في معنى النكبة وتداعياتها في الفكر القومي العربي المعاصر

2023-05-20 05:00:00

في معنى النكبة وتداعياتها في الفكر القومي العربي المعاصر
قسطنطين زريق

ساهمت النكبة الفلسطينية عام 1948 وما هيأ لها من أحداث جسام، في نهوض الفكر القومي العربي، وأدّت إلى تحوّلات فكرية وسياسية في النخب التي قادت حركات التحرّر في المنطقة العربية، يوم كانت "حركة القوميين العرب" في أوجها في خمسينيّات القرن العشرين وما تلاها من سنوات.

ساهمت النكبة الفلسطينية عام 1948 وما هيأ لها من أحداث جسام، في نهوض الفكر القومي العربي، وأدّت إلى تحوّلات فكرية وسياسية في النخب التي قادت حركات التحرّر في المنطقة العربية، يوم كانت "حركة القوميين العرب" في أوجها في خمسينيّات القرن العشرين وما تلاها من سنوات.

وتاريخياً شكّلت القضية الفلسطينية ونكبتها، جزءاً كبيراً من تفكير العرب طوال العقود السبعة الماضية، وإذا كانت هناك قضية احتلّت الأولوية في نفوس العرب من المحيط إلى الخليج، فهي قضية سقوط فلسطين بيد الصهاينة، حيث نتج عنها إحساس بالمذلة والخيانة من الأنظمة المتعاونة مع (إسرائيل) في الخفاء والعلن، مما جعلها تتراكم في العقل الجمعي العربي، ونتج عنها إرادة تمثّلت في مقاومة الشعب الفلسطيني التي مازالت مستمرّة.

النكبة؛ أشدّ ما ابتُلي به العرب

يؤكّد المؤرّخ والمفكّر السوري الراحل قسطنطين زريق (1909-2000)، في مقدّمة كتابه «معنى النكبة» (صدر في شهر آب/ أغسطس 1948)، أي بعد أشهر قليلة من الاقتلاع والكارثة وذروة النكبة، بأنّ هزيمة العرب في فلسطين ليست "بالنكسة البسيطة، أو بالشرّ الهيّن العابر، وإنما هي نكبة، بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى، ومحنة من أشدّ ما ابتُلي به العرب في تاريخهم الطويل، على ما فيه من محنٍ ومآسٍ".

وقد أعاد المفكّر السوري المعروف بميوله القومية، في كتابه نكبة الشعب الفلسطيني، على ما يذكر المؤرّخ والمفكّر الفلسطيني عبد القادر ياسين، في مقالة له بعنوان «نكبة فلسطين في الفكر العربي»، إلى أسباب قريبة وأخرى بعيدة. حاصراً الأسباب القريبة في ضعف الإحساس بالخطر، وبالتالي عدم تعبئة كلّ موارد الأمة لمواجهته، وعدم الاكتراث بعنصر الدعاية، فضلاً عن عدم إشراك الشعوب في النضال. ورأى أنّ "المعالجة المفروضة قريبة وبعيدة، أيضاً. تقوم أولاهما على خمسة أركان، تقوية الإحساس بالخطر، وشحذ إرادة الكفاح، والتعبئة المادية في مبادئ العمل كلّها، وتحقيق أكبر قسط من التوحيد الممكن بين الدول العربية، وإشراك القوى الشعبية في النضال، واستعداد العرب للمساومة والتضحية ببعض المصالح لدرء الخطر الأكبر".

أما المعالجة البعيدة، بحسب زريق، فسبيلها "تبدل أساسي في الوضع العربي، وانقلاب تامّ في أساليب تفكيرنا، وعملنا، وحياتنا بكاملها"، يكفل قيام كيان عربي متقدّم، قادر على أن يدرأ الخطر الصهيوني، بل أي خطر أجنبي ويتغلّب عليه، ويتيح للشعوب العربية أسباب البقاء، والكرامة، والازدهار. وأهمّ مقوّمات هذا الكيان العربي المنشود، الاتّحاد والتقدّم الصحيح، الذي يتجلّى في "أن تصبح، بالفعل والروح، لا بالاسم والجسم فقط، قسماً من العالم الذي نعيش تجاربه في نظم العيش والفكر، ونتكلّم لغته، وتتّصل بأصوله، ونضمُّ مقدراتنا إلى مقدراته". 

وفي آب/ أغسطس عام 1967، كتب قسطنطين زريق أيضاً كتاب بعنوان «معنى النكبة مجدّداً»، متحدّثاً عن النكبة التي أصابت العرب في فلسطين وفي الأراضي العربية المحتلّة، مصوّراً فداحتها، ومحلّلاً أسبابها، وباحثاً عن المخرج منها، الباعث لنهضة العرب، والمحصّن لهم ضدّ نكبات جديدة. وقد اعتبرت "حركة القوميين العرب"، التي قام فلسطينيون بقسط غير هيّن في تأسيسها سنة 1951، كتاب أبيها الروحي، قسطنطين زريق، «معنى النكبة» مرجعها الأساسي في صدد نكبة فلسطين.

وكان المفكّر اللبناني نديم البيطار (1924-2014)، ذو التوجّه القومي العروبي، أشار في كتابه: «قضية العرب الفلسطينية» في عام 1947، إلى أنّ فلسطين هي "قضية كلّ عربي مؤمن بعروبته، مجاهد في سبيل إنسانيته وحرّيته، مدافع عن ذاته وحقّه الطبيعي في كيانه القومي بهذا الوجود، هي الجرح الدامي العميق الذي طعنت به القضية العربية العامّة في صدرها، فسال دماً زكياً وجاش بالآلام والأوجاع المبرحة"، معتبراً أنّ دفاع كلّ فرد عربي عن هذه القضية التي غدت "أولى قضايا القضية العربية وأهمّها تماماً على الإطلاق"، يعني أنه "يدافع عن نفسه وذاته وحياته.

وختم البيطار كتابه هذا بالإشارة إلى أنّ فلسطين هي "جزء من (الجوهر العربي)، فكلّ البلاد العربية تشدُّ أزرها وتسندها لأنها لا تستطيع التنازل عن أي جزء من جوهرها، والجوهر واحد لا يتجزأ، وإن جُزّئ ذهبت وحدته، وهي عربية مهدّدة بعروبتها تصرخ في وجه الأمة العربية: يا أيها العرب أفيقوا واتحدّوا، ثوروا ولا تسكتوا... أسرعوا، أسرعوا، وليكن شعاركم إمّا الفناء وإمّا فلسطين".

ومن أبرز عناوين الكتب الفكرية العربية، التي تناولت نكبة فلسطين، والتي نُشر معظمها في بيروت؛ نذكر: «قضية العرب»، لمؤلّفه علي ناصر الدين، (دار الحكمة، 1955)؛ و«غيوم عربية»، لنبيه أمين فارس، (دار العلم للملايين، 1950)، و«فلسطين تاريخاً، وعبرة، ومصيراً» لشفيق ارشيدات، (دار النشر المتحدة، 1961)؛ و«كارثة فلسطين وأثرها في الواقع العربي»، لمحمد فاضل الجمالي، (دار الكتاب الجديد، 1965).

تيّار عربي في مواجهة الاستحقاقات والتطلّعات

في بيروت، أسّس طلاب وطالبات في الجامعة الأميركية "النادي الثقافي العربي" سنة 1944، كما يذكر الكاتب اللبناني محمد أبي سمرا، في مقالته الموسومة بـ «النخب العربية والنكبة: بيروت نموذجاً»، مبيناً، أنه "إذا كان مؤسّسو ذاك النادي قد واكبوا معركة استقلال لبنان (1943) وبناء مؤسّسات الدولة اللبنانية المستقلّة، فهو باشر نشاطه الفعلي في إطار التيّار العربي وحركته لمواجهة الاستحقاقات والتطلّعات العربية العامّة، التي صاغتها فئات من النُخب والجامعيين ومتخرّجي الجامعة الأميركية منذ عشرينات القرن الماضي". وكان رامز شحادة الرئيس الأول للنادي، هو من أنشأ "مكتب فلسطين الدائم" في بيروت.

وأنشأ أعضاء النادي، فترة دخول فرقة عسكرية من الجيش اللبناني إلى فلسطين للمشاركة في حرب 48، "إذاعة موجّهة إلى المناضلين في فلسطين، وحُمِلت تجهيزاتها على شاحنة قدّمتها الحكومة اللبنانية، فراحت تبثّ بياناتها اليومية من محلّة "رمل الظريف" في بيروت، حينما كانت لا تزال خالية من العمران. وعمل في تلك الإذاعة شفيق الأرناؤوط وعماد ومنح الصلح، والصحافي أنطوان نبتة".

ويشير أبي سمرة، إلى أنّ "نكبة فلسطين الكارثية، حسب وصف منح الصلح، ولّدت في الجامعة الأميركية واحداً من أعمق ردود الفعل العربية على الشعور بالهزيمة منذ انهيار السلطنة العثمانية وسيطرة الانتدابين البريطاني والفرنسي على المشرق العربي. فطلبة هذه الجامعة كان معظمهم من البلدان العربية، لا سيما من فلسطين، إلى جانب اللبنانيين. واتّخذت الفكرة العربية وحركتها بعدين جديدين أثناء النزاع على فلسطين قبل نكبتها: صارت قضية الاستيطان الصهيوني - اليهودي في الأراضي الفلسطينية قطب الحركة العربية". ويضيف: "اكتسبت تلك الحركة أثناء النكبة وبعدها طابعها الثاني: "العنف الثوري" ردّاً على الهزيمة التي حملت الشبّان العرب على وضع الواقع العربي كلّه تحت مشرحة التفكير والنقد. فصار الطلاب في الجامعة الأميركية يقولون: "هذا تفكير مصدره ما قبل النكبة، فهو مرفوض. وهذه مؤسّسات ونشاطات ما قبل النكبة، فهي مدانة. وهذا أو ذاك أو ذلك من رجال ما قبل النكبة، فهم مستهلكون". ويذكر الكاتب اللبناني، أنه "في أجواء الجامعة الأميركية عشية نكبة فلسطين وغداتها، برز كثرة من طلابها في عالم النضال العربي القومي، أمثال الفلسطيني جورج حبش (1926 - 2008) والسوري هاني الهندي (1927 - 2016) والكويتي أحمد الخطيب (1927 - 2022) الذين كانوا من مؤسّسي "حركة القوميين العرب"".

ومع بدايات ثورات الربيع العربي في عام 2010، يلاحظ المؤرّخ والمفكّر الفلسطيني، ماهر الشريف، في مقالة له بعنوان «هل لا تزال فلسطين همّاً فكرياً عربياً؟»، أنّ الكتاب الفكري الذي يتناول قضية فلسطين وقضايا الصراع العربي – الإسرائيلي ما عاد يحتلّ مكانة متميّزة في المكتبة العربية، كما كانت الحال عليه في خمسينيّات القرن العشرين وستينيّاته، وأنّ كثيراً من الموضوعات الفكرية الجديدة، أو المتجدّدة، راحت تزاحم الكتاب الفلسطيني على عقول القراء العرب بعدما ظهرت أفكار حديثة شديدة الحيوية مثل الديمقراطية والمواطنة والإصلاح والعلمانية والمجتمع المدني والحداثة، إلخ.

ويذكر المؤرّخ والمفكّر الفلسطيني، أنّ المعبرون عن الفكر القومي العربي رأوا في كتاباتهم التي راحت تصدر منذ نهاية أربعينيّات القرن العشرين، أنّ هذا الخطر الصهيوني لا يمكن أن يُرَدّ إلّا بقيام كيان عربي قومي متّحد، معتبرين أنّ كلّ خطوة نحو الوحدة هي خطوة في سبيل النصر، وكلّ خطوة بعيدة عن الوحدة هي سير أكيد نحو الهزيمة. كما يلفت الأنظار، إلى أنّ التفاف قوى التغيير العربي حول المقاومة الفلسطينية، أدّى إلى ترسيخ القناعة بأنّ "تحرير فلسطين هو الطريق إلى الوحدة العربية". موضّحاً أنه كان من الطبيعي أن ينعكس هذا التوجّه الجديد على الكتابات الفكرية العربية بشأن القضية الفلسطينية التي راحت تركّز، منذ نهاية الستينيّات وخلال السبعينيّات، على دراسة نضال حركة المقاومة الفلسطينية وطبيعته، والفكر الذي يحرّكه، والعدو الذي يواجهه، وعلى مستقبل هذا النضال والعقبات التي تعترضه، وعوامل القوّة العربية التي يجب أن تُزجّ في المعركة من أجل ضمان انتصاره. ومن هذه الكتب التي ألّفها مفكّرون عرب، ويذكرها الشريف في مقالته، ونوردها هنا بتصرفٍ، كتابي المفكّر الماركسي العروبي السوري الياس مرقص (1927-1991)، «عفوية النظرية في العمل الفدائي» (بيروت: دار الحقيقة، 1970)؛ و«المقاومة الفلسطينية والموقف الراهن» (بيروت: دار الحقيقة، 1971)؛ وكتاب المفكّر والسياسي السوري منيف الرزاز (1919-1984)، «أحاديث في العمل الفدائي» (بيروت: دار الطليعة، 1970)؛ و«اليسار الصهيوني من بدايته حتى إعلان دولة إسرائيل» للمفكر السوري عزيز العظمة (1947-   )، (بيروت: مركز الأبحاث - منظمة التحرير الفلسطينية، 1969)؛ و«المسار الصعب: المقاومة الفلسطينية» للكاتب والناشر السوري رياض نجيب الريّس (1937-2020) والكاتبة دنيا حبيب نحاس، (بيروت: دار النهار، 1976)؛ و«النفط العربي والقضية الفلسطينية» للخبير الاقتصادي والمالي اللبناني جورج قرم (1940-   )، (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينية، 1979)؛ وكتاب المفكّر اليساري اللبناني مهدي عامل، «القضية الفلسطينية في أيديولوجية البرجوازية اللبنانية» (بيروت: مركز الأبحاث - منظمة التحرير الفلسطينية، 1980).

وكذلك، كتب المفكّر السوري صادق جلال العظم (1934-2016)، «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (بيروت: دار الطليعة، 1969)؛ و«دراسات يسارية حول القضية الفلسطينية» (بيروت: دار الطليعة، 1970)؛ و«دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية» (بيروت: دار العودة، 1973)؛ و«الصهيونية والصراع الطبقي» (بيروت: دار العودة، 1975)؛ و«سياسة كارتر ومنظرو الحقبة السعودية» (بيروت: دار الطليعة، 1977)؛ و«زيارة السادات وبؤس السلام العادل» (بيروت: دار الطليعة، 1978). 

خمس وسبعون عاماً وما زالت النكبة مستمرّة

يحاول الشريف في مقالته المذكورة أعلاه، اكتشاف الأسباب العميقة لانحسار الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية منذ نحو ربع قرن؛ هذا الانحسار الذي يجد تعبيره الأمثل فيما يُسَمّى سقوط الرهان على المقاومة في إحداث التغيير والتقدّم، وفي أنّ نكبة فلسطين ما عادت الوحيدة التي حلّت على العرب، وإنما تبعتها نكبات أُخرى، الأمر الذي جعل الكلام على أولوية الوحدة العربية كطريق إلى تحرير فلسطين، أو أولوية التحرير كطريق إلى الوحدة، ينزوي لمصلحة الكلام على الحداثة والتنوير وغير ذلك.

والمعروف أنّ الإنتاج الفكري العربي عن قضية فلسطين وعن الصراع الدائر بشأنها تأثر، إلى حدٍّ كبير، بالتطوّرات التي شهدتها هذه القضية منذ نكبة 1948، لترابطها الوثيق بالأوضاع العربية. وفقاً لصاحب «فلسطين في الكتابة التاريخية العربية: دراسات في حالة البحث» (2016)، الذي يرى أنه "في خمسينيّات القرن العشرين حتى أواسط ستينيّاته، ازدهر هذا الإنتاج بالارتباط مع المدّ القومي والوحدوي العربي. ومنذ هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وطوال السبعينيّات، راح هذا الإنتاج يتطوّر بالتوازي مع تصاعد نضال حركة المقاومة الفلسطينية المسلّحة، ودخول منظمة التحرير الفلسطينية إلى مسرح الأحداث بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. ومع حلول الثمانينيّات، وبعد الهزيمة التي لحقت بمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان في سنة 1982، وما تمخض عنها من نتائج، بتنا نشهد، كما أفترض، تراجعاً في اهتمام منتجي الفكر العربي بالقضية الفلسطينية، وهو تراجع راح يتعمّق في التسعينيّات نتيجة جملة من العوامل الفلسطينية والعربية التي جعلت الانشغال بالهمّ الفلسطيني يندرج من جديد في إطار همّ عربي أوسع، إذ صار المفكّرون النقديّون يعتبرون أنّ تأخر العرب على الصعيد المجتمعي هو في أصل نكبات العرب المتعاقبة، منذ سنة 1948، وأنّ تجاوزهم لهذه النكبات لن يكون إلّا من خلال امتلاكهم أسس الحداثة المجتمعيّة".
وفي دراسة قدّمها الكاتب والروائي اللبناني الياس خوري، كمحاضرة في "معهد الدراسات المتقدّمة" في برلين، في 22 أيار/ مايو 2011، قرأ صاحب الملحمة الروائيّة «باب الشمس» (1998)، النكبة من خلال استعادتها الأدبين الإسرائيلي والفلسطيني، عبر وضعهما في سياق ثنائية الحضور/الغياب، التي فرضها التأويل الإسرائيلي للحاضر الفلسطيني. الافتراض الرئيسي، فرأى أنّ "النكبة ليست حدثاً تاريخياً أُنْجِزَ في سنة 1948، وإنما هي مسار مستمرّ لم يتوقّف منذ ثلاثة وستين عاماً (مرّ اليوم 75 عاماً)، أي أنّ قراءتها بصفتها ماضياً تحجب حقيقتها، فالمسار النكبوي مستمرّ ويتّخذ أشكالاً متعدّدة، بحسب المراحل التاريخية، فالنكبة هي حاضر فلسطين لا ماضيها".