في العودة إلى سلامة كيلة: دولة ديمقراطية واحدة لا دولة مع المستوطنين

2023-06-02 01:00:00

في العودة إلى سلامة كيلة: دولة ديمقراطية واحدة لا دولة مع المستوطنين

هذا المجتمع الديمقراطي المنشود في ظل الدولة الديمقراطية الواحدة هو التعبير الأوفى عن هزيمة المشروع الصهيوني العنصري. ولذا، لن يتحقق هذا المشروع إلا بعد هزيمة إسرائيل وتفكيك الدولة الإسرائيلية بكافة مؤسساتها وأجهزتها. 

أمام انسداد الأفق في وجه أجيال كاملة تربت وكبرت على كليشه "حل الدولتين" ودخلت نفقًا مظلمًا لا نهاية له، نجد لزاماً علينا استعادة أطروحات سلامة كيلة في سعينا إلى الرد على كل الخيارات التي طُرحت وفشلت والتي ولا يزال أصحابها يصرون على فشلهم، وهو حق طبيعي للجيل الفلسطيني الذي عاين اليأس وذاق ما ذاقه من حظوظ الهزيمة التي منينا بها جميعًا. فلا يُستغرب أن ينهض الجيل الجديد من ركام كوارث أوسلو ليتبنى طرحًا قديم بفكرته، جديد بطريقة عرضه. إن حماس الجيل لطرح الدولة الديمقراطية الواحدة مبرر كونه رأى في حل الدولتين خطرًا يهدد وجوده، وتنازلًا عن حقه في العيش الكريم على أرضه، ومسًا مباشرًا بحق العودة للفلسطينيين ضحايا التطهير العرقي عام 1948. وهم غالبية الشعب الفلسطيني الجيل الذي ذاق مرار العيش في أزقة المخيمات الضيقة، التي طحنها الفقر وضنك العيش، فصارت مرتعًا للجريمة والمخدرات. ولم تكتفِ دولة الاستيطان الإحلالي بحرمان الفلسطينيين من تفكيك تلك المخيمات والعودة لأرضهم ووطنهم، بل لاحقتهم فيها وارتكبت بحقهم أبشع صور الجريمة والإرهاب المنظم. بدءًا من صبرا وشاتيلا، ومرورًا بمجازر مخيمات غزة، انتهاءً بمخيمات الضفة الغربية المستباحة أمام آلة القتل والاعتقال الصهيونية. هذا الجيل بات يعاين حقيقة الأمر، أن هذه المخيمات أُريد أن تكون أوطانًا دائمةً لهم.

إن طرح الدولة الديمقراطية الواحدة يعلن الحرب على المشروع الصهيوني بخطاب جديد، مرتديًا ثوبه الثوري والإنساني. ويعود بالقضية الفلسطينية إلى جذورها ويضخ دماء جديدة في شرايين أبناءها وبناتها. أمام مشاريع قزمت القضية وجعلتها صراعًا على حدود، أو نضالًا من أجل مواطنة كاملة وحقوق متساوية، أو التشكي من سلوك حكومة يمينية متطرفة قد تتغير في أي عملية انتخابية مقبلة، يعيد طرح الدولة الديمقراطية الواحدة السؤال حول شرعية قيام دولة إسرائيل، التي قدمت نفسها وما تزال بأن قيامها جاء من منطلق "عدالة التاريخ للشعب اليهودي المقهور" وتحاول أن تقنع نفسها، وتقنع العالم معها، أن قيامها كان طبيعيًا وفي ظروف طبيعية، لا على أساس جريمة تطهير عرقي بحق شعب كامل. ان الاعتراف بشرعية الدولة اليهودية هو إقرار بهذا المنطق، الذي يكذبه التاريخ والجغرافيا.

وكما أكد سلامة كيلة في كتاباته الوفيرة في موضوع الدولة الواحدة، نؤكد على أن طرح الدولة الديمقراطية الواحدة  يرتكز على رفض الاعتراف بدولة يهودية في فلسطين بما هي دولة تقوم على بناء دولة خصوصية يكون فيها التفوق والغلبة  لليهود حصرًا دون غيرهم، ونؤكد رفضنا لذلك المنطق القائل بأن يهود العالم يشكلون شعبًا أو قومية واحدة، وهو أساس الفكر الصهيوني العنصري. طرح المشروع الفلسطيني لإقامة الدولة الديمقراطية الواحدة يدعو لبناء دولة القانون الديمقراطية، ولبناء المجتمع الفلسطيني الجديد القادر على تجاوز صدمات الماضي. ولسوف يعمل هذا المشروع على توفير كافة الشروط الملائمة لكي تستطيع هاتين الكتلتين الديمغرافيتين اللتين ستعيشان في فلسطين التاريخية على ممارسة حياة طبيعية قائمة على مبادئ العدالة بعد استعادة كافة الحقوق الوطنية لشعب فلسطين كمقدمة للعيش في ظل قوانين المواطنة المتساوية دون أي اعتبارات تمييزية قد ترتكز على الانتماءات الدينية أو الإثنية أو اللغوية أو الجنسية.  

هذا المجتمع الديمقراطي المنشود في ظل الدولة الديمقراطية الواحدة هو التعبير الأوفى عن هزيمة المشروع الصهيوني العنصري. ولذا، لن يتحقق هذا المشروع إلا بعد هزيمة إسرائيل وتفكيك الدولة الإسرائيلية بكافة مؤسساتها وأجهزتها. وهنا يجب التأكيد على الفصل بين اليهودي والصهيوني. وهو فصل تعزز في الآونة الأخير في العقل الجمعي الفلسطيني، وفي أبجديات المقاومة الفلسطينية. وصرنا نملك الوعي الكافي للوقوف في وجه الغرب الذي يحاول أن يصدر لنا أزمته الأخلاقية وجرمه بحق اليهود. من جهة عبر إعطاء اليهود الحق والقوة في الاضطهاد والتشريد والقتل المنظم، ومن جهة أخرى إلقاء اللوم على الضحية ان حاول أو قرر المقاومة، ووصفه بمعاداة السامية، التهمة المعلبة والجاهزة في وجه أي نقد لإسرائيل وشرعية قيامها ووجودها.

نحن نرى في الآخر، أي اليهودي غير الصهيوني والمناضل من أجل الحق والإنسانية، شريكًا لنا في معركة التحرير: تحرير فلسطين وعودة أهلها لها وتحرير اليهود من هيمنة الأيديولوجية الصهيونية عليهم وذلك في نضالنا لتفكيك المستوطنة الكبرى المسماة إسرائيل. أما الصهيوني فلا تجاور بيننا، ولا مكان له في الدولة أو المجتمع. بل هو مجرم لزامًا على الدولة والمجتمع تقديمه للعدالة والمحاسبة جراء جرمه التاريخي. وتكون تلك الدولة حامية للمجتمع من الأفكار العنصرية وعلى رأسها الفكر الصهيوني. لقد شهدت الأجيال اليهودية التي تربت ونشأت على أرض فلسطين سيرورات من الارتباط بالمكان الفلسطيني، وهذا من شأنه أن يعزز من فرص فرض قيم المواطنة كأساس للحمة المجتمع المدني التعددي بمكوناته المتخالفة والمتمازجة ففلسطين شهدت في ماضيها السحيق ذلك التمازج بين أصحاب الأرض من المقيمين وأولئك الوافدين الغرباء.

إن بناء فلسطين الغد مع من يكون حاضراً ومشاركاً من اليهود المؤسرلين الحاليين هو بناء مع اليهود المتحررين من الفكر الصهيوني العنصري الإقصائي، ولذا، يتوجه خطاب الدولة الديمقراطية الواحدة لهم نظراً لاعتباره لهم كضحايا للصهيونية، ونحن نسعى لتحريرهم منها كما نسعى لتحرير أنفسنا. وهنا يجب أن ترسخ هذه القناعة يعيشون في فلسطين اليوم هم ضحايا الصهيونية، وكل يهودي يناضل في وجه الفكر الصهيوني الاستعماري هو شريك لنا في نضالنا ومجتمعنا ودولتنا. وكل يهودي يصر على صهيونيته هو عدونا الأزلي، نسعى لطرده من أرضنا، ومحاسبته على جرمه بحقنا.

هذا الخطاب الحداثي والإنساني في المقام الأول قد لا يروق للكثيرين، وقد يوصف بأنه استجداء للمستعمرين، وقبول بدولة المستوطنين. وهذا الاتهام الباطل، الذي ننفيه جملة وتفصيل، والذي ينطلق من سوء فهم أحيانًا، وعن قصد أحيانًا أخرى كونه يطالب بالتنازل عن امتيازات اعتادتها أطراف محلية وإقليمية. هذا الاتهام منتظر وغير مستغرب. كون هذا المشروع الديمقراطي يشكل خطرًا وجوديًا على الأنظمة الرجعية وأبواقها وأذرعها التي باتت اليوم حليفًا لدولة الاستيطان الإسرائيلية، وتبنت روايتها بشكل وقح وفض عشية الهجوم الهمجي على المصلين في المسجد الأقصى. هذا "البعد العربي" كما يحلو للبعض تسميته لن يكون شريكًا في نضال ديمقراطي تحرري. كونه في الأساس مستفيد من وجود دولة إسرائيل كحليف وقربان يقربهم للعم الأمريكي، وكون أي مشروع ديمقراطي سيشكل اندثار لها وسقوط أمام موجة التحرر لشعوب المنطقة التي سترافق قيام الدولة الديمقراطية الحديثة. والأمر ذاته بالنسبة للأنظمة التي رفعت شعار "الموت لإسرائيل" ثم وجهت آلة الحرب في وجه شعوبها. تلك الأنظمة الدكتاتورية ايضًا عدو للمشروع الديمقراطي. وتجاربنا معها كانت مريرة وقاسية وعنيفة جدًا، كيف لأنظمة كتمت أنفاس شعوبها وسدت أفواههم أن تكون شريكًا ديمقراطيًا؟ وعندما قررت شعوبها المقهورة الخروج لالتقاط أنفاسها، هاتفةً باسم الحرية، لاقتها بالدبابات والطائرات والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية. تلك التي خُزنت وتراكمت من أجل "إبادة إسرائيل وتحرير فلسطين" في إطار "محور المقاومة".

إن ما يسمى اليوم "محور المقاومة" ما هو إلا مشروع طائفي مؤدلج، وغطاء لفكر عنصري يحمل مشاريع سياسية للمنطقة. هذا المحور الذي تلطخت أيديه بدماء الفلسطينيين والسوريين واليمنيين والعراقيين واللبنانيين، وأغرق البلدان العربية في أتون حرب طائفية سنية شيعية لم يشهد لها التاريخ مثيل. إن هذا المشروع مزق المجتمعات التي وصلتها شروره شر ممزق، وما الخطاب المعادي لإسرائيل إلا محاولة لكسب شرعية شعوب المنطقة التي اكتوت من نيران المشروع الصهيوني وتاقت شوقًا لتحرير فلسطين. وإن الشواهد على الأرض تظهر ذلك للعيان دون مواربة، والشمس لا تغطى بغربال. لا، لن تمر علينا مشاريع سياسية وأيدولوجية باسم تحرير فلسطين، بل ونرفض استخدام اسم وطننا لإضفاء الشرعية على مشاريع وأنظمة رجعية.

ختامًا، إن مشروعنا الإنساني والحداثي الساعي لبناء دولة ديمقراطية لكل مواطنيها، لا ينظر فيها أفراد المجتمع لبعضهم كعربي أو يهودي، كمسلم أو مسيحي، بل يرون أنفسهم شركاء الوطن والمواطنة. وهذا ما يمثّل قطيعة، ليس مع الأنظمة الاستبدادية فحسب، بل مع المنطق الصهيوني والاستعماري ومع تسييسه للهوية وسعيه لتفكيك مجتمعات المنطقة، لا العالم، إلى معسكرات هوياتية. ليكن ردّنا بطرح البديل التحرري، انطلاقا من فلسطين: لا دولة مع مستوطنين، بل دولة فلسطينية ديمقراطية واحدة، من النهر إلى البحر.