لا يخلو بيت من بيوت الإيرانيين من ديوان الشاعر، شمن الدين محمد حافظ الشيرازي، هو "شاغل الإيرانيين، وسيد الغزل"، أيضًا هو الشخص الوحيد الذي يلجؤون إليه عند محاولتهم البحث عن إجابة لسؤال، أو تحقيق أمنية، يكفي أن يضمروا ما يريدون، ومن ثم الذهاب إلى ديوانه لاختيار صفحة لا على التعيين حتى يحصلوا على الإجابة.
تروي الناقدة السينمائية ندى الأزهري في كتابها "عربية في إيران: الإيرانيون كما لم نعرفهم" الصادر عن دار الساقي البيروتية تجارب وملاحظات وذكريات التقطتها وتفاعلت معها خلال فترة إقامتها في طهران ما بين عامي 2006 – 2010، مقدمة صورة مختلفة عن الدولة التي نلتقط تفاصيلها الهامشية من نشرات الأخبار اليومية، أو بعض الأعمال السينمائية، ومع ذلك تبقى مجهولة بالنسبة لنا، إلا من صراعها مع الدول الكبرى على أحقيتها في تطوير برنامجها اليومي، إيمانٌ راسخ لدى الإيرانيين بهذه الأحقية، حتى أولئك الذي يناصرون العداء للسلطات الحاكمة.
تسرد الأزهري بعيون سورية تارةً، وفرنسية تارةً أخرى تجارب معيشية، ومواقف شخصية صادفتها، خلال محادثاتها مع المثقفين والناس العاديين في لقاءاتها المتعددة معهم سواء أكان ذلك في الأسواق أو سيارات الأجرة أو الحفلات الرسمية. وهي لا تخفي الاعتراف في مقدمة الكتاب بأنها كانت متردّدة من نشر هذه المذكرات "بسبب كل ما يحدث في المنطقة، وبسبب ما قد ينجم عنها من سوء فهم من طرفين لدى كل منهما مآخذ على الآخر"، لكن قرارها في نشر هذا الكتاب يمكننا القول إنه خيار أكثر من صائب، لأنه يكشف لنا عن مختلف جوانب الحياة الاجتماعية – السياسية – الاقتصادية، لتساعدنا على فهم طبيعة هذا البلد المنغلق على ذاته.
أيام في ظهران
تفتتح الأزهري كل فصل من فصول الكتاب بعنوان فيلم لأحد المخرجين الإيرانيين، فالفصل الأول مثلًا "طهران، الوصول" تختار له فيلم "العدّاء" للمخرج أمير نادري (1985)، بينما في فصل "يوم في طهران" تختار فيلم "تحت جلد المدينة" للمخرجة رخشان بني اعتماد (2000)، أما في فصل "إيران، انتخابات 2009" فسنكون مع خيارين لفيلمين، الأول "من أجل الحرية" للمخرج حسين ترابي (1980)، والثاني "الحرب العالمية الثالثة" للمخرج هومن سيدي (2022). لا يهم إن كانت تواريخ الأفلام التي اختارت ربطها مع عناوين الفصول قديمة أو حديثة، فالمُطلع على السينما الإيرانية يستطيع إدراك حجم ارتباطها بموضوع الفصل نفسه، لتكون بمثابة مقاربة خاصة لتفاصيل التقطتها الكاتبة بعيون سينمائية خلال تنقلاتها بين المدن الإيرانية.
أولى العقبات التي واجهت الأزهري عند وصولها إلى طهران كانت مرتبطة باختلاف اللغة، وهي تظهر خصوصية غالبية المجتمع الإيراني غير المتكّلم للغات أخرى، من بينها الإنكليزية، أما العربية فهي مخصصة "لقراء القرآن والصلاة". إنها خاصية مشابهة لمعظم الدول الإسلامية غير الناطقة بالعربية، مثل تركيا، على سبيل المثال، لا الحصر. يتضح في حكايات الأزهري حجم العلاقة المعقّدة بين الإيرانيين من طرف، والعرب بشكل عام من طرف آخر، التي "تلتقي في نظرتها إلى الآخر"، فالإرث العربي الذي فرضه العرب في كتاباتهم على الفرس منذ القِدم، لا يزال سبب من بين مجموعة أسباب أخرى تخبرنا بها الكاتبة في هذه السيّرة الممتعة.
ترتبط معظم العطل الرسمية أو الأعياد في التقويم الإيراني بذكرى وفاة شخصيات دينية وتاريخية، على الرغم من أن الإيرانيين أنفسهم ليسوا أكثر اطلاعًا على أسبابها، ما يوحدهم في أي عطلة رسمية توافقهم على أنها "مناسبة حداد. أما على من، فالله أعلم"، كذلك الحال مع عيدي الفطر والأضحى "ثمة يوم عطلة واحد"، لكن الأمر يختلف مع عطلة عيد "النوروز" أطول العطل الرسمية في إيران، وله مكانة وطقوس خاصة عند الإيرانيين، منها على سبيل المثال، لا الحصر، "تخصيص طاولة في الركن عليها سبعة أشياء تبدأ كلها بحرف السين بالفارسية"، أو معايدة الأصدقاء بسبع كلمات تبدأ جميعها بحرف السين، وصفه الرئيس الإصلاحي السابق، محمد خاتمي، بأنه رمز "العدالة، الاعتدال، التسامح، واللطف".
"لقطة مقرّبة"
هناك جانب مهم في التفاصيل التي التقطتها الأزهري تكشف عن وجود شبه في عادات وتقاليد المجتمع الإيراني مع المجتمع العربي، كأن يرد عليك أحدهم حين تبدي إعجابك بشيء بالقول: "مُقدّم"، وهي من العادات السائدة في بعض المجتمعات العربية، إن لم يكن جميعها. لكن الأهم من ذلك أن اللباس المُحافظ هو السمة العامة للنساء الإيرانيات في الشارع، أما في الحفلات الخاصة المختلطة فإنهنّ يرتدينّ "ثيابًا على أحدث صرعات (صرعات بالفعل) الموضة وأنيقة وأحيانًا كاشفة لدى الشابات"، كما تقول الكاتبة في فصل "أنا والناس" الذي اختارت له عنوان فيلم "لقطة مقرّبة" للمخرج عباس كيارستمي (1940 – 2016)، والذي يوضح لنا الكثير من المفاهيم المجهولة لنا عن العادات الاجتماعية في إيران.
على مستوى علاقة النخبة المثقفة وموظفي المؤسسات العامة مع الفعاليات التي تنظمها السفارات الغربية في طهران، هناك حذر شديد يسود الجميع بلا استثناء خشية فقدان وظائفهم، لكن في اللقاءات والدعوات التي تنظم تحت رعاية الهيئات الإيرانية، فالأمر عادي وطبيعي. غالبًا ما يُنظر لتصريحات المسؤولين الإيرانيين تجاه الإسرائيليين على أنها استثمار سياسي فضفاض، لكن الكتاب يكشف أنها تعكس الرأي العام الإيراني قبل السياسيين، تقول الأزهري: "هناك تضامن فعلي مع الفلسطينيين بسبب [الظلم الواقع عليهم] هم [المستضعفون]"، ومع ذلك، فإن صديقة الكاتبة لها رأي آخر، وهناك أقتبس عن صديقتها "أنا مع حماس ومع الشعب في غزة لكننا أولى بأموالنا من حماس، كما أننا أولى بها من حزب الله اللبناني".
لا يخلو بيت من بيوت الإيرانيين من ديوان الشاعر، شمن الدين محمد حافظ الشيرازي (1325 – 1390)، هو "شاغل الإيرانيين، وسيد الغزل"، أيضًا هو الشخص الوحيد الذي يلجؤون إليه عند محاولتهم البحث عن إجابة لسؤال، أو تحقيق أمنية، يكفي أن يضمروا ما يريدون، ومن ثم الذهاب إلى ديوانه لاختيار صفحة لا على التعيين حتى يحصلوا على الإجابة. وضع الشعر في إيران – بحسب ما تنقل لنا الأزهري – جيد مقارنة مع غيرها، لدينا نحو 50 كتاب مطبوع شهريًا، كانت مهمته التاريخية "نقل المعرفة الإنسانية"، لكنه تخلّص منها الآن، بالعموم تبقى حالة الأدب بمختلف الفنون نشطة في إيران، أما بالنسبة للكاتبّات النساء فإنهن يعشنّ رقابة ذاتية "بدءًا من الرقابة المفروضة على الأعمال الأدبية واحتواء الأدراج والذاكرة كتابات سقطت ضحية هذه الرقابة، وانتهاء بالمشكلات المالية التي تؤثر في نوعية الكتابة وتسرق سكينتها".
"من أجل الحرية"
تختلف المشاهدات التي ينقلها الكتاب حول الاحتجاجات الإيرانية ضد نتائج انتخابات الرئاسة الإيرانية في عام 2009، عمّا وصلنا من وسائل الإعلام الغربية والعربية معًا، والتي انتهت بفوز المرشّح المحافظ أحمدي نجاد على حساب الإصلاحي خاتمي، تنقل لنا الأزهري الأجواء التي رافقت الحملات الانتخابية، تقدم لنا روايتها لنفهم أكثر طبيعة الأجواء الانتخابية غير المعروفة لنا. تحدثنا عن محاولات اقتحام قوات "الباسيج" للمنازل، وعن سيارة "بيك آب" داخلها عناصر من "الباسيج"، وآخرون بالملابس السوداء والأقنعة من شرطة مكافحة الشغب، وعن احتجاج الإيرانيين بالهتاف من شبابيك منازلهم مساءً بـ"الله وأكبر" و"الموت للديكتاتور"، إنها مشاهدات حقيقية ومختلفة عمّا كان يصل إلينا، وتضارب المعلومات بين خروج أو عدم خروج مظاهرة في اليوم الواحد، ومخاوف الإيرانيين من عناصر "مجاهدي خلق" التي يكرهها الإيرانيون على من مختلف التوجهات.
ومن احتجاجات 2009 تنتقل الأزهري إلى السينما الإيرانية، وفي الحقيقة تفاجئنا بموقف الإيرانيين من كيارستمي، يمكننا تلخيصها بجملة "لا كرامة لنبي في وطنه". مرةً أخرى تقدم لنا شهادة مختلفة عن الإقامة الجبرية التي فرضت على المخرج، جعفر بناهي، الممنوع من العمل والسفر، لكنه "كان يتنقل ويسافر كما يشاء داخل إيران"، على عكس سرديات الغرب والشرق معًا. تستفيد الأزهري من خبرتها النقدية للسينما، لتقدم لنا لمحة موجزة عن السينما الإيرانية من الداخل، وما تشكله من "مصدر إزعاج" للحكومة الإيرانية. حاولت السلطات محاربة السينمائيين الإيرانيين بفرض قيود رقابية وصلت لدرجة منع اللمس بين الرجال والنساء، ومع ذلك، تمكّن المخرجون من التغلب عليها، يقول أحد المخرجين: "إنه يحشو السيناريو بكل الأشياء [الفظيعة] في نظر الرقابة بوضوح كي تلتهي بها عما يريد إبرازه حقًا".
يمثل كتاب "عربية في إيران: الإيرانيون كما لم نعرفهم من قبل" شهادة بصرية معاصرة تم توثيقها بحرفية سينمائية، تستثمر الأزهري خبرتها في النقد السينمائي لتصحّح لنا الكثير من المعلومات المغلوطة عن هذا البلد المجهول، صحيح أن إقامتها الأطول كانت في طهران، لكنها لا تبخل بأن تقصّ علينا مشاهداتها للمدن الإيرانية التي زارتها لتقدم كتابًا شيقًا وممتعًا محبوك بلغة سردية سلسلة غير متكلفة لتخبرنا قصصًا عن الإيرانيين كما لم نعرفهم من قبل: "بنظراتهم وصرخاتهم".