رام الله، غزة، القدس... بلا فارق زمني!

2022-11-15 12:00:00

رام الله، غزة، القدس... بلا فارق زمني!
Sliman Mansour, Al-Quds, oil on canvas, 1979

في الطريق من معبر "الكرامة"، وحين تنعطف السيارة يساراً إيذاناً بدخول محافظة رام الله، أبادر إلى فتح النافذة كي أتنشق هواءً بارداً ونسيماً عليلاً اشتقته وإن لم يطل الغياب. حين دخلت غزة، وبعدما اجتزت حاجز "إيرز" للمرة الأولى في حياتي، مروراً بعسقلان التي يفصل أذانها عن القدس ثلاث دقائق فقط، تماماً كأذان غزة،

كنا صغاراً نناقش "إمساكية" رمضان ونتأمل عبارة لطالما تكررت على مسامعنا "رام الله...القدس بلا فارق زمني". كان صوت المذيع القادم إلينا، عبر مذياع مثبت على الحائط بعناية فائقة، يخترق هدوء الصيام ويزلزل صمت الغرفة معلناً عن وحدة الزمان والجغرافيا والأذان الذي يصدح "بلا فارق زمني" أو لنقل "بلا حواجز" بين رام الله والقدس. ولعل من نافلة القول إن واقع الحال الذي تشهده المناطق الفلسطينية اليوم بالعموم، هو القرب المكاني الذي لا مفر منه بين المستعمِر والمستعمَر. الأمر الذي يعتبر قضية مركزية وبعداً جوهرياً ساهم في إنشاء وتشكيل تراتبية المنظومة الحضرية، حيث تعين على السلطات الاستعمارية أن تتعامل مع هذا القرب بطريقة تحافظ على النظام وتضمن السيطرة على الأرض، كما ساهمت في إعاقة مشاريع التخطيط والتنمية وتجزئة الجغرافيا الفلسطينية والإمعان في الحيلولة دون التوسع العمراني للفلسطينيين وحصره بالمجمل في مراكز المدن والقرى المحاطة بثكنات المراقبة والحواجز العسكرية. 

ليس بعيداً عن هذا المشهد، تقودك الطريق من رام الله إلى غزة نحو مساحة رمادية بينية يتداخل فيها مفهوم مراقبة الأمن مع مفهوم مراقبة الأفراد، حيث تعطي إسرائيل الحق لنفسها بتوظيف تكنولوجيا المراقبة واستخدام الكاميرات والماسحات والتصاريح الإلكترونية لرصد تحركات للفلسطينيين ومراقبتهم الشاملة عبر جهاز تفتيش ينتهك خصوصيتهم، باعتبارهم كلاً إرهابيا محتملاً، ويكرس تجزئة الأرض بحجة المراقبة "لأغراض أمنية". الذريعة التي تبرر كل تقييد محتمل لحرية الحركة وعسكرة الحيز، ليس فقط على الحواجز العسكرية بل داخل بعض المدن والتجمعات السكنية الفلسطينية وعلى بوابات المساجد ودور العبادة على غرار ما يحدث في القدس والخليل، كذلك مداهمة ومصادرة تسجيلات كاميرات المحال والمنازل الفلسطينية، وما يصاحب ذلك من عمليات تدمير وتخريب ممنهج، بحجة البحث عن المطلوبين.

عقب الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية عام 1967، أبقت السلطة الاستعمارية على قانون تنظيم المدن والقرى والأبنية الأردني المؤقت رقم 79 لعام 1966، لكنها أصدرت سنة 1970 الأمر العسكري رقم 393 والذي أتاح قائد منطقة الضفة الغربية بموجبه للقائد العسكري أن يقوم بمراقبة أعمال البناء. كما أصدرت سنة 1971 الأمر العسكري رقم 418 بشأن تنظيم المدن والقرى والأبنية في الضفة الغربية، والذي خول صلاحيات الوزير، وفقاً للقانون الأردني، "للمسؤول" الذي يعينه القائد العسكري للمنطقة، وشكل ركيزة أساسية للأوامر العسكرية التنظيمية التي استمرت في الصدور تباعاً وعملت على إعاقة تطوير الحيز الحضري الفلسطيني. وقد استمرت سياسات الاحتلال الممنهجة في تفتيت الجغرافيا الفلسطينية وتقطيع أوصالها حتى يومنا الحاضر، وساهمت في تقييد وإعاقة الخطط التنموية الفلسطينية، وأمعنت في تجزئة وتغيير وجه المكان وتقييد حرية حركة الفلسطينيين ومراقبة حياتهم وحرمانهم من مجرد المشاركة في اتخاذ القرارات التخطيطية الخاصة بتطوير حيزهم، كما أوغلت في إعاقة إجراءات الترخيص والبناء ونقل وتسجيل الملكية وهدم المنشآت خصوصاً في المناطق الواقعة ضمن التصنيف الجيوسياسي "ج"، والتي تخضع للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية الكاملة.

ورغم أن نسبة الأراضي المصنفة "ج" تشكل حوالي 60% من مجمل أراضي الضفة الغربية، إلا هناك حوالي 300 ألف فلسطيني فقط يقيمون في هذه المناطق، وذلك من أصل نحو ثلاثة ملايين نسمة يتواجدون في الضفة الغربية، حيث تمعن سلطات الاحتلال بفرض القيود والمحددات في وجه كل توسع أو بناء فلسطيني محتمل، وتهدم المساكن بحجة عدم الترخيص، بل إن المحكمة الإسرائيلية العليا قد منحت للسلطات الاستعمارية صلاحية هدم مبان فلسطينية في المنطقة "أ" الخاضعة، من الناحية القانونية، للسيطرة الأمنية والإدارية الفلسطينية وفي المناطق المصنفة "ب" الواقعة تحت السيطرة الفلسطينية الإدارية، وليس فقط في المناطق "ج"، ما يؤدي إلى وجود نقص حاد في عدد الوحدات السكنية المتوفرة للفلسطينيين ويكرر تهديد السكان بالنزوح عن مساكنهم في مشهد يحاكي نكبة 1948 ونكسة 1967، بل ويحد من إمكانية تحقيق أهداف التنمية المستدامة ويقوض ركائز ومساعي إقامة دولة فلسطينية مكتملة الأركان ومتصلة النطاق.

ومما لا شك فيه أن مشاريع التخطيط الاستعماري والهندسة المعمارية الإسرائيلية وشبكات الطرق الاستيطانية والجدران الفاصلة وحواجز التفتيش التي توظف مختلف تقنيات الضبط والمراقبة، تتجاوز مسألة ترتيب وتخطيط أو تنظيم وإدارة الحيز، وتنصهر معاً في بوتقة واحدة لتوسيع رقعة المستعمرات الإسرائيلية وخلق سجن افتراضي اجتماعياً ومكانياً وترتيب مصفوفة مكانية من المعازل الفلسطينية المتشظية والمجزأة. ورغم أن استخدام وسائل الرصد والتتبع وحضور ممارسات الضبط والمراقبة العسكرية الإسرائيلية كانت وما تزال حاضرة ضمن الحيز الفلسطيني كأسلوب حياة، إلا أنها كانت مستترة خلف وسائل تمويهية عديدة، ويبدو أن جزءاً من صراع المقدسيين والفلسطينيين عموماً مع الاحتلال وإفشال محاولات تركيب كاميرات المراقبة بين أروقة المدينة المقدسة وعلى بوابات المسجد الأقصى المبارك ناتج عن انكشاف الممارسات الرقابية وخروجها إلى العلن بشكل يوجب نزع ما اكتسبته من "شرعية" سواءً بحكم الصمت أو عدم المعرفة بها، ويفتح الباب على مصراعيه أمام مساءلة ماهية الفعل أو الشيء الذي يسمى "مراقبة" والذي أحال المناطق الفلسطينية إلى مختبر ميداني لتطوير واختبار تكنولوجيا التحكم والهندسة الاجتماعية وأنظمة المراقبة، بهدف استخدامها وتسويقها. 

في الطريق من معبر "الكرامة"، وحين تنعطف السيارة يساراً إيذاناً بدخول محافظة رام الله، أبادر إلى فتح النافذة كي أتنشق هواءً بارداً ونسيماً عليلاً اشتقته وإن لم يطل الغياب. حين دخلت غزة، وبعدما اجتزت حاجز "إيرز" للمرة الأولى في حياتي، مروراً بعسقلان التي يفصل أذانها عن القدس ثلاث دقائق فقط، تماماً كأذان غزة، فتحت النافذة غير آبه بالحر ولا بهواء المكيف الذي تسرب خارجاً، ليباغتني صديقي بسؤال وأنا في أوج لقاء العاشقين وعناقهم، لماذا فتحت النافذة؟ كان جوابي سريعا كمن تحضر للامتحان مسبقاً: أريد أن أتنشق هواء غزة. في غزة لم أشعر بالغربة لحظة واحدة، وجدت مدينة نفضت غبار الحرب عن كاهلها وأتقنت ابتداع حياة برائحة الدم والموت وفرحاً بطعم الحزن لكنه لا يعرف الانكسار، مدينة تعلمت رغم الحرب والاحتلال كيف تعيش وتستمتع بالحياة. وعدتها أن أعود ثانية ووفيت، فعلتها وأدركت أن ذرائع الاحتلال واهية، وأن رام الله، وغزة، والقدس، أو إن شئت قل عكا وحيفا ويافا وعسقلان ... بلا فارق زمني!