عن الصديقة منتهى عقل

2023-01-13 14:00:00

عن الصديقة منتهى عقل

فرحت منتهى لفرحنا وزعلت لزعلنا، فكانت على الدوام الصديقة الوفية والصادقة والداعمة والحنونة والقلقة والمستعجلة حتى في رحيلها.

عن الصديقة منتهى التي عاشت حياتها القصيرة وهي في عجلة من أمرها؛ لقد كانت دائمة الاستعجال، تريد أن تنجز ما بيدها فوراً بلا تأجيل، من دون إهمال، واجباتها السياسية والوطنية والمجتمعية. عاشت منتهى الانتفاضة الأولى وهي على قناعة كبيرة بأنها انتفاضة الخلاص من الاحتلال، وانتفاضة التحرر، فتنقلت بين ميادين رام الله وأزقتها التي حفظتها عن ظهر قلب، كيف لا وهي ابنة هذه المدينة التي تربت في حواريها القديمة، كما أنها ابنة إحدى العائلات "آل إبراهيم" التي أسست المدينة في القرن السادس عشر. 

عاشت أحداث الانتفاضة الأولى كمناضلة في الميدان، تبدأ يومها في ساعات الصباح الباكر وتنهيه في ساعات الليل المتأخر، فكانت تشارك في التظاهرات ضد القوات الإسرائيلية، وترشقهم بالحجارة، وتوزع بيانات قيادة الانتفاضة، وتكتب على الجدران، حين كانت الكتابة على الجدران من أهم وسائل التحريض وتحفيز الناس على الانتفاض، حتى تصادقت معها وصارت مصدر إلهامها؛ فماذا ستُخبر هذه الجدران الناس الذين يخضعون لحظر التجول ليلاً؟ والعمال الذين سيذهبون صباحاً إلى أعمالهم؟ أو التجار الذين عصوا أوامر الإدارة المدنية الإسرائيلية ورفضوا الامتثال إلى جباة الضرائب الإسرائيليين؟ ماذا ستُخبر جدران منتهى أطفال الحجارة الذين سيكونون غداً من المشتبكين؟ منتهى جعلت جدران المدينة تتحدث، إذ نقلت من خلالها رسائل الانتفاضة وقيادتها، وحثت الناس على التضامن والتماسك، وكل ذلك فعلته بصمت لقناعتها بأن الانتفاضة هي لحظة الخلاص والتحرر.

ومن خلال عضويتها في نادي سرية رام الله الكشفي، والذي بدأت فيه عضوة وتدرجت إلى أن أصبحت قائدة كشفية، ساهمت منتهى في إعداد جيل من الشبيبة الكشفية شارك في إحياء العشرات وربما المئات من المناسبات الوطنية والدينية.

في جامعة بيرزيت

بحماس المنتفضين ونشاطهم انتقلت منتهى إلى جامعة بيرزيت، التي كانت مغلقة بأوامر من الاحتلال، فكانت الدروس تُتابع في مقرات موقتة أو في منازل الأساتذة والمحاضرين، وعندما فتحت الجامعة أبوابها عام 1992، بعد إغلاق طويل، عادت لتحمل مع أصدقائها أعباء العمل النقابي والطلابي، وكان همها الكبير أن تبقى الجامعة في طليعة المؤسسات التي تقود الانتفاضة والعمل الوطني والمجتمعي، فكانت قائدة طلابية متميزة همها الحفاظ على الجامعة كمنبر يحمي التعددية، كما كانت الأكثر جرأة في مواجهة الذين يسعون إلى المس بتعددية الجامعة السياسية والاجتماعية والدينية، ولا سيما في مواجهة الذين كانوا يحاولون حرف بوصلة جامعة بيرزيت كرائدة وحاضنة وطنية وسياسية فلسطينية.

كان همها الناس وصمودهم 

أصدقاء منتهى هم الناس في مزارعهم، وفي ورشهم ومصانعهم الصغيرة؛ هم صغار التجار، وفقراء الطلبة، وبائعو الأرصفة، والأطفال. لهذا قررت منتهى أن تكون إلى جانب أصدقائها فاختارت وظائف يمكنها من خلالها مساعدة هؤلاء، إذ عملت في مركز بيسان للبحوث والإنماء (هذا المركز الذي أغلقته سلطات الاحتلال بالإضافة إلى خمس منظمات أُخرى بحجة دعمها لمنظمات "إرهابية")، وعملت فيما بعد في مؤسسة إنقاذ الطفل، ثم في ممثلية النرويج لدى السلطة الفلسطينية كمنسقة لبرنامج التنمية وحقوق الإنسان. صديقتنا منتهى اختارت هذه الوظائف لتشارك الناس أعباءهم وتحثهم على الصمود والاستمرار.

عن منتهى عقل الصديقة

أعرف منتهى منذ نحو 37 عاماً، وحتى آخر يوم في حياتها في 10 كانون الثاني/يناير 2023، لا أذكر أنني رأيتها يوماً بمزاج سيء أو معكّر حتى في أحلك وأصعب ظروف مرضها الأخير الذي واجهته بشجاعة منقطعة النظير. ففي لحظات مرضها الصعبة والقاسية علينا، نحن أصدقاؤها، وعلى زوجها خالد وابنتيها نوار وسارة وابنها عمار، كانت منتهى تفكر بزواج نوار وتعليم سارة وعمار، وبشريك رحلتها الصديق الصامت خالد عليان، وأيضاً ظلت تفكر في أصدقائها وتهتم بأدق التفاصيل. وعلى الرغم من اشتداد الألم والوجع، فإن الابتسامة لم تفارقها، ولم تنسَ السؤال عن الجميع، كما لم تتوانَ عن المشاركة في جميع مناسبات الفرح والحزن.

عرفت منتهى من خلال "اتحاد لجان الطلبة الثانويين" في أواسط الثمانينيات، وكانت قيادية في هذا الاتحاد تعمل على نشر الوعي بالقضية الفلسطينية وبالعمل النقابي. وامتدت معرفتي بها إلى حواري المدينة المنتفضة وأزقتها، وبعدها إلى الجامعة. لقد كانت حاضرة في كل محطات حياتنا؛ ففي كل مرة خرجتُ بها من السجن كانت منتهى من أوائل المستقبلين، وفي كل مرة مرضتُ أو توعكتُ كانت أول الموجودين، وعندما تعرضت لكسر في ساقي وأجريتُ فيها عدة عمليات جراحية كانت هنا، وعندما تزوجتُ في العام الذي اجتاح فيه شارون الضفة الغربية كانت حاضرة. وعلى الرغم من حظر التجول قامت بدور المنظِّمة والداعية والصديقة والأخت، فكانت هذه المناسبة بالنسبة إلى منتهى بمناسبتين؛ الأولى للفرح والزواج بحد ذاته والثانية لإظهار الرغبة في الحياة رغم الموت الذي أشاعه اجتياح المدينة ومحاصرتها بالدبابات من كل حدب وصوب. وعندما أنجبت زوجتي ناي ابنتنا البكر فرح كانت منتهى موجودة، وكذلك الأمر عندما أتت ابنتنا يارا، وفي كل مناسباتنا.

فرحت منتهى لفرحنا وزعلت لزعلنا، فكانت على الدوام الصديقة الوفية والصادقة والداعمة والحنونة والقلقة والمستعجلة حتى في رحيلها.

عن الرحيل

أحبت منتهى كل من حولها، عائلتها وأصدقاؤها وزملاؤها في العمل وأهل المدينة وغيرهم، وعملت دوماً على راحتهم وسعادتهم، وربما عكست رحلة علاجها القصيرة خشيتها على من يحبونها من أن يعانوا جرّاء آلامها وأوجاعها التي كانت ستغير صورتها الجميلة وابتسامتها الرائعة. فرحلت من دون أن تسمح لمرضها "السرطان" بقهرها رأفة بمن أحبتهم، وكما كانت دائمة الاستعجال للإنجاز في حياتها استعجلت أيضاً في رحيلها، فرحلت جميلة ومتألقة في ليلة من ليالي القدس المقمرة.

إلى العزيز خالد والأعزاء نوار وسارة وعمار

لقد شاهدتم جنازة منتهى وشاركتم فيها، واستقبلتم مواكب المعزين الذين أمّوا بيت العزاء، من الجليل والمثلث والشمال والجنوب، ورأيتم تجمهر الأصدقاء المفجوعين في مستشفى المطلع في القدس وأمام مجمع رام الله الطبي؛ أتعرفون ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن الناس أحبت منتهى ونهج منتهى وعطاء منتهى وإرادة منتهى؛ منتهى التي تركت إرثاً ونهجاً جميلين، وربما في ذلك مواساة لكم برحيلها السريع.

إلى العزيزين هنيدة وإبراهيم 

ربما لم يسنح لكما الوقت لتحزنا أو لترثيا منتهى لقيامكما بواجب تنظيم جنازة وبيت عزاء لائقَين بمنتهى، وما إلى ذلك من تفاصيل لم تسمح لكما بالحزن والرثاء اللذين سيأتي حتماً وقتهما.

ارقدي بسلام يا منتهى