غزلان العام الجديد

2023-01-01 09:00:00

غزلان العام الجديد
The Wounded Deer Painting, Frida Kahlo, 1946

أن أفهم سرّ شيوع وقبول وحضور موضة ما بعد الحداثة، في السينما والرسم والأدب والفلسفة. 

(1)

أمنياتٌ للعام الجديد:

أولاً، دعاء السكينة: "اللهمّ أعطنا القوة لكي نغيّر ما يمكن تغييره، وأعطنا الصبر على ما لا يمكن تغييره، وأعطنا الحكمة لكي نميز ما بينهما." 

  • أن تتحسّن أوضاعي المادية. (هذه أمنية كل عام).

  • أن أستمر في الحمية الغذائية التي تتقاطع بدايتها مع كل رأس سنة، وخاتمتها التعيسة مع بدايات شباط/فبراير. 

  • أن أتغلّب على خوفي من الكلاب: عقدٌ من الحياة في أوروبا، وهذا الرعب يكبر وينساح كبقعة نفطٍ تلوّثُ شواطئ سياحية.

  • أن أسهر رأس السنة إلى ما بعد منتصف الليل: لسنوات، أغفو قبل منتصف الليل بساعات، مدندناً لابني، "روح يا حمام لا تصدّق".

  • أن يلتفت النقاد إلى قصصي القصيرة. (هذه، أيضاً، أمنية كل عام).

  • أن أصبح أشجع قليلاً وأقوى وذا صوتٍ مسموعٍ واضحٍ أشوس عالٍ، في الاجتماعات والمؤتمرات والقراءات -النادرة التي أكون إليها مدعواً- كما هو حال الكثير من الكتّاب والكاتبات. أو ربما، أن أبقى كما أنا وأحسم أمري: أليس ما يناسبني ويناسب قلبي الذي يبتهج بصغائر الأمور وبدردشات هادئة مع أصدقاء معدودين، أن أكتفي براحة البال والمُهجة كمعلمي التعِس المعتزل شيخ المعرة أو قرينه الساخر المنعزل النؤاسي، وليس بالصوت البتّار الهازئ للفرسان والفارسات الأشاوس؟ 

  • أن أؤمن بالبعث بعد الموت، لأرتاح قليلاً من الحيرة، وربما لألتقي نجيب محفوظ في العالم الآخر وأسهر معه. 

  • أن أتغلّب على كسلي (الفطري، كما أعتقد؟ أم الناتج عن تركيب اجتماعي-ثقافي-ذكوري، كما تجادل زوجتي والنسويات وعلماء الاجتماع في عصرنا هذا؟) لأنجز واجباتي المنزلية: ترتيب البيت والجلي والغسيل ورمي القمامة يومياً. 

  • أن أفهم سرّ شيوع وقبول وحضور موضة ما بعد الحداثة، في السينما والرسم والأدب والفلسفة. 

  • ألا أبكي كلّ مرة يهتف فيها ياس خضر: "يا ريل طلعوا دغش، والعشق شذّابي (كذّاب)". 

  • أن يتوقف الشيب الجلف عن خضب لحيتي، ليمهلني بضع سنين قبل أن أبدو كطاغور في المنفى؛ إذ إن شيبي لا يوحي بالثقة والحكمة كما في صوره بالأبيض والأسود: بدون هيبته الصوفية وشهرته الروحية، سأبدو كعلمانيّ متشرّد في عشوائيات قبيحة قاسية تفتح قلبها للجميع، في مدن الجنوب.

  • أن أكتشف كتباً جديدة، وأستمتع بها. السنوات الماضية حفلت باكتشافات باهرة: قصص أوسامو دازاي الطويلة عن محبة الموت وانتظاره والسعي إليه من خلال الكتابة باستمرار للأحياء؛ أشعار الهندي آرون كولاتكار التي تخلط اليوميّ بالماورائي بدون تردد وبكلمات مباشرة واضحة بسيطة كنظرات سكارى شهوانية؛ صوفية سهراب سبهري الشكاكة الصادقة الكوزموبوليتانية بنفَسٍ شيعي علماني محليّ؛ نسويّة بلاجا ديميتروفا الهادئة الصافية كنهر بردى في خريفٍ من ثمانينيات القرن الماضي.

  • أن أعتاد الوحدة والعزلة والأرق.

  • أن يختفي فلاديمير بوتين. ليس أن يموت، بل يختفي، يتلاشى تماماً، ونفقد كل أثرٍ له، وكل ذكرى عنه، وعن عهده وإنجازاته وزمنه كلّه. 

  • أن أزور مسجد الشيخ لطف الله في أصفهان أو جامع الوكيل في شيراز. 

  • أن أجد حلاً لفكرة الانتحار التي تلازمني كظلّ، كشمسٍ، كصباحاتٍ مُعتمةٍ في الشمال البارد، كقبلةٍ صادقةٍ مثيرةٍ آثمةٍ نندم عليها طويلاً.

أخيراً، أن يستطيع السوريون أن يتمنّوا أكثر بقليل مما يتمنونه كل رأس سنة: ألا يكتفوا بوقف إطلاق النار، أو تأمين الكهرباء والماء والمواصلات، أو انخفاض أسعار الدجاج، أو رؤية الأبناء المهجّرين لمن هم في الداخل، أو الخروج من الخيام، أو تقبيل أيادي الآباء والامهات والأجداد والجدّات وجهاً لوجه وزيارة قبور الراحلين لمن هم في الخارج، أو المخاوف من التغيرات والانتخابات والانقلابات والانهيارات الاقتصادية في لبنان ومصر وأوروبا وماليزيا والبرازيل والجزائر والسودان، أو عودة المفقودين والمعتقلين، أو أن تقبّلَ شخصاً واحداً -منتصف ليل رأس السنة- بذهولٍ ورقّة بدون أية تراكمات عاطفية مأساوية تكاد تخنق القبلة والشهوة والسنة القادمة بأكملها. أن يقدروا، فقط، على أمنيات أكبر قليلاً وأرحب وأوسع من أمنياتهم الحزينة تلك التي تشبه دعاء رفع عذاب القبر أكثر مما تشبه البهجة الأنيقة لاستقبال العام الجديد.

وأنا أحب رأس السنة، على العكس من غرامشي المتشائم تقريباً بحرقة النفوس الشقيّة. أحب فرحة الناس، ومحاولاتهم -الفاشلة غالباً- في قلب أمورهم رأساً على عقب، وسهراتهم المليئة بالكحول والحشيش والمخدرات، أو المحافِظة التي لا تتعدّى الاستماع إلى الراديو والتلفزيون بلهفة الأطفال حول ما سيحمله المستقبل القريب؛ أحب الأمل والإيمان بقدرتنا على التغيّر والتغيير، كأننا نملك بأيدينا مفاتيح الغيب والبيت والبلد والعشق؛ أحبّ المتنبّئين وثقتهم في ضعف الناس وتعبهم؛ أحبّ الترقّب لمكالمات هاتفية مع أصدقاء وأهل يطمئنّون على حياتنا القاحلة ويُطمئنوننا -كاذبين بصفاقة- حول حياتهم الهيّنة النضرة؛ وأحبّ المشي وحيداً لساعات طويلة في برد الأول من يناير/كانون الثاني، كأنهم كلهم يرتاحون في اليوم السابع!

(2)

 

في رأس السنة، سنة 2000، كنت مع أهلي في بيروت؛ وكانت أمنية أبي، الوحيدة، في مفتتح الألفية الثالثة، أن يشيخ معنا، ومع أحفاد لم يكن لهم وجود حينها؛ أن يمتلئ بيته على الدوام بضجيج ضحك وبكاء ودلال ونقيق لا يخبو. 

أبي اليوم وحيد في دمشق، مع أمي، في بيت لا تكاد تصله الكهرباء والماء والإنترنت والألفة. وأنا، في أقصى الشمال البارد، أكرر كل يوم أمنيات أبي: أن يبقى ابني على الدوام قريباً منا، أن يسكن في حارتنا، وأن يزورنا مرتين في الأسبوع عندما يكبر، وأن أحيا عندما أشيخ مع أحفاد كثر، يملؤون البيت ضحكاً وصخباً وبكاء.

لم نكن نعلم يومها، أنا وأبي وأمي، أن الأمنيات هذه كثيرة علينا. 

لا أتشاطر أنا وأبي الكثير من الآراء، لا في الفن ولا في السياسة ولا في الحياة اليومية. ولكن، يجمعنا أشياء أخرى: فطرة اجتماعية بسيطة باشّة، وشهية لا تنضب للتفاح والبطيخ وأكباد الدجاج المطبوخة بدبس الرمان، والإيمان الغيبيّ بالحب والصداقة (تزوج كل منا بعد قصة حب عاصفة، وحافظنا على صداقات من أيام الطفولة)؛ وفوق كل شيء، ولهٌ يانع الدهر بصباح فخري، كمسمار في القلب: كنت في السادسة عشرة من عمري، أدندن مع أبي في السيارة من "دومك دوم"، كأننا "ملبوسين" بتراث يحياه ويحييه الحلبيّ الفتّان، متجهين إلى "وادي النصارى":

"يا ريت أني مرج أخضر، ويجي الغزال يرعاني
ويمطر علي الندى، ويرجع ربيع التاني".

أمنية مشتركة، خائبة، قديمة-جديدة، لم نزل نرددها، على الرغم من كل ما حصل.