لا تُبدي سلمى إشارات واضحة كتعبير عن الرفض أو القبول تجاه مصير الابنه، فقط صمت ومحاولة حفاظ على مساحة الهدوء والاستقلالية حتى من الابنة القادمة من ماضي الأم، مع الحفاظ على الرغبة في أن تظل أمومتها حاضر حضورًا متواضعةً تُقدمُ الحد الأدنى من محاولة الاحتواء والتفهّم.
حصلَ فيلم "بركة العروس" للمخرج اللبناني باسم بريش، على ثلاث جوائز في مهرجانِ القاهرة السينمائي المُقام خلال العام الجاري في القاهرة، ويَدفعُ حصول الفيلم على هذا العدد من الجوائز، إلى مُشاهَدتَهُ وتأملهُ وفَهمِ سياقاتِهِ وما يحاولُ قوله، وهو فيلم روائي طويل شبه صامت، حيثُ تتقلّصُ المساحة الكلاميّة إلى درجةٍ كبيرة، فيما يَحضر السيناريو على شكلِ جملٍ قصيرةٍ مُقتضبة، مقابل حضور ضاعي لمشهديّة بصريّة كثيفة وجاذبة، ولذلك فإن فهم ما يحاول الفيلم قوله، يُمكنُ استشفافه ضمنيًا بالارتكاز المباشر إلى الرؤية والمشهد والتركيز الكبير عليها في مجملِ البناءِ الفنيّ للفيلم، ويروي لنا الفيلم بالاستناد إلى ذلكِ قصة سلمي، امرأة في مرحلةِ الكُهولة، تعيشُ مُنفردةً في بيتٍ كبير، في منطقةٍ جبليّةٍ بعيدة منذُ سنواتٍ طويلة، حياةٌ هادئةٌ ومسالمة، صامتة ومتأملة ومستقلة، يحضرُ في هذه الحياة عشيقٌ طارئ تُقيم معه سلمى علاقة تبدو عابرة، لكن وبصورةٍ مُفاجئةٍ، تظهرُ الابنة ثُريا الخارجة لتوِها من علاقةِ زواجٍ فاشلة، مُطلقة وحامل وتريدُ إجهاضَ جنينها، وهذا الظهور لثريا يعيدُ دفعةً واحدة إلى واقع سلمى الهادئ ذكريات أليمة وسياق متنامٍ من الخساراتِ الذي تتعرضُ له المرأة في مجتمعِ الذكور المُهيمن.
ويُمكِنُ للمشاهدة الأولى للفيلم التقاط قضيتهُ المركزيّة والتي تدورُ حولَ واقع المرأة في المجتمعاتِ العربيّة والتي يَغلُبُ عليها محاولات الهَيمنة والسطوة الذكوريّة والخسارات الفرديّة المرتبطة بهذا السياق المُرتبك والقاسي، ومما لا شك فيه أن هذه الاتجاه في تناول قضايا المرأة في المنطقةِ العربيّة، يجدُ رواجًا واهتمامًا مؤسساتيًا يبررُ بصورةٍ واضحةٍ المُحرك وراءَ منح الفيلم هذا العدد من الجوائز، إلى جوار القيمة الفنيّة والموضوعيّة التي يَطرحُها الفليم كذلك.
الصمت مدخلًا إلى المشاهد
تاريخيًا بدأت السينما صامتة، فالمشهد كان أكثر أهمية من النص، الّذي كانَ من الممكن قرأة في الأعمالِ المكتوبة في الوقتِ الّذي كانت فيه الصورة هي المَفقود الغائب المبحوث عنه، ولذلك عَمِدّت الحالة الانتاجية السنمائيّة في سنواتِها الأولى إلى خلق المشهد، هذا المُتحرك غير القابل للإمساكِ به، وفي مسارِ نمو صناعة السينما دخل النص وكتابة السيناريو ليصبحَ مكوّنًا أساسيًا مسانداً للمشهد، إلا أننا في فيلم "بركة العروس" نرى فيلمًا صامتًا، حالة متصلة ونامية من مشاهدِ كثيفة وعميقة وجاذبة يُمكِنُ لها أن تسيطر على عين المشاهد، فيما يحضر الكلامُ كومضاتٍ مُختزلة قصيرة وغير مُكتملة في الكثيرِ من الأحيان، وبالنظرِ إلى الموضوعِ الّذي يُعالجه الفيلم وهو بشكلٍ أو بأخر، رغبة المرأة في أن تصبح كيانًا خاصًا مستقلاً متفردًا، نجدُ أن الفيلم يُعطينا شكلًا جديدًا عن الصورةِ النَمطيّة التقليديّة التي تُقدِمُ المرأة في العالم العربي بصورةٍ ثرثارةٍ كثيرة الكلام، ولديها رغبة مستمرة إلى الحديث والبوح ومشاركة الأسرار، تَظهرُ سلمى صامتةً في أغلبِ المشاهد، تتأملُ أكثر وتشاهد ما يدورُ حولها في منطقةٍ جبليّةٍ بعيدة، لا شبكة من العلاقاتِ النسائيّة من صديقات أو جارات كما يحدثُ غالبًا في واقعِ المرأة العربيّة، بل حضور فردي فارغ من الآخر، باستثناء العاشق، المُترقب في الجوار والّذي تُدخِلَهُ سلمى إلى عالمها؛ لتعزز من حالةِ استقلاليتها التي ترغب في الحفاظ عليها، دون الحاجة إلى إقامة علاقات مرهقة ومنضبطة في سياق اجتماعي فضولي ومتطّلب، ويظل الصمت هو الخيط الناظم الذي يحيك الأحداث المتتالية في الفيلم بخفة وذكاء ودون ارهاق المشاهد بحوارات قد تبدو هامشيّة وليست ذات قيمه دراميّة مؤثرة، يُشَكّلُ هذا الصمت جسرًا إلى المشاهد، ليساهم هو في صناعة الجملة المكتومة، أو إذا إردنا أن نكون أكثر دقة لتساهم هي، أيّ المرأة المُكبلة في واقع الهيمنة الذكوريّة في الحديث بدلاً من سلمى الصامتة، لا لشيء إلا لأنها تستطيع أن تفهم أكثر من غيرها هذه الرغبة الكبيرة اتجاه الصمت بعد الكثير من الأوقات التي استُنزِفتْ فيها المرأة، ومن حيث كونها أيضًا طاقه كلاميّة دون جدوى، وتبدو هذه المساحة الرحبة من الصمتِ والهدوء، الاستقلاليّة والتفرّد، هامشًا مريحًا تلجأُ إليهِ سلمى كملاذٍ آمن يعطيها الحق في التقاطِ الأنفاسِ بعدَ سنواتٍ من الركضِ والحديثِ والمحاولة في إزاحة رواسب الماضي والاسترخاء مجددًا مع الذات التي يُمكن أن تكون مستقلة في مجتمع لا يُمكنه رؤية المرأة إلا في سياق اجتماعي عام، فهي أما أم أو زوجة وذات مسؤوليات كبيرة وهذه هي الجملة التي يُمكن أن تكون جملة مفيدة وشكلًا لائقًا لحضورها، إلا أن هذه الاستراحة لا تستمر طويلاً.
الماضي كوجهٍ للراهن
ولا يُمكن لسلمى التخلص تماماً من رواسب الماضي، الّذي أرادت أن تُعفى راهنِها من ارهاصاته، حيثُ تظهر الأبنه ثريا، خارجةً لتوها من علاقةِ زواجٍ تنتهي بالطلاق، ومجددًا تجدُ سلمى نفسها في مواجهةِ ماضيها بواسطةِ حاضر ابنتها، وكأن واقع ثرايا هو امتداد لماضي سلمى، الأم التي يبدو أنها عايشتْ واقعًا قاسيًا من الاضطهاد والعنف والهيمنة والتسلّط، دون أن يعطينا الفيلم استرجاعًا مُوسعًا وواضحًا لهذا الماضي، لكنه في ذات الوقت يقدمُ لنا مَلمحًا لطريقةِ تعامل سلمى الأم مع الابنه الخارجة لتوِها من آتون واقعها الغارق في سلطويّة الذكوريّة وتَعنت الآخر المُتسلّط، واقعها الّذي هو ماضي الأم كما يمكننا أن نستدل على ذلك من خلالِ ملاحظة الطريقة التي تتعاطى فيها سلمى من حالة الابنة المُطلقة التي تأتي إليها لتقطعَ الاستراحة التي أرادت أن تركن إليها، محافظةً على حالة الصمت والشرود تتعاطى سلمى مع خبر طلاق ثريا. صمتٌ وتأمل وشرود في مشاهد تبدو وكأنها استرجاع لذات الماضي واستشراف لذات المستقل، ووجه يطرحُ مزيدًا من الأسئلة التي تبدو لا إجابات واضحة لها.
لا تُبدي سلمى إشارات واضحة كتعبير عن الرفض أو القبول تجاه مصير الابنه، فقط صمت ومحاولة حفاظ على مساحة الهدوء والاستقلالية حتى من الابنة القادمة من ماضي الأم، مع الحفاظ على الرغبة في أن تظل أمومتها حاضر حضورًا متواضعةً تُقدمُ الحد الأدنى من محاولة الاحتواء والتفهّم.
اجهاض الماضي
يقدمُ لنا الفيلم إدراكًا متقدمًا لفهم واقع المرأة في مجتمع الهيمنة الذكوريّة، تُمثِلَهُ ثريا الابنه التي تدركُ أن الطلاق لا يُمنكِهُ أن يُحدِثَ قطعًا نهائيًا مع ماضي علاقتها الفاشلة، كون أن جنينها أو بالأحرى جنينها المؤنث سيظل دائمًا المارد الّذي يخرجُ إليها من آتون الماضي؛ ليذكرها بذات المصير المُتوارث والممتد لواقع المرأة المطحون، كما تظهر هي الآن لسلمى كإشارة من ماضي الأم، بأنه لا يمكن لها أن تتحاوزه تمامًا، لأنه سيظهر دائمًا، ولذلك وبناءً على هذا الفهم، تقررُ ثريا اجهاض الماضي نهائيا بمعنى آخر، تريدُ أن تُحكِمُ حالة القطيعة مع ماضي اضطهادها الذكوريّ بقتلِ كلِّ ما يتصلُ بمشروعِ زواجِها الفاشل، ولذلك تقررُ اجهاض جنينها، كأنها تريدُ أن تُحدِثَ قطعًا في هذه الدائرة المفرغة، دائرةُ العنفِ والسلطويّة التي تتعرضُ إليها المرأة في واقع الهيمنة والتسلّط، تريدُ أن تكتبَ سطرًا أخيرًا في مسلسلِ الاضطهاد حتى وإن كان ذلك في إطار تجربتها هي، فيما تؤيدُ سلمى الأم هذه الرغبة في اكتمال القطيعة مع ماضي الاضطهاد، حيثُ تظهرُ في نهايةِ الفيلم وبعد أن تعلم بعزمِ ثريا اجهاض جنينها، كمساعد في إتمامِ عملية الاجهاض، أنّها إذن رغبة مشتركة في تجاوز الحالة التي هي ماضي سلمى وحاضرها والذي هو كذلك واقع ثريا الّذي سيكون ماضيها بعد سنوات. بهذا الطريقة يحاول الفيلم الروائي شبه الصامت أن يصرخ بصوتٍ مكتوم تجاه واقع لا يبدو أن من السهل تغييره.