ومع ذلك، فكل قصيدة لديها القدرة على استيعاب قصة، وكل رواية لديها القدرة على استيعاب الكثير من الشعر. وفي النهاية تبقى للشعر منزلة خاصة عندي لأنه كان أول وسيلة عبّرت بها عن نفسي، وسيبقى وليد حالات وجدانية لا أختارها ولا أسعى إليها.
بعد دواوين شعرية عدة، اختارت الكاتبة اللبنانية حنين الصايغ (1986) أن تطل على عالم السرد، وذلك في روايتها الأولى "ميثاق النساء" من دار الآداب في بيروت. عبر 393 صفحة، تحكي حنين الصايغ في روايتها، حكاية أمل بو نمر، الشابة اللبنانية الدرزية التي كبرت في مجتمع محافظ بشكل صارم، يتوارث جيلا فجيل، تقاليد وتعليمات تكاد ترسم مسارات مسبقة لأبناء المجتمع الدرزي، خصوصا في القرى الجبلية المنعزلة. إنها محاولة للحفر، وإزالة الكلس لا عن أمل بو نمر فحسب، بل عن كل من لاقى مصيرا مشابها.
عن "ميثاق النساء"، وعن الشعر، عن العمل الأكاديمي والترجمة، حاورت "رمان" الكاتبة اللبنانية حنين الصايغ… فإلى نص الحوار.
عالم الدروز منغلق وانعزالي.. ألم تخشي من اقتحام هذا العالم فنيًا؟ هل وضعت في حساباتك ردة فعل المجتمع الدرزي من حولك؟
بالطبع تطرح الرواية أسئلة ومواضيع جريئة لم يتعود عليها المجتمع الدرزي، وبالطبع تصاب الأقليات بصفة عامة بالتوجس والتشنج حين تواجَه بنقد لبنيتها المجتمعية أو العقائدية. هناك بعض الدروز الذين غضبوا من الرواية قبل قراءتها لأن عنوانها هو أيضا عنوان فصل من كتاب الحكمة المقدس. ولكن روايتي ليس بها إدانة للدروز ولا محاولة للتحامل عليهم. أعتبر "ميثاق النساء" رسالة محبة لبيئتي التي نشأت بها تتخللها زفرات من الأسى والعتاب. ومع ذلك فإن من قرأوا روايتي من خارج المجتمع الدرزي أحبوا الدروز وتعاطفوا معهم وفهموا معضلتهم. بل إني تلقيت رسائل كثيرة من نساء درزيات قَرَأن الرواية يشكرنني فيها على تسليط الضوء على معاناتهن.
يرد على لسان البطلة أن "الإحساس بالذنب خلل لا فضيلة"... فهل هو كذلك فعلًا؟ أليس الإحساس بالذنب في بعض الأحيان برهان على ضمير حي وصحي؟
يكون الشعور بالذنب دليلًا على ضمير صحي حين يكون المجتمع صحيًا ولا يستخدم الابتزاز العاطفي والديني لإخضاع الأفراد والتحكم بهم. أما بطلة روايتي التي كانت تظن أنها المسؤولة عن سعادة كل من حولها وسلامتهم النفسية، اكتشفت أن أي محاولة لإنصاف نفسها وتقرير مصيرها تصيبها بإحساس هائل بالذنب وشعور مؤلم بخيانة الجميع. هذا هو الخلل الذي أشرت إليه.
لتنعتق أمل وتصل لخلاصها ارتكزت على عكازين هما "العلم والعمل" من جهة، و "الحب" من جهة أخرى.. هذا ما تقترحه "ميثاق النساء" للخلاص، فهل هذان العنصران أساسيان لأي شخص يسعى للوصول إلى خلاصه؟
لا توجد وصفة جاهزة للخلاص تصلح للجميع كما في الأديان أو الأيديولوجيات الكبرى. على كل إنسان أن يجد طريقه للخلاص بنفسه حسب شخصيته وبيئته ومعطيات حياته. ولكن بالإضافة للعلم والعمل والحب، أضيف الصدق مع الذات والشجاعة في اتخاذ القرارات وتحمل مسؤولية تبعات هذه القرارات. وهذه ليست مجرد عكازات يتخلص بها الإنسان من عجزه، بل أسلوب حياة يحرر الإنسان من الداخل قبل أن يتحرر من القيود الخارجية.
هل ترين أن للأدب (والفنون عموما) دورًا في طرح الأسئلة وطرح الإجابات؟ أم أن الأمر في الأساس قائم على طرح الأسئلة فقط؟
أحيانا نميل إلى تحميل الأدب فوق طاقته فننتظر منه أن يكون إنجيلًا أو قرآنًا بديلًا، ولكن الأدب بالنسبة لي هو حوار مع الذات ومحاولة للوصول إلى لغة خاصة أفهم بها نفسي ليمتد هذا الفهم للمجتمع من حولي وللعالم الأكبر. ومع ذلك، فإن للأدب القدرة على استشفاف روح العصر وفهم إشاراته وخلق احتمالات جديدة بلغة موازية وأسئلة أخرى تتمرد على اللغة الرسمية والأمر الواقع.
قوة الأدب تنبع من أنها تخلق براحًا آمنًا للتواصل بين البشر على بعد آخر بعيدًا عن الانتماءات والاختلافات الثقافية والعقائدية والقومية. وهنا لا يقدم أحد إجاباتٍ للآخر بقدر ما يواجه كلٌّ مِنَّا (كُتّابًا وقُرَّاءً) أسئلته المطمورة تحت طبقات متراكمة من الموروث والمقبول والمألوف. بكلام آخر، ما يستطيع الأدب تحقيقه هو أن يسمح لعدوى السؤال أن تتفشى، وللخوف من الإجابات الصادمة أن يتنحى.
ثمة مزاوجة على مستوى الحوار بين الدارجة اللبنانية، واللغة الفصيحة... لماذا اخترتِ هذه الخلطة للحوار؟ لماذا لم توحدي مستوى لغة الحوار إما في الفصحى أو العامية؟
الحوارات القصيرة بين أهل القرى جاءت باللهجة اللبنانية من أجل تقديم عينة للقارىء من لغة هذا المجتمع الذي أردتُ أن أمنحه صوتًا، ولكن الحوارات الطويلة جاءت بالعربية الفصحى حتى لا أُحَمِّل القارىء غير اللبناني عناء التأويل خاصة وأن اللهجة في القرى الدرزية أصعب من اللهجة اللبنانية المعتادة.
تحتمل بعض الخطوط الفرعية في "ميثاق النساء" مثل حكاية خلدون أو نيرمين، أن تكون حكاية رئيسية في نص آخر.. هل خطر ببالك أمر كهذا؟ هل دعتك "ميثاق النساء" لكتابة نص آخر يكون امتدادا للرواية؟
أعي أن المادة التي استخدمتها في هذه الرواية كانت تصلح لكتابة ثلاث روايات، ولكني آثرت ربط المصائر وتوحيد المآسي لتعميق الفكرة ودعم القضية التي أطرحها في الرواية. كما أنني أجد صعوبة في تقنين التدفق السردي من أجل ادخار قصصًا لرواية أخرى. فالأدب لا يستطيع أن يدَّخر نفسه لوقت لاحق، لأنه ابن اللحظة والحالة التي يولد فيها.
أنتِ قادمة إلى عالم السرد من دنيا الشعر.. كيف وجدتِ الفوارق بين الحقلين؟ هل ننتظر منك دواوين جديدة؟
الشعر بلغته الرمزية والمكثقة لا يستطيع أن يسرد ويبني شخصيات ويعالج قضايا. في الشعر تقع مسؤولية التلقي على عاتق القارئ الذي يأخذ من القصيدة بقدر ما يجلب إليها. أما الرواية التي تسمح بخلق عوالم وشخوص وقضايا لا متسع لها في الشعر، تهَب نفسها للجميع ولو بدرجات متفاوته لأنها أيضا مرآة قارئها.
ومع ذلك، فكل قصيدة لديها القدرة على استيعاب قصة، وكل رواية لديها القدرة على استيعاب الكثير من الشعر. وفي النهاية تبقى للشعر منزلة خاصة عندي لأنه كان أول وسيلة عبّرت بها عن نفسي، وسيبقى وليد حالات وجدانية لا أختارها ولا أسعى إليها.
تعملين في المجال الأكاديمي... كيف يمكن لهذه المهنة أن تؤثر على الكتابة بالسلب أو الإيجاب؟
العمل في المجال الأكاديمي قد يساعد الكاتب على تحديد الأسئلة وترتيب الأفكار واختيار منهجية البحث وإحكام بنية النص؛ ولكن على الروائي أن ينتبه إلى أن الرواية ليست بحثًا في علم الاجتماع أو السياسة، وفي هذا الفخ يسقط للأسف بعض الأكاديميين الذين يلامسون شخصياتهم الروائية بقفازات جَرَّاح ومِبضع تشريح فيبدون وكأنهم منفصلون تمامًا عنهم وعن آلامهم. وهكذا يفقدون الكثير من التلقائية والذاتية اللتين تميزان أي عمل أدبي.
تنقلت بين لبنان وألمانيا... هل رصدت اختلافات ما على مستوى التحديات والعقبات التي تواجه الكاتب العربي في أي من البلدين؟
التحديات التي يواجهها الكاتب في الدول الناطقة بالعربية كثيرة ومعروفة للجميع، فلدينا: أزمة في النشر، أزمة في النقد، وأزمة في القراءة. يصعب على الكاتب أن يجد دار نشر مستعدة لنشر كتاباته دون مقابل مادي، وهذا أدّى إلى فوضى في النشر قد تضيع على إثرها بعض الأعمال المميزة بين طوفان من الكتب الرديئة. وفوضى النشر ساهمت في أزمة النقد القائمة أساسًا بسبب قِلّة النقاد واشتغال معظمهم في أعمال أخرى لتأمين معيشتهم. كما أن الأزمات الاقتصادية وارتفاع أسعار الورق أثّرا على القدرة الشرائية للقراء. وقبل كل شيء تأتي أزمتنا المزمنة مع الوصاية والتابوهات التي تجعل معظم الكاتبات والكُتّاب يتجنبون حقول الألغام السياسية والدينية والأخلاقية حين يكتبون، ويمارسون بذلك الرقابة الذاتية التي تعتبر ألد أعداء الكتابة.
أما تحديات الكاتب العربي في ألمانيا فتتلخص في معضلتين: معضلة اللغة، فقليلون جدًا من بين الكتاب العرب يتقنون اللغة الألمانية بدرجة تجعلهم قادرين على كتابة نصوص أدبية بها، وعدد المترجمين من العربية للألمانية محدود للغاية. المعضلة الثانية تتمثل في اختلاف الذوق الأدبي وتقاليد النقد بين المجتمعين.