها تقتل، أوّل ما تقتل، روح وحرية وكرامة صاحبها.

ما من دراما أكثر فتكاً، وما من تراجيديا أشد حلكة وبؤساً من ذلك.