السينماتك: بين باريس وعمّان

2023-03-03 10:00:00

السينماتك: بين باريس وعمّان
صورة من ورشة الأرشيفات العائلية كمدخل لتوثيق المدينة. من تيسير وسيم الكردي. دار الفنون في عمّان

لا نتقصد العين هنا بمعناها التقني فقط، ولكن بموقع العين من بنية الحداثة، بصفتها حاسة ثقافية، أي أنها المعبر الأساسي للثقافة، وبلفظ أكثر تفاؤلًا أحد المعابر الأساسية للثقافة. 

في مقابلة مع أحد القنوات العربية سألني المذيع عن تعليقي بشأن إغلاق بعض المكتبات الشهيرة، ومنها مكتبة الساقي في لندن، ومكتبة الشبكة العربية في إسطنبول (والتي عادت وفتحت أبوابها بعد ذلك بفترة وجيزة)، ومكتبات أخرى في العالم العربي. أجبته، بقدر ما أتذكر إجابتي:

أزمة المكتبات في عالمنا العربي، هي من أزمة مفهوم الفضاء العام العربي، وليست فقط أزمة صناعة كتاب، أو انتشار فعل القراءة، أو حتى تزوير الكتب، أو أننا -كما يروّج من بعض الليبراليين العرب والمستشرقين وغيرهم- شعوب "لا تقرأ"، حتى مع تحول الثقافة إلى فعل استهلاكي لا-اجتماعي.

بشكل مباشر؛ مدننا العربية، وتحديدًا منذ العام 2013، ما عادت قادرة على احتواء فضاء عام، بالمعنى الاجتماعي القادر على إنتاج أو مراكمة حالة اجتماعية تشاركية، تنبني على فعل أفقي، رمزي، تشاركي. 

لعل هذا هو المدخل المناسب لفهم الساحة والحالة الثقافية العربية باعتبارها حالة اجتماعية تشاركية، مضادة لأشكال الهيمنة على تنوع أشكالها، أو هكذا يجب أن تكون من خلال المكون والممارسة الاجتماعية فيها، والسلطات التي سنشير إليها هاهنا ليست السياسية بالمعنى المباشر، إنما الثقافية بالأساس. وأما نموذجنا المشار إليه كنموذج شارح لتحولات الفضاء العام العربي والمساحة الثقافية، فهو مشروع سينماتك الذي تنفذه مؤسسة خالد شومان – دارة الفنون في عمّان. 

 والتسمية "سينماتك"، جاءت من المؤسسة الفرنسية الشهيرة "سينماتك"، التي تأسست في عام 1936.  وهي منظمة أفلام فرنسية غير ربحية تمتلك واحدة من أكبر أرشيفات وثائق الأفلام والمواد المتعلقة بها في العالم، على اختلاف أنواعها وأجناسها. وتقام في المؤسسة مجموعة فعاليات وعروض مبنية بالدرجة الأولى على الأفلام.

ظهرت المجموعة الأساسية للأرشيف حينها بجهود هنري لانجلوا ولوت إتش إيسنر في منتصف الثلاثينيات، بغية جمع الأفلام وعرضها. فكانت واحدة من أكبر المجموعات الفيلمية الأرشيفية في حينها، حتى قضت عليها القوات النازية في احتلالها لباريس. وتحديدًا أتى أمر التدمير لكل الأفلام ما قبل العام 1935، إلا أن بعض تلك الأفلام نجا من تلك العملية بجهود بعض العاملين في المؤسسة.

ومع نهاية الحرب، قدمت الحكومة الفرنسية دعمًا خاصًا للمؤسسة بغية إنقاذ ما يمكن إنقاذه، حينها، وإعادة إحياء ذلك المشروع المتميز. نذكر مثلًا أن جان لوك غودار، رائد مدرسة الموجة الجديدة (la Nouvelle Vague) ومعه  آلان ريسنيس ، وجاك ريفيت ، وفرانسوا تروفو، وكلود شابرول ، وبيير كاست، والكثيرون غيرهم قد تأثروا وأثروا في مساحة تلك المؤسسة وعروضها.

السينماتك في نسختها العربية هنا، تختلف في المبنى والسياق والحالة والأرشيف، لتفاصيل سياقية هي أكبر منها، تبدأ من عصر الصورة والانترنت، بحسناته وسيئاته، وصولًا إلى الحالة الاقتصادية والسياسية في المنطقة وغير ذلك. إلا أن السينماتك في هذه الحالة، إنما ترنو إلى مراكمة فعل اجتماعي نقدي وفني تعلمي ضمن سياقها وبشروطها، في محاولة لفهم وتفكيك العلاقة مع القوى المتنوعة في مواجهتها.

أولًا: العين

لا نتقصد العين هنا بمعناها التقني فقط، ولكن بموقع العين من بنية الحداثة، بصفتها حاسة ثقافية، أي أنها المعبر الأساسي للثقافة، وبلفظ أكثر تفاؤلًا أحد المعابر الأساسية للثقافة. 

في النهضة الأوروبية (التي أسّست للحداثة فيما بعد)، والتي قامت على الفن التشكيلي باعتباره الفن الأساسي للتنوير. قامت الحداثة بالفصل بين الحواس، وجعلت العين والأذن (السمع والنظر) الحاستين الاجتماعيتين الأهم، فيما باتت الحواس الأخرى/ الباقية متقوقعة على ذواتها لا تتمثل إلا نفسها، وموقعها في التشكيل الإنساني والثقافوي، بما لا يعدو أن يكون حضورًا على السطح الطافي، على عكس العين والأذن اللتين باتتا مشاركتين فاعلتين ومفعولا بهما ثقافويًا (حاسة الذوق كانت الثالثة من حيث الأهمية في العلاقة مع الحداثة والآخر، بل كانت كذلك حاسة لها تاريخ كولونيالي، وذلك حديث آخر). خلق ذلك التراتب حاجة إلى ربط المعنى بالبصر، من حيث الحاجة إلى نص بصري غني، و“جسدًا كونيًا/ كوزمولوجي” (تطوّر فيما بعد ليكون في عصر الإعلام السريع إلى الجسد “الميديوي المعولم”)، جسد يراه خبراء الإعلام والصورة جسدًا تشتهيه أجسادنا، بينما هو جسد تشتهيه أعيننا، وتصبو إليه، يحقق حالة من الإشباع البصريّ، كما النص الذي هو جزء منه. فكانت السينما والعين/الكاميرا في القلب منها هي الأداة الأساسية لتحقيق هذا الأمر.

يقول المخرج السينمائي السوفييتي زيغا فيرتوف في مقابلة معه عام 1923 عن الكاميرا:

“أنا عين، عين ميكانيكية، أنا الآلة، أريكم بطريقة لا غيري يراها، أنا حرّة للأبد من انعدام قدرة البشر على الحركة، أنا حركة مستمرّة، أقترب من الأشياء وأبتعد، أزحف تحتها، وأركض بمحاذاة جواد راكض، أسقط وأعلو مع الأجساد. هذا أنا، الآلة، أناور في فوضى الحركة، أسجّل الحركة تلو الحركة، في أكثر تشابكاتها تعقيدًا. حرّة من قيود الزمان والمكان، أنسق وأرتب أيّ وكلّ نقاط هذا الكون، أينما وددت أن يكون وكيفما، بطريقتي أخلق منظورًا جديدًا للعالم، ولذا أنا معرفتكم الجديدة بالعالم”.

يمكننا هنا أن نفهم -وبالذات في عصر الصورة- حجم الديكتاتورية التي تمررها الفنون البصرية، والسينما في المركز منها. فتتبع مجتزأ للدارج من السينما والأفلام، وبتربص لنصوصها البصرية يمكننا استخراج عوالم تتمركز فيها ديناميات السلطة والدكتاتورية على أنواعها (نذكر هنا تحليل جون بيرجر الفذ عن "طرائق الرؤية" في الفن التشكيلي، وكتابات آندريه بازين وبولين كايل في النقد السينمائي، وغيرهم). إلا أننا يمكننا أيضًا تتبع أنماط مقاومة في هذه البنية النصية البصرية. وهنا تأتي أهمية التيارات السينمائية غير المركزية أو الطرفية، سواءً من حيث كونها مرتبطة بتقنيات جديدة مغايرة، أو تيارات فكرية أو مخرجين عرفوا بتقنياتهم.

يسعى مشروع السينماتك في دارة الفنون إلى مواجهة السطوة والمركزية الثقافية للعين، في السينما، كفن بصري ومنتج ثقافي، بأدواتها، لا لغايات هدمها، ولكن لخلق مساحة تفاوض معها، تنتج من مجتمعات وسياقات تقع على أطراف المجال الثقافي لحاسة البصر. إذ انبنت برامج السينماتك على فكرة الثيمات والخيط الناظم، فعرضت الدورة الأولى منها أفلام جان لوك غودار، وكانت بحضور الناقد السينمائي سليم البيك، وتربصت الدورة لمنتج غودار الفني على مستوياته: البصرية، فكان نقاش عن المتن البصري للأعمال الفنية، وكادراته، وتعاقبه وتكويناته. وكان نقاش آخر عن المقولات الثقافية والسياسية والسينمائية، كل ذلك ضمن ثيمة مكونة من أربع لقاءات. لتتبعها الدورة الثانية، وبأربعة عروض، انطلقت بالأساس من فكرة حوار صحفي بين المخرجين هيتشكوك، وفرانسوا تروفو، وعرضت أربع أفلام أيضًا تجمعهما ثيمات متقاطعة وليست متطابقة. وبالتالي تطرق النقاش إلى موضوعات متعددة ومتقاطعة تباينت من التقنية السينمائية، كتكوينات الكادرات والمشاهد في الأفلام المعروضة، ومواقع الممثلين، وسلطة المخرجين على الممثلين والممثلات، والعلاقات بين التيارات السينمائية، وصولًا إلى موضوعات ذات منحى ثقافي  كالأرشيف، والمدينة، وبنية العلاقات الاجتماعية ، وسياسات التأريخ البصري، وبنية السلطات الدولانية، وغير ذلك من مواضيع متداخلة في جسد النص البصري.

تتفكك في هكذا مشاريع صلابة الاندفاع بالفنون البصرية إلى مساحات التلقي السلبي غير الفاعل، فمن خلال هذه النقاشات تنفتح فضاءات ثالثة داخل النص البصري، تقلل من هيمنة حاسة البصر، لصالح حاسة اجتماعية مهمة أخرى، وهي حاسة السمع. وحاسة السمع هي حاجة اجتماعية من حيث كونها ترتبط بالحيز/المكان، لتنتج مجالًا اجتماعيًا وتبادليًا وتأويليًا، يتسع لمن فيه.

ثانيًا: المكان: 

يطرح مارك إوجيه في كتابه "اللاأمكنة" مدخلًا لفهم أنثوروبولجيا الحداثة المفرطة، من خلال تحليل مفهوم المكان والفضاء (تلك الثنائية العدمية، ولذلك متن آخر!) التي أسقطتها الحداثة الغربية على فهمنا لأمكنتنا. إذ يقول أن: "الحداثة المفرطة تنتج اللاأمكنة"، وهي الأمكنة التي لا مبنى علائقي (وليس علاقاتي) ولا تاريخي يحدث فيها. بمعنى آخر أنها التي نمر منها مرورًا بلا معنى، نقاط عبور، حيث تنشط شبكة ضيقة من خطوط العبور ومساراته وانتقالاته. وهو ما نراه في عوالم محكومة بالفردانية والوحدة والاستهلاك والعبور. 

يقول أوجيه: لا يمكن أن يوجد المكان واللامكان بحالة نقية، ثمة أمكنة تتشكل فيه وتنشأ من جديد مجموعة من العلاقات، وتستطيع "الحيل القديمة جدًا"، و"ابتكارات الحياة اليومية" و"فنون السلوك"... أن تشق طريقها إليها، وتنشر فيها استراتيجياتها. يشكل المكان واللامكان قطبيتين هاربتين: الأولى لا يمكن أن تمحى بشكلٍ تام، والثانية لا تتحقق بشكل تام". وقد أدرك مشروع السينماتك هذا الأمر بشكل أساسي في بنائه، فذهب إلى مفهوم التفاوض بين المشاركين والأفلام، والضيوف المتحدثين، فانبنى المكان أفقيًا، ودائريًا بما يسمح للجمهور بأن يكون جزءًا من إنتاج هذا المكان الاجتماعي.

يقول بيير نورا في مقدمة كتابه "مطارح الذاكرة"، في الجزء الأول منه، أن ما نبحث عنه ونحن نجمع الشهادات والوثائق والصور وكل "المظاهر المرئية لما كان"، إنما هو اختلافنا. هذا هو الاختلاف والتعدد والتنوع الذي تؤسس له حالة التلقي في السينماتك.

المكان هنا ليس فقط مساحة فراغية عمرانية تستقبل الحدث كميًا (كما هو الحال مع علاقة المجمعات التجارية الكبرى بالسينما). إنما تنتج حالة اجتماعية تشاركية في المكان، تجعل من المكان المادي (وهو مبنى تاريخي أعيد ترميمه، ضمن مجموعة مباني دارة الفنون)، والحضور فيه، جزءًا من عملية إنتاج التجربة الاجتماعية والثقافية والفنية.

يمكننا من خلال التعمق في فهم هذا النموذج تدارك ماذا حل بالفضاءات والمساحات الثقافية عربيًا، بين التوجه الاستهلاكي الرأسمالي، والنزوع السلطوي الأبوي تجاه سلطة المكان، كما حدث مع عدد من المساحات الثقافية التي أصبحت مساحة خطابية للسلطة التي تمثلها، ولم تعد تلك المساحة الآمنة للاختلاف والتنوع، أو أخيرًا تلك المساحات الثقافية الرسمية.

ثالثًا: الإنتاج:

بتتبع الحالة النموذجية الأصلية (أو الأولى) في فرنسا للسينماتك، ومقارنتها بالعديد من مستنسخاتها حول العالم (لا يكاد يخلو مجتمع عربي من مشروع "سينماتك" ما!). يمكننا فهم أهمية أن يتحول مشروع كهذا إلى مساحة إنتاج، أيًا يكن شكل الإنتاج.

وهنا نقول أن السينماتك في دارة الفنون، في عمّان، إنما تحاول الدفع بأن تكون مساحة معرفية تشاركية، تؤدي إلى إنتاج ما، دون الخضوع إلى شكل تصنيفي له. فكانت الدورة الثانية (هيتشكوك وتروفو) معبرًا للتركيز على أفكار ما بعينها تراوحت بين التقنية السينمائية، والمقولات الاجتماعية والممارسات الفنية، المقتبسة والمستوحاة من الأفلام الأربعة، لتحويل تلك الأفكار إلى مواد مقروءة، كُتبت بيد المشاركين والمشاركات، بشكل فردي أو/و جماعي، وهنا الهدف الأسمى من تحويل عملية التلقي إلى إنتاج لمعنى، واستحقاقه.

يقول مارك أوجيه، في كتابه المشار إليه سابقًا: "الجديد هو أن العالم يمتلك معنى، أو أنه يمتلك بعضًا من المعنى أو نزرًا قليلًا منه ... إن الحاجة لاعطاء معنى للحاضر، أو بالأحرى للماضي، هي ثمن الوفرة الحداثية المفرطة ... فهذا الزمن المحمل بالأحداث التي تعوق الحاضر كما تعوق الماضي القريب، كل واحد منّا يمتلك، أو يعتقد أنه يمتلك، طريقة لاستخدامه، وهذا ما يدفعنا أكثر لكي نبحث عن معنى. إن إطالة الأمل بالحياة والوصول إلى تعايش ... يؤديان تدريجيًا إلى إحداث تغييرات عملية في نظام الحياة الاجتماعية، ولكنهما بالتوازي يوسعان الذاكرة الجمعية، والانسانية، والتاريخية، كما يضاعفان لدى كل شخص عدد المناسبات التي تدعوه إلى الإحساس بأن تاريخه يتقاطع مع التاريخ الكلي، وبأن هذا موصول بذاك".

بدا أن العالم منذ ال2011، وفي هذا الجزء منه، لم يعد يمر دون أن تدلي شعوب هذه المنطقة لما تراه فيه. وهنا وبالنظر إلى المراحل العمرية التي تشارك في صنع الثقافي والسياسي والاجتماعي في المنطقة، يمكننا أن نتنبه إلى ضرورة وجود مساحات إنتاج مغايرة قادرة على استيعاب هذه الطاقات والأجيال، دون أن تُخضعها إلى أشكال من السلطة المعرفية (العلم) والتخصصية (الإخراج وصناعة الأفلام) وحتى التقنية (الكتابة)، لتنشأ حالة اجتماعية، قادرة على تطوير ذاتها بذاتها خلال مرحلة التعلم والتجربة في السينماتك. فمثلًا، في أثناء كتابة هذه المادة ونشرها، نعلم بوجود ممارسات كتابية جماعية وفردية، تتم من خلال مساحة السينماتك في دارة الفنون، دون الارتباط العضوي المؤسسي بالمؤسسة، ولكن بالتجربة الاجتماعية.

بين باريس وعمّان، تواجه فكرة السينماتك أشكالًا متباينة ومتقاطعة من السلطات، بين حرب عالمية ثانية، إلى سلطة الرأسمال والاستهلاك، وسلطة الفرجة والعين. ولكنها قد تكون العتبة الأولى لمراكمة شكل ما من أشكال الاجتماعي والمعرفي والنقدي والفكري والفني المختلف. ولعل هذه المادة هي أولى تلك الإنتاجات.