"أيام فلسطين السينمائيّة" في غزة: السينما في الذاكرة وأفعال الاستعادة

2022-11-07 11:00:00

 في "حكايات بيتية" تبدأُ عملية الترميم التي يُمكن من خلالها اكتساب القدرة على استعادة بيت السينما المتروك في القاهرة ومن ثم بيت العائلة المتروك في سوريا، واستعادة الفعل هنا هو خياطة للحظتين متشابهتين على اختلافهما، لحظة القاهرة وسوريا، يشاركُ مجموعةٌ من كبارِ السن في القاهرة مجموعة من الذكريات الخاصة التي جمعتهم بحالة السينما، أو "السيما" كما يعبرون عنها في المحكيّة المصرية، لحظات حقيقية من المغامرة والإثارة،

انتهتْ في السادسِ من نوفمبر من العام 2022 عروض أفلام مهرجان" أيام فلسطين السينمائيّة" في غزة، والتي انطلقت يوم الأربعاء 2. نوفمبر، حيثُ عُرِضتْ الأفلامُ في ثلاثةِ فضاءاتٍ ثقافيّة، اثنانِ منها في مركزِ مدينةِ غزة، المركز الثقافي الفرنسي وبيت الغصين الثقافي، والثالث في جنوبِ القطاع بمدنيةِ رفح جاليري مجلة 28، ولقد عُرِضتْ في القطاع على مدارِ أربعةِ أيامٍ ثمانيةُ أفلامٍ مشاركةٍ في المهرجان هي: "فرحة"، "حمى البحر المتوسط"، "تحت الشجرة"، "اليد الخضرا"ء، "سائقو الشيطان"، "صارورة"، "حكايات بييتة"، "إستعادة". ولقد عُرِضتْ الأفلامُ في المساحاتِ الثلاث في أوقاتٍ مسائيّة وسط حضورٍ مقبول من المُهتمين بحالةِ العرضِ السينمائي وصناعةِ الأفلام في قطاع غزة. 

"السينما في الذاكرة والفعل المتوقف"

قبلَ ما يزيدُ عن أربعين عام، عَمِلتْ عشراتٌ من دورِ السينما في غزّة، ربمّا يكونُ أكثرها شهرةً سينما السامر، التي تم افتتاحها العام 1944 وحظيتْ في حينِهِ باهتمامٍ عالٍ، ويُمكنكَ سماع العديد من القصص والذكريات التي يتناقلها سكانُ القطاع ممن عايشوا وجود دور السينما وفترة عملها، إلا أنَّ هذا العمل لم يستمر طويلًا، فسرعان ما توقفتْ العديدُ من دورِ العرض بصورةٍ متتابعة، وندثرُ طقسُ العرضِ السينمائيّ في غزّة ولم يعدْ موجودًا في فضاءِ الممارسة العامة لثلاث إلى أربعةِ أجيالٍ متعاقبة. 

أجيالٌ كثيرةٌ لم يُتَح لها فرصة التعرّف على دُورِ العرض، ولم تشارك ولو مرّة واحدة خلالَ حياتها في حضورِ فيلمًا داخل دارِ عرض، وكانَ الشبابُ من غزّة حينَ يغادرونَ المدينة يتجهونَ بشغفٍ لمعايشةِ تجربةِ حضورِ فيلم في دارٍ للعرض، أن يعيشوا تجربة قطع التذكرة والجلوس في المقعدِ المخصص في الصالةِ المُعتمة وأمامهم الشاشة "العملاقة".

لا تبدو المشاركة في حضورِ العروضِ السنمائيّة لمهرجانِ "أيام فلسطين السينمائيّة" حدثًا قادرةً على التقليلِ من حالةِ الشعورِ بالفجوةِ الناتجة عن انعدام دور العرض السنمائيّة التقليديّة في قطاع غزة، حيث تأتي العروض في إطارِ كونها حدثًا ثقافيًا في الدرجة الأولى، فيما يعززُ من حالةِ إقبالِ الجمهورِ المُهتم بطقسِ العرض السينمائي من حيثُ كونه حالةً ثقافيّةً وليس طقسًا اجتماعيًا مفتوحًا وجماهريًا كما كان عليه الحال في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، يدعمُ باتجاهِ ذلك نوعيّةِ الأفلامِ المعروضة وما تحاولُ قوله، بالإضافةِ إلى الهويّةِ الثقافيّةِ للأماكنِ الثلاث التي تُعرضُ فيها الأفلام فهي جميعها مراكز ذات طابع ثقافي عام، وليست دور عرض سنمائيّة خاصة، إلا أن ما يَهّمُ قوله: هو أن التوقيت بالإضافة إلى الطريقة التي تُقدمُ من خلالِها الأفلام تعيدُ إلى ذاكرةِ الكبار نسبيًا حالة المشاهدة السنمائيّة المفقودة، والتي تهدفُ بشكلٍ أساسيّ إلى أن يُتاح للحضور فرصة المشاهدة والاختيار الحرّ للفيلم المُراد مشاهدتهُ دونَ أن يُحدد لذلك أهدافٌ أدائيّة معنية أو محاولة لتأطير فكرةٍ ما أو التنظير لها، لكن هذا كله يبقى غير كافٍ ليُحدِثَ حالةَ إشباعٍ لمعايشةِ طقس "حفلة مشاهدة الفيلم" المفقودة والتي يرغبُ الشباب في غزة على وجهِ الخصوص في معايشتها بكلّ ما يتصلُ بها من تفاصيلٍ صغيرةٍ تُمكِّنهم من معايشةِ الطقس السينمائي بصورةٍ قريبةٍ جدًا من الشكلِ الموجودِ في دورِ العرض: مثلاً أن  يقطعوا تذكرةً لحضورِ الفيلم ويأخذو الـ "بوب كورن" ويجلسوا في قاعةِ العرض المعتمة في المقاعدِ المخصصة لهم. كلُّ هذه التفاصيل يمكنها أن تخلق فرصًا أكثر انسجامًا ليحظى المشاركون بعروضٍ سنمائية قادرة أن تساهم في التخفيف من حالة الفقدان الهائلة لثقافة المشاهدة السنمائيّة في غزة. 

ثقافة السينما في غزة، بدايات شغف وإقبال

في فيلم "حكايات بيتيّة"، أحد الأفلام التسجيليّة التي تم عرضها في بيتِ الغصين الثقافي ضمن مجموعة الأفلام التي عُرضت في غزة، ضمن " أيام فلسطين الثقافية" لهذا العام، للمخرج السوري نضال الدبس، والّذي يحاولُ بواسطتِهِ الحديثَ عن سياقِ الفقدِ والخساراتِ المُرتبطة ِبالمكانِ المُتمثل بصورةٍ أساسيّة بالبيتِ المفقود في سوريا وسياق الذكريات المُكدسة فيه، والّذي أُجبِرَ على البقاءِ مُبتعدًا عنه إيبان فترة الثورات العربية، التي بدأت في تونس ثم مصر وسوريا، يسلطُ نضال الدبس مجموعة مقاربات فيلمه على حالةِ الضياعِ والبترِ المتواصلةِ التي تتعرضُ لها دوائرُ الفعلِ الخاصةِ به والمتصلةُ بطبيعةِ الحالِ بالفضاءِ العام، فالبيت الّذي مَكَثَ سنواتٍ يحاولُ أن يحظى به؛ ليكونَ بيتَ عائلةٍ دافئٍ وحميم وممتلئ بالذكريات يجدُ نفسه مُجبرًا على البقاء بعيدًا عنه، فيما يتلاشي تدريجيًا حضور المكان الّذي أرادَ له أن يكونَ نقطة ارتكاز للابنة الصغيرة سلمى، حالةٌ ماديّةٌ ومنعويّةٌ يُمكن للعائلةِ أن ترجعَ إليها للحصولِ على مزيدٍ من الشعورِ بالأمانِ والطمأنينة، في ذات السياق وفي القاهرة ومع مجموعة من النشطاء والمثقفين يبدأ نضال مسارًا لاستعادة دار عرض مهجورة ومتوقفة عن الفعل بعد محاولة البتر عن السياق ودوائر الفعل التي لا تكتمل.

وفي إطار كلّ محاولاتِ الاستعادة التي حَرَكَتها لحظةُ الثورة في مصر كانت استعادة السينما المُعطلة استعادةً لبيتِ العائلة الّذي تَرَكَهُ نضال في سوريا بسبب الأوضاعِ وتدهورها هناك، لحظة الثورة وما تُمَثِلَهُ من أملٍ للقبضَ على شكلِ المستقبل الّذي يريدهُ نضال الدبس لسلمى، للصغارِ أقرانها والكبار في المنطقة العربية التي كانت تموجُ في حالةٍ متتابعةٍ من الحراكاتِ والمحاولاتِ والرغبةِ في إحداثِ تغيرٍ ما. هذا المسارُ من المحاولةِ في دائرةِ الفعلِ المُتعرّضةِ طوالِ الوقتِ إلى البتر والتوقف وعدم الاكتمال هي ما تعيشهُ حالة المشاهدة السنمائيّة في قطاع ِغزة كذلك، الكثيرُ من المحاولات بدأت منذ ما يزيد عن عشرةِ سنوات، على المستوى المؤسساتي والفردي، انطلقت مجموعةٌ من المبادراتِ التي تحاولُ أن تُعيدَ من جديدٍ تأسيس البُنى المعرفيّة لثقافةِ المشاهدة السنمائيّة في القطاع، كيف من الممكن للناس أن تستعيد حقها في المشاهدة ومن ثم في وجود دار عرض، وكيف يُمكن للحراك الثقافي في غزة أن يدفع هذا المسار من المحاولات خطوات حقيقية إلى الأمام؟ 

 في "حكايات بيتية" تبدأُ عملية الترميم التي يُمكن من خلالها اكتساب القدرة على استعادة بيت السينما المتروك في القاهرة ومن ثم بيت العائلة المتروك في سوريا، واستعادة الفعل هنا هو خياطة للحظتين متشابهتين على اختلافهما، لحظة القاهرة وسوريا، يشاركُ مجموعةٌ من كبارِ السن في القاهرة مجموعة من الذكريات الخاصة التي جمعتهم بحالة السينما، أو "السيما" كما يعبرون عنها في المحكيّة المصرية، لحظات حقيقية من المغامرة والإثارة، تشبه إلى حد بعيد ما يُخبر عنه كبار السن في غزة عن تجاربهم مع السينما في سينما السامر أو النصر. 

 في غزة هناك الكثير من المساعي والجهود المبذولة في محاولة استعادة السينما المفقودة، نوادي السينما وأنشطة السينما التي تنفذ مع الصغار في أماكن ثقافية مختلفة، ومهرجانات السينما التي يتم العمل على تنظيمها والتي كان آخرها في قطاع غزة مهرجان السجادة الحمراء لأفلام حقوق الإنسان، والذي حمل هذا العام على بوستره كلمة "شوفونا" في دلالة مباشرة على الرغبة في أن يستعيد المدينة وفنانوها ومثقفوها وجمهورها حالة العرض السينمائي، فيما تؤسس مجموعة من الأجسام الثقافية العاملة في قطاع غزة أندية لمشاهدة الأفلام السينمائية، كما يتم إدراجها ضمن الفعاليات والأنشطة التي تعمل المؤسسات على تنفيذها مع جمهور الأطفال، لتكون ثقافة المشاهدة السينمائية جزءاً من حياتهم الثقافية المبكرة، ومن الجدير ذكره أنه وضمن سلسلة العروض التي تم تنفيذها في غزة خلال " أيام فلسطين السينمائية" لهذا العام تم تنفيذ ثمانية عروض لسينما الطفل في مساحة جاليري 28 ومركز تجوال الثقافي في جنوب قطاع غزة. كل هذا يأتي في إطار الرغبة في استعادة السينما من جديد، ليس بوصفها حدثًا ثقافيًا خاصًا بل بوصفها فعلًا اجتماعيًا عامًا نريد له أن يعود ويستمر.