عمر زكريا - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/230rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:43:07 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png عمر زكريا - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/230rommanmag-com 32 32 نظرية الفراغ التاريخي الصهيونية https://rommanmag.com/archives/21355 Tue, 31 Oct 2023 08:19:20 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%86%d8%b8%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d8%a7%d8%ba-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%87%d9%8a%d9%88%d9%86%d9%8a%d8%a9/ أستذكر الآن في خضم ما يحدثُ في غزّة عبارة صديقي ع. ع. كُلَّما ناقشنا الاصطفافات السياسية والعقائدية المحيطة بنا وهي: “نحن نعيش في حقبة العصور الفُكاهية.” مُتخيّلًا بذلك الأجيال القادمة كيف ستقرؤنا تاريخيًّا وتقرأ مُعتقداتنا ومواقفنا ومن نحن وكيف أصبحنا ما أصبحنا عليه. ولعلَّ الإعلام الغربيّ الآن أكثرُ ما يزيد من فُكاهة صورتنا حيث استطاعت […]

The post نظرية الفراغ التاريخي الصهيونية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
أستذكر الآن في خضم ما يحدثُ في غزّة عبارة صديقي ع. ع. كُلَّما ناقشنا الاصطفافات السياسية والعقائدية المحيطة بنا وهي: “نحن نعيش في حقبة العصور الفُكاهية.” مُتخيّلًا بذلك الأجيال القادمة كيف ستقرؤنا تاريخيًّا وتقرأ مُعتقداتنا ومواقفنا ومن نحن وكيف أصبحنا ما أصبحنا عليه. ولعلَّ الإعلام الغربيّ الآن أكثرُ ما يزيد من فُكاهة صورتنا حيث استطاعت الصهيونية الدفع بنظريات مُغرقة في الما بعد حداثية في الدراسات التاريخية إلى حدودٍ جديدة عبر إدانة ما حصل في السابع من تشرين الأول مقارنين إياه بالهولوكوست أو المحرقة اليهودية ومتناسين بكل وضوح تاريخ الاحتلال في المنطقة منذ الاستعمار الأوروبي مرورًا بعصابات الهاغانا وكل الحروب والمجازر والتهجير والتقتيل بما فيها قصف غزة كل سنتين تقريبًا منذ سبعة عشر عامًا.

أيّ إن السردية الإعلامية الجديدة الآن تتبنى أنَّ ما بين الهولوكوست النازي وهجوم حماس في السابع من تشرين الأول على المستوطنات الإسرائيلية كان فراغًا، لم يحدث خلاله أيُّ شيء، التاريخ فارغ لا يحمل مُسببات ولا معطيات للتحليل ولا سوابق يمكنها أن تُفسّر السابع من تشرين الأول. الفراغ التاريخي الذي يفصل فعل المقاومة عن النكبة وما بعدها وتحديدًا حصار غزّة في السنوات الأخيرة لن يحمل بالطبع أي شكل من أشكال إمكانية تفسير ما حصل. وبعزل المقاومة، وفي هذه الحالة حماس، عن النكبة وفعل الاحتلال وتاليًا عن حصار القطاع، يجعل التفسير الوحيد للعملية العسكرية التي قام بها عناصر الحركة هو التعطُّش للدماء والهمجية الطبيعية التي فيهم. ففي ظل الفراغ التاريخي، هذه النظرية الفذّة في علم التاريخ، لا يُصبح النظر قابلًا للابتعاد عن الحاضر المباشر ويتم هذه على المنصات الإعلامية بشكل صارخ عبر طرح سؤال إدانة السابع من تشرين الأول على كل متحدِّثٍ ناشطٍ في مجال القضية الفلسطينية دون طرح السؤال عينيه لأيّ متعاطفٍ مع إسرائيل سواء عن قتل ما زاد عند كتابة هذا المقال عن 8300 شخص في غزة أو عن الأوضاع المعيشية قبل العملية.

لم تكتفِ النظرية التاريخية الصهيونية منقطعة النظير عند هذا الحد، فالإعلام ليس كافيًا هُنا، بل حتى الدعوة العنيفة لأنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة، بالاستقالة لمجرّد التفكير بمحاولةٍ بدت له ناضجة بوضع الأمور خارج إطار الإدانة والتنديد وردود الفعل وأخذها إلى حيّز التحليل العقلانيّ عبر التصريح بأنَّ العنف في غزة لم يأتِ من فراغ Vacuum ووجب النظر إلى المسسبات أيضًا، فنزلت عليه اللعنة الصهيونية وربما عليه الآن أن يكون شاكرًا بأنَّ هذا الغضب لم يؤدِ إلى تدمير منزله وتهشيم أطرافه وحرق وجوه أبنائه بالفسفور الأبيض. ممّا يعني الآن أنَّ الأكاديميا الغربية والإعلام الغربي ستأخذان منحىً جديدًا مع نظرية الفراغ التاريخي في تفسير الأحداث الراهنة مستعنين فقط بالنظريات التطبيقية المباشرة من علومٍ أُخرى. يبدو أنَّ الصهيونية في طرحها الأول لهذه النظرية نحت نحو البيولوجيا وعلوم سلوك الحيوان فقد وضعت إطارًا لعملية الإبادة الجماعية في غزّة بوصف الفلسطينيين بأنّهم حيوانات بشرية. لكن من يدري قد تتفرَّع نظريات تطبيقية جديدة في هذا المجال لتشمل المزيد من أدوات التفسير لكل ما سيحصل في غزة والضفة لاحقًا في ظل الفراغ التاريخي الذي عاشته المنطقة على مايبدو منذ الهولوكوست. وأقول المنطقة فحسب لأنَّ الحادي عشر من أيلول لم يُشمل في هذه النظرية فمن الواضح أنَّ الإعلام الغربي لا يزال يعتقد أنّها حدثت بالرغم من أنَّها حسبما فَهِمْت من الترتيب الزمني وقعت في وقتٍ ما بين الهولوكوست والسابع من تشرين الأول من العام الجاري. بالطبع لا قُدرة لدي على الإحاطة بمجمل ما تتضمَّنه هذه النظرية الما بعد حداثية فكوني شخصيًا أميل جينيًا لأن أكون حيوانًا بشريًا على كوني بشريًا خالصًا قد يجعلني قاصرًا على فهم نظرية الفراغ الحضاري الصهيونية بشكلٍ كامل، ولكنّه أضحى من الواضح أنَّ المُستقبل سينطوي على إمكانية تجريم مُنكريها. فكما حصل مع غوتيريش، قد يُصبح إنكار الفراغ التاريخي، أي إنكار ألّا شيء بتاتًا حدث قبل السابع من تشرين الأول بمثابة إنكار المحرقة اليهودية؛ أي تهمةً بمعاداة الساميّة.

ومن هُنا أيضًا ننتقل إلى المزيد من فكاهة هذه العصور، فقد تبدو مُعاداة السامية منطقية في أوروبا حيث الهويات الإثنية تعنيهم كثيرًا ومعظمهم ليسوا ساميين وبالتالي يمكنهم أن يُعادوها. لكن ماذا تعني هذه التُّهمة هُنا تحديدًا؟ فشعوب منطقة شرق المتوسط، الذين لا يُشاركون الأوروبيين بالهوس الإثني في تعريف ذواتهم، هم ساميون بالأساس  يتحدرون من شعوبٍ ساميّة سكنت المنطقة قبل خروج الدين اليهودي نفسه، ويتحدَّثون اللُّغة العربية الساميّة التي تُعتبر من أقدم اللُّغات على الكوكب ولا يزال متحدثوها الآن يستطيعون الولوج إلى أدبها الذي يزيد عمره عن ألفٍ وخمسمئة عام. فكيف يُتَّهم هؤلاء (أي نحن) بمعاداة السامية؟ لعلَّ هذا يُفسِّر ما تُحاول نظرية الفراغ الحضاري، عندما استعانت بعلم سلوك الحيوانات، أن تُفسّره عندما نحت إلى القول إنَّ تأثُّر سُكان المنطقة وأبناؤها (نحن) بثقافة انبثقت من الجزيرة العربية ننحو نحو ساميّةٍ حيوانيةٍ تختلف عن ساميتهم البشرية مما يجعلنا منطقيًّا قابلين لمعاداة الساميّة (أي ساميّتهم البشرية) كوننا نتكلم عن ساميّة مختلفة، وهذا يجعل اتهامنا بالنازية التي اعتبرت أنَّ العرب عرقٌ ملوث كما اعتبرت اليهود يخلو من التناقض لديهم. لكن من يدري فكما أسلفت سابقًا، حيوانيتي المُتأصلة بي جينيًّا تجعلني قاصرًا عن فهم النظريات الصهيونية بالمجمل.

لكن ما يزيد الفُكاهةَ مازيّةً هي طراوة المواقف العربية من الجزيرة العريبة مُقارنةً بالمواقف العربية الأخرى وحتى غير العربية من جماهير طوكيو إلى جماهير مدن الولايات المتحدة وكندا رغم أنَّ نظرية الفراغ التاريخي تشمل اعتبار تراثهم الحضاري وما انبثق عنه في المنطقة وغيرها أقلَّ قيمة من غيره. فهل هذا يعني أنَّ هُناك فراغات تاريخية أُخرى؟ أي المزيد من الأحداث التي لم تحدث والمزيد من اللا شيء الذي يجب أن نعترف به قبل أن يوصل إنكارنا المتواصل للّا شيء، وإصرارنا المتخلّف على أنَّ هُناك أحداثًا قد وقعت بالفعل وأن نضع لها سردياتٍ مختلفة، إلى عكس عملية التطور فتكون إبادتنا ضرورة وجودية للحفاظ على البشرية من الانقلاب إلى ذلك الكائن الذي كُنّاه Homo Heidelbergensis قبل أن نصير بشرًا Homo Sapien لعلَّ كثرة الإنكار قد تُعيدنا إلى ما هو أبعد فنصبح Homo Erectus.

لا أدري، فما أنا سوى حيوانٍ بشري يعيش في حقبة العصور الفكاهية.

The post نظرية الفراغ التاريخي الصهيونية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
فصل من رواية “جامع الكتب غريب الأطوار” https://rommanmag.com/archives/21311 Sun, 10 Sep 2023 12:31:48 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%81%d8%b5%d9%84-%d9%85%d9%86-%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%ac%d8%a7%d9%85%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%ba%d8%b1%d9%8a%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b7%d9%88%d8%a7%d8%b1/ استيقظ نقولا في صباح اليوم التالي ووجدني قد أعددتُّ الفطور ولبستُ ثيابي. أمّا هو فقد بدا عليه وهو يحرّك جسده متثاقلًا أنّه لم يشبع من النوم، لكن رغم ذلك فقد ذهب الإرهاق عن عينيه. دخل إلى غرفة الطعام ونظارته في يده. ولمّا بادرته بتحية الصباح وضع نظّارته كما أنّه لن يرضى بأن يرُد ما لم […]

The post فصل من رواية “جامع الكتب غريب الأطوار” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
استيقظ نقولا في صباح اليوم التالي ووجدني قد أعددتُّ الفطور ولبستُ ثيابي. أمّا هو فقد بدا عليه وهو يحرّك جسده متثاقلًا أنّه لم يشبع من النوم، لكن رغم ذلك فقد ذهب الإرهاق عن عينيه. دخل إلى غرفة الطعام ونظارته في يده. ولمّا بادرته بتحية الصباح وضع نظّارته كما أنّه لن يرضى بأن يرُد ما لم يرني جيّدًا. تفاجأ بي لمّا رآني بكامل هندامي فبادرتُ بالتوضيح:

  • “لا بأس يا نقولا بالعادة نأكل فطورنا بملابس النوم لكنّني استيقظتُ أبكر من المعتاد اليوم فحاولت تنشيط نفسي بارتداء ملابسي.”

سألني ممازحًا:

  • “هذا يعني أنّك لم تنم بملابسك؟”

يا لي من مغفّل، وأنا الذي ظننته قد شعر بالإحراج منّي. ضحكنا وجلسنا وبدأنا بتناول الطعام وبالُنا مشغولٌ بكيفيّة حلّ اللغز الجديد.

  • “قُل لي يا نديم هل استدللتَ على نقطة بداية؟”

  • “ربما، لستُ مُتأكّدًا.”

  • “وهل تعتقد أنَّ الكرّاس فيه حلُّ للرسالة؟”

  • “للآن لا يبدو لي أنَّ الأمرين مرتبطان فلا الطائر المجنّح مذكورٌ فيه ولا شيءَ هُناك في شأن المكتبة السريّة باستثناء تلك القصّة القديمة غير المكتملة.”

  • “لقد فاجأَتْني القصّة في الواقع، لو عمل جدُّك عليها لأخرج منها قصّةً حسنة. لعلَّ الكلمات لم تسعفه.”

  • “هذه القصّة بحاجة للقهوة، ما رأيك؟”

  • “بالطبع، وبلا سكّر أو أيّ إضافات.”

قمتُ من مكاني وشرعتُ في تحضير القهوة في الوقت الذي قام نقولا من مكانه لتوضيب الطعام وما استعملناه. وبهذا تعرَّف نقولا على دقائق مطبخ بيتنا. أظنُّ أنَّ هذه الخطوة هي الوسم النهائي لتأخذه صداقتنا حتى تصبح أبدية. فكّرتُ أنّني يومًا ما سأتعرف على مطبخ نقولا حيث سيكون هو من يدلّني على أمكنة أدواته وهو يُحضّر القهوة وزوجته تراقبنا وتنتظر فنجانها، وربما إلى جانبها ستكون معنا تلك التي أحلم يومًا أن ألقاها لتنسيني منال تنتظر فنجانها أيضًا. ومن يدري، قد يقفان بمحاذاة الباب ويسخران منّا أيضًا بسبب هذه الرابطة المطبخيّة التي وسمت صداقتنا.

حملتُ القهوة في صينية مع فنجانين ومشينا إلى الصالة الصغيرة المجاورة حيث جلستُ مع كاتب الدولة في أول لقاءٍ لي مع عالم جدّي الغريب هذا وجلستُ على الكرسيّ نفسه وأنا أقول لنقولا الذي جلس بدوره على نفس الكرسيّ الذي أجلستُ الكاتب عليه:

  • “إنَّ أسلوبَ جدّي لا يبتعدُ كثيرًا عن أسلوب عين بن زين.”

  • “من هذا؟”

  • “أحدُ حكماء الأرخبيل… كان من أوائل مَن ألقوا دروسًا في المكتبة. وهو الذي ثبَّت اسميّ الجزيرتين الكبيرتين فيهما بعدما قرَّر حاكم سلامان تحويل مجموعة كتب سليم البحري إلى مكتبة للعامّة بعد وفاته.”

  • “وهل قرأ له جدُّك كثيرًا؟”

  • “كلُّ مَن يقرأ في الأرخبيل قد قرأ له، ومن حاول الكتابة منهم كان أسلوبه شبيهًا بأسلوبه. سترى ذلك في كل الأدب المعاصر المكتوب في الأرخبيل… كهذه الرواية مثلًا.”

  • “وماذا عن سليم البحري ومكتبته في سلامان؟ ظننتُ أنّك لا تصدّق ذلك.”

  • “بل هما حقيقيان، وكذلك السندباد جدُّ سليم البحريّ الأعلى. لكنّني أشكُّ في أنّها مكتبة هرّبها من المغول في بغداد أو ما شابه.”

  • ” ولماذا تعتقد أنّها قد تكون مبالغة من السلامانيين؟”

  • “لأنَّهم لا يتوانون عن الكذب عمومًا والقول إنَّ الرجل العجوز الذي يقلبُ جلده وسحنته كجلد الجاموس هو حي بن يقظان. فبالتأكيد ما كان لابن يقظان أن يقتل أبسال صديقه الأول والوحيد. ألم تقل إنّك قرأتَ ما كتبه ابن طُفيل؟”

حرَّك نقولا رأسه كمن يُريد أن ينفي كلَّ ذلك مرّةً أُخرى لكنّه تردَّد في الاعتراض. فهو على ما يبدو كثير الشكّ في معتقداتنا وحقائق تاريخنا. فقرَّر على ما يبدو تغيير الموضوع:

  • “حسنًا، وما شأنُ الفِهرسْت والنديم في كل هذا؟”

بدأتُ أشرحُ له عن الأسطورةِ البغدادية القديمة التي درسناها في مكتبة سلامان عندما كنّا صغارًا. شعرتُ أنَّني سأفقد الرجل وأنا أحدّثه بها لكثرة صدماته وشهقاته كأنّه يفقد نفسه ويتوقّف نبضه. أقول أسطورة رغم أنَّ الناس هُنا يقولون إنّها حقيقية لسببٍ وجيه سأُبيّنه في نهاية شرحي لها.

وصَلَنا أنّه في عهد الفِتَن بعد بداية انحطاط العصر العباسي انتبه علماء بيت الحكمة في بغداد أنّه لا أمان على العلم المحفوظ في الكتب تحت إشرافهم بسبب السياسة المتقلّبة حسب أهواء الأمراء والسلاطين والخلفاء. فقرّروا حفظ نُسَخٍ من كلّ الكتب مِن نيرهم. وأوعزوا إلى أحد البنّائين بحفر قبو تحت بيت الحكمة ريثما يجدون مَن تُعطى له مهمّة الحفظ والتصنيف، ثمَّ بعد ذلك كان يجب أن يتصل هذا القبو عبر خندقٍ إلى حانوت الورّاق الذي سيصبح أمين المكتبة السريّة فيدخل ويخرج منها دون أن يمر بأروقة بيت الحكمة فيُفتضح أمرهم. ويبدو أنَّ الاختيار رسا في النهاية على محمّد بن إسحق النديم الذي عشق الكتب وجمع أخبارها حتى تلك التي لم يُصنّفها علماء بيت الحكمة علمًا أو أدبًا ذا نفع. لكنَّ المهمّة توقّفت بوفاته ولم يُعرف مِن هذا المخطَّط إلّا الفِهرست الذي ظنّه الإخباريون عملًا معجميًّا لا أكثر، ولم يتكهنوا أنّه سجلُّ مكتبةٍ سريّة في بغداد.

انتبهتُ إلى نقولا وهو يُحاول أن يخنق جميع تعليقاته دون التفوّه بها. ربما بدا له أنّه أسرف في إنكار حقائق تاريخنا ولم يشأ أن يبدو وكأنّه يتطاول عليّ أو على ما نعتقد.

كان جدّي قد قال لي بأنَّ عرب الدولة العثمانية وحتى المغاربة أنكروا أيَّ فرضية اعتبرت أنَّ فِهرست النديم هو سجلٌّ لمكتبةٍ ما لأنّه لا يُمكن أن تكون هُناك مكتبة بهذا الحجم وليس لها ذكـرٌ في كتب الأخبار. ذلك أنَّ إخباريي العرب لم يعرفوا عنها شيئًا. ملتُ إلى تصديق هذه الأخبار ونفي ادعاءات السلامانيين بأنَّ ما جاء به الربّان سليم البحريّ هو شيءٌ بهذه الأهمية.

انفجر نقولا أخيرًا، وسأل سؤالًا ربما بدا له الأقلَّ إيلامًا من غيره:

  • “وهل قصّة جدّك هي جزءٌ متمّم لهذه الأسطو… لهذا التـ… لهذا التاريخ؟”

  • “ألا ترى يا نقولا؟ الحانوت المهجور الذي دخل منه سليم البحري عبر الدهليز إلى القبو الذي وجد فيه الطوسي هو حانوت النديم.”

  • “وإلى أين كانت ستأخذنا قصّة جدّك لو أكملها؟”

  • “يبدو أنَّ الطوسي عمل بحكمة أسلافه الحكماء بتخبئة مكتبة النديم وفصلها عن باقي الكتب. فرغم أنَّ هولاكو سمح له بأن يحمل مئات آلاف الكتب منها إلى مرصد مراغة فهو لم يأمن مكر الأيام والساسة فطلب من البحريّ أن يوصل الكتب السريّة إلى سلامان.”

  • “وطبعًا هذه القصّة المؤسّسة للمكتبة ولحكم السلاميين.”

  • “نعم هذه هي الأسطورة الوطنية المؤسسة للهوية السلامانية، ولأنَّ السلامانيين يعتبرون أنَّ الفضل للطوسيّ بوصول هذه المكتبة إليهم صاروا يقرأون فكره وعلمه وشروحه لابن سينا، وهذا هو سبب نكرانهم لحي بن يقظان الطُّفيلي؛ لأنّهم يعتقدون أنَّ حي بن يقظان السيناوي هو الرجل الحقيقي. ذلك الشيخ الذي التقاه مجموعة من طالبي الحكمة وعلَّمهم ما ملك منها. وادَّعوا أنَّ ابن طُفيل استوحى قصّة جميلة من بنات أفكاره لا أكثر. هل فهمتَ الآن لماذا لا يصدّق الأبساليون أصل هذه المكتبة رغم تقديرنا لها؟”

  • “ولكن… ولكن… هذه هي الحقيـ… لا بأس، الناس ألوان، يجب أن أتوقَّف عن هذا أليس كذلك؟ إذن هُناك خلاف في حقيقة مَن هو حي بن يقظان الحقيقي… حسنًا، لا بأس… حسنًا.”

بدا نقولا مُغتاظًا فعلًا. لا بُد أنَّ العالم الإسلامي لديه تاريخٌ مختلفٌ في وعيه حتى يتفاجأ بحقائقنا إلى هذا الحد. رغم أنّه على اطلاعٍ وافٍ على النصوص نفسها. فهو يتكلَّم عن ابن طُفيل وكأنّه رافقه أو رافق شبحًا له وسمع منه حكايةً ما. لكن لم تكن التناقضات في المرويات هي الوحيدة التي لحظها هذا الرجل. فقد كان ذكيـًّا ما يكفي ليلتفت إلى تناقضاتي في كلامي أنا:

  • “لحظة… لقد قلتَ أسطورة! لماذا استعملتَ كلمة أسطورة؟”

  • “هذه الكتب لا أثر لها في سلامان، بل في كلّ الأرخبيل. فلا أعرف أحدًا يزعم أنّه رأى تلك الكتب، ولهذا يدَّعون أنّها مخفية أو تلفت مع الزمن. ربما انتقل سليم البحري إلى هُنا ومعه فعلًا مجموعة من الكتب، قد تكون مجموعة خاصة أو ما شابه وهذا لا يثبتُ أنّها…”

قاطعني في حديثي طرقٌ قويٌّ على الباب فقمتُ لأرى مَن صاحبُ هذا الإحساس بأنّني أملك ما أستطيع فعله لأي طارئ. فتحتُ الباب وإذ بي أرى آخر مَن توقّعتُ رؤيته هذا الصباح في أبسال:

“سعد؟!”

 

صدرت الرواية حديثاً عن منشورات الحرف.

The post فصل من رواية “جامع الكتب غريب الأطوار” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
سقطت نعم وسقطت لا https://rommanmag.com/archives/21236 Tue, 30 May 2023 14:59:38 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b3%d9%82%d8%b7%d8%aa-%d9%86%d8%b9%d9%85-%d9%88%d8%b3%d9%82%d8%b7%d8%aa-%d9%84%d8%a7/ قبل سقوطها، وقفت ريحانة في الباص ذي الطابقين أثناء زيارتها لبريطانيا على الإشارة الضوئية الأخيرة قبل وصول الباص إلى المحطة. ارتدت معطفها ووضعت حقيبتها على ظهرها وهمّت بالنزول إلى الطابق السفلي. فكّر أحد المسافرين كم تبدو هذه المرأة مستعجلة، فالباص كان على مبعدة دقيقتين من المحطة النهائية حيث سيتوقف الباص لمدة عشر دقائق كاملة. إذن […]

The post سقطت نعم وسقطت لا appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
قبل سقوطها، وقفت ريحانة في الباص ذي الطابقين أثناء زيارتها لبريطانيا على الإشارة الضوئية الأخيرة قبل وصول الباص إلى المحطة. ارتدت معطفها ووضعت حقيبتها على ظهرها وهمّت بالنزول إلى الطابق السفلي. فكّر أحد المسافرين كم تبدو هذه المرأة مستعجلة، فالباص كان على مبعدة دقيقتين من المحطة النهائية حيث سيتوقف الباص لمدة عشر دقائق كاملة. إذن على عكس  كلّ نقاط التوقف، لا داعي للعجلة.

بدأت بالنزول على السلّم بالتزامن مع حركة الباص، وبين الدرجتين الثانية والثالثة من أعلى السلّم، قام السائق بتحريك عصا الغيار من الأول إلى الثاني. فاهتز كيان الباص كاملًا ككل باصات العالم بين ذينك البينين ففقدت ريحانة توازنها وأكملت نزولها إلى الأسفل سقوطًا حُرًّا لا شكَّ أنّه، رغم سرعته، لم يكن ضمن خطتها بالخروج سريعًا من الباص.

توقف الباص في إحدى النقاط ولم يكمل طريقه إلى المحطة. هُرِع الرُّكاب بين مَن أمسك برأسها وحاول التكلّم معها للاطمئنان عليها وبين من هاتف الإسعاف وبين قسمٍ ثالث أعلن بكلّ عنفوان اعترافه الصريح بانعدام أي فائدةٍ له في حالات الطوارئ وانسحبوا من الباص بعد أن تأكدوا من السائق أنَّه لن يتحرك بأي وقت قريب.

وصلت سيارة إسعافٍ بعد لأيٍ بسبب أزمة المرور، رغم المسافة القصيرة التي تفصل المشفى عن موقع الحادثة. دخلت مسعفةٌ إلى الباص، شكرت الرُّكاب على محاولة إبقاء ريحانة مستيقظة، أخذت منهم المعلومات التي لديهم عن تفاصيل الحادث واسمها وكل ما حصل بين سقوط ريحانة ووصول الإسعاف.

استلمت المسعفة الدفة مكلّمةً المصابة بصوت مرتفع: “ريحانة، هل تستطيعين سماعي؟” أومأت ريحانة برأسها بالإيجاب. “هل تذكرين ماذا حصل؟” أومأت بالإيجاب مجددًا. “أجيبيني بالكلام لا بالإيماء هل تقدرين؟” أومأت ريحانة بالنفي. “هل تشعرين بالغثيان؟” عادت فأومأت بالإيجاب. “يجب أن تكلميني يا ريحانة، هلّا أجبتني لو سمحتِ؟” أومأت ريحانة بالنفي مجددًا.

استاءت المسعفة، فعدم قدرة تلك المسكينة على الإجابة تعني إجراءات أكثر تعقيدًا. “ولكن، لماذا لا تريدين الإجابة؟” ففاجأتها ريحانة بالقول: “ما عدتُ أعرف لماذا الإجابة غير ممكنة.” اكتفت المسعفة بسماع صوت المصابة أمامها دون الخوض بالتفاصيل رغم أنَّ الصيغة التي استعملتها ريحانة في الإجابة شديدة الغرابة، خاصّةً في حالتها تلك، وآثرت استعمالها عوضًا عن قول “لا أدري” بكل بساطة. أكملت المسعفة إجراءاتها بلا تعقيب.

السقطة جعلت ريحانة المسكينة تفقد القدرة على قول كلمتي نعم ولا. الإجابة بهما أصبحت غير ممكنة نطقًا أو كتابة. كانت لا تزال تحتفظ بمفهومي النفي والإيجاب وتعبّر عنهما بالإيماء، لكنَّ هذين اللفظين قد سقطا تمامًا من عقلها وبكل اللغات التي تتكلَّمها فما عادت تملكهما أو تدرك أنَّ لهما مرادفًا صوتيًا أو رمزًا كتابيًّا.

المفارقة هي أنَّ ريحانة كانت تتذكّر أنّها امتلكت في السابق مقدرة صوتية على التعبير عن النفي والإيجاب. وإلا ماذا كانت تفعل بالضبط عندما اعتادت أن توصي على البيتزا عبر الهاتف وكان يسألها العامل إن كانت تريد أي إضافاتٍ على طلبها، لا بُدَّ أنَّها استطاعت الإجابة بأسلوبٍ غير الإيماء. الآن أصبحت تجيب: “ليس هناك داعٍ لإضافاتٍ على الطلب.”

من أبسط سؤال عادي يومي إلى استفتاءٍ شعبي عليها إثباته بوضع إشارة إلى جانب نعم، لم تعد ريحانة تجيب إلا بجملٍ كاملة. أصبحت إنسانة ثرثارة بعد سقطتها لأنها لا تكتفي باستعمال كلمة واحدة للإجابة على أبسط الأسئلة. أصبح الغرباء يهزؤون منها من وراء ظهرها ومعارفها من أمامه. بدأت تنحسر المناسبات الاجتماعية التي تُدعى إليها بسبب اعتقاد الجميع أنّها انقلبت إلى شخصٍ متكلّفٍ متفاصحٍ بشدّة.

وهي تدرك تمامًا نقطة التحول في حياتها؛ الخلل حدث في تلك السقطة اللعينة. ظنّت أنّها إن أعادت التجربة ذاتها، كما يحدث في أفلام هوليوود والرسوم المتحرّكة، ستتحرَّرُ من المصيبة التي هي فيها. وعزمت على فعل ذلك، فإن لم ينته هذا الكابوس ستنتهي إلى أن تكون عجوزًا وحيدةً في مستقبل ليس بعيدًا؛ فريحانة لم تعد صبيةً يافعة.

استقلّت الباص ذاته في وقتٍ مشابه من النهار مرتديةً الملابس ذاتها وحاملةً نفس الحقيبة وأعادت الخطوات التي قامت بها عند الإشارات المرورية، وتمامًا عند نفس الانعطافة التي اهتزَّ فيها كيان الباص لأنّه بدّل من الغيار الأول إلى الثاني هبطت ريحانة درجات السلّم برشاقةٍ متناهية. وقد نجحت توقعاتها الهوليوودية وعادت إليها القدرة على لفظ الإيجاب والنفي. واستدلَّ الباحثون على ذلك وأيقن منه المتشككون عندما سمعوها قالت بعد أن استفاقت: “لا أذكر ما الذي حصل، لا أعرف من أنا”.

The post سقطت نعم وسقطت لا appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
بريستيجي ما بيسمحلي https://rommanmag.com/archives/21164 Sun, 12 Mar 2023 12:42:55 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d8%b3%d8%aa%d9%8a%d8%ac%d9%8a-%d9%85%d8%a7-%d8%a8%d9%8a%d8%b3%d9%85%d8%ad%d9%84%d9%8a/ الأستاذ يحيى ليس أستاذًا حقيقيًّا لكنّه يتصرّف كذلك. متقاعدٌ من دائرة حكومية كان يعمل مديرًا لها قبل خمس سنواتٍ فقط من تقاعده. وقد حصل أن وزَّع في إحدى المناسبات شهاداتٍ تقديرية لمشاركي إحدى الدورات التدريبية فأسماه المشاركون بالدكتور يحيى والتصق لقب الدكتوراه الفخرية هذا باسمه إلى ما بعد التقاعد. هو رجل “مهفهف” يفتح عينيه نصف […]

The post بريستيجي ما بيسمحلي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الأستاذ يحيى ليس أستاذًا حقيقيًّا لكنّه يتصرّف كذلك. متقاعدٌ من دائرة حكومية كان يعمل مديرًا لها قبل خمس سنواتٍ فقط من تقاعده. وقد حصل أن وزَّع في إحدى المناسبات شهاداتٍ تقديرية لمشاركي إحدى الدورات التدريبية فأسماه المشاركون بالدكتور يحيى والتصق لقب الدكتوراه الفخرية هذا باسمه إلى ما بعد التقاعد.

هو رجل “مهفهف” يفتح عينيه نصف فتحة دائمًا ويتكلّم بصوت أقرب إلى الهمس، تتقوّس ذراعاه إلى الأمام عندما يتحدّث، ولا ينزع الباروكة السوداء من على رأسه حتى عندما ينام. ليس في خزانة ملابسه إلّا البذلات بألوانٍ مختلفة ولكل بذلة منها وردة مخصَّصة لعروة السترة. في إحدى المناسبات العائلية أقنعه أحد أقاربه بارتداء بنطال الجينز، فخجل من نفسه عندما رآها في المرآة وبقي يعتذر منها لأسبوع كامل قبل أن تُسامحه على الرغم من أنَّ لا أحد رآها فيه سواه.

اجتمعت كوابيس الدكتور معًا في أحد الأيام، حيث تبيّن له أنَّ الناس قد نست أو بدأت تتناسى قيمته الاجتماعية البارزة التي احتلَّها فيما مضى. فقد بدأ هذا النهار عندما دخل إلى متجرٍ للقرطاسيّة لديه آلة طابعة ليطبع قصيدة وطنية غزلية فخورة ومأساوية وعميقة في الآن نفسه، كان قد كتبها بعد أن فاضت قريحته في الليلة السابقة وركبه قرين الشعر. وسأل صاحب المتجر باللهجة العاميّة مراعيًا ثقافته المحدودة كونه من عامّة الناس:

– ممكن تصورلي كم روقة؟ حطيتلّك إياهم عالفلاشة.

– آسف أستاذ مدخل الفلاشة معطّل ممكن تبعتلي إياهم إيميل ومن عيوني

– لا، لا، أكيد لا، كيف يعني؟ خلص ما بدّي…

ويخرج من المكتبة وهو يتمتم

– آخرتي شغل السيكيرتيرات؟
 

يذهب إلى الخضرجي لكي يُهدّئ من روعه وينعش ذائقته ببعض التفاح الصحّي لكي يشحن رشاقته الألمعية. يضع في كيسٍ بضع حبّاتٍ من التُفّاح الذي اشتهاه ووقف إلى جانب الصندوق مادًّا يده إلى الخضرجي ليستلم الكيس منه ويوزنه لكن يدا الخضرجي كانتا مشغولتين بأكياس الزبون الذي كان واقفًا قبله فقال له:

– أهلين دكتور، بتقدر تحط كيسك على الميزان عشان أوزنلك إياه

– لا، لا، أكيد لا، كيف يعني؟ خلص ما بدّي…

وضع الكيس على الأرض وخرج وهو ينفض يديه قائلًا:

– لكل واحد شغلته، أصلًا لولا ما بوثق إلا برأيي ما كنت عبيت الكيس أنا، ولو؟!

لم يجد بُدًّا يستعيض عليه من التُّفاح إلّا بالتنزّه. وبمدينة لا حدائق فيها بدأ يقصد الأرصفة التي نظريًّا هي مخصّصة للمشاة لكنّها عمليًا مزروعة بالأشجار التي تمنع المُشاة من السير عليها. حاول قدر الإمكان تجنّب النظر إلى الشارع وأمعن النظر في جميع الأشجار أمامه علّه استطاع خداع نفسه وإقناعها أنهما يسيران في الرّيف. لكنَّ أوصال تركيزه اهتزَّت عندما سمع بوق سيارةٍ يعزف أنغامه قاصدًا إياه. وناداه صاحب البوق والسيارة:

– دكتور يحيى، دكتور!

التفت نحو الصوت وردَّ ببرود:

– أهلين، أهلين حبيبي

– لوين طريقك؟

يئس من إمكانيّة إعادة تركيزه نحو الريف واستسلم للواقع وقرَّر العودة إلى المنزل.

– راجع عالبيت والله

– تفضل وصلك

ما إن ركب يحيى بالسيارة وصافح صديقه حتى توقفت السيارة عن العمل. صرخ الصديق:

– يي! شو صرلها هاي
 

ينزل ليفتح الغطاء ويُخاطب يحيى فيطلب منه:

– ممكن أستاذ أغلبك تمسكلي الغطا لأن ما بيثبت لحاله

 

– لا، لا، أكيد لا، كيف يعني؟ خلص ما بدّي…
 

ويمشي مبتعدًا وهو يقول لنفسه:

– بده يوصلني أو يشغلني ميكانيكي؟
 

وصل إلى المنزل، جلس على الأريكة واجتاحته بارقة ملل فظيعة. كان عزيزًا تأبى نفسه ما تأباه. لكنَّ الملل كان بمثابة الثقل الراجح. أراد فورًا معانقة قصيدته مطبوعة وفوقها كان لا يزال يشتهي التفّاح. دخل إلى غرفة نومه وهُرع إلى الخزانة. فتحها وهو يتمتم: “عزيزٌ أنا، عزيزةٌ نفسي أنا”. بدأ يبحث بين ثيابه في الأدراج وتحت القمصان وفي طوابق الخزانة العلوية. وجده أخيرًا، ذلك الممنوع من الصرف؛ بنطال الجينز إياه. خلع سترته وبنطاله، أدخل الرجل الأولى في الجينز، كانت المرآة أمامه فاستذكر نفسه العزيزة، خلع باروكته ووضعها برفقٍ على السرير. أكمل ارتداء الجينز. ووقف بصلعته وجينزه أمام المرآة وانتبه لربطة العنق. خلعها وفكَّ الزر الأول. “مؤقّتًا سأكون رجلًا آخر. سأبتاع التُّفاح وأرسل الإيميل وأطبع القصيدة وأعود. لكن من أنا حتى ذلك الوقت؟ من أنا؟” أطال النظر في المرآة فبدأت نفسه العزيزة تضيّق عليه الخنّاق. بدأ يفقد قدرته عل تحمّل المنظر الذي أمامه. “عزيز، أنا عزيز واسمي عزيز لكن يجب أن أبتعد من هنا الآن.”

مشى عزيز متناسيًّا أنّه يحيى العزيز جدًّا باتجاه متجر القرطاسية. التقى عامل نظافةٍ وهو يضع بعض القمامة في صندوقٍ من الورق المقوّى كان يحمله باليد الأُخرى. سقط خارجه أثناء التعبئة منديلٌ ورقي، انحنى عزيز لالتقاطه وأعطاه لعامل النظافة بيده، ابتسم له بنفس البرودة التي عنده وقال بنفس الصوت الأشبه بالهمس:

– يعطيك العافية يا إبني.

The post بريستيجي ما بيسمحلي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
ذات الشعر الأزرق https://rommanmag.com/archives/21126 Tue, 31 Jan 2023 11:42:29 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b0%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b9%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b2%d8%b1%d9%82/ جلستُ إلى جانبها في الباص. لم تكن كبيرة في العمر، ليست يافعة أيضًا ولم أجد فيها ما يُميّزها، لم تكن جميلة بما يكفي لتتذكّرها طويلًا ولا قبيحة بما يكفي لتأخذها مثلًا. لم تبدُ لي بدينة ولا نحيفة. كانت شخصًا آخر، شخصًا أُبصره ككلّ الأشخاص دون أن أراهم، حتى أنّها لم تتكلّف عناء صبغ خصلةٍ من […]

The post ذات الشعر الأزرق appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
جلستُ إلى جانبها في الباص. لم تكن كبيرة في العمر، ليست يافعة أيضًا ولم أجد فيها ما يُميّزها، لم تكن جميلة بما يكفي لتتذكّرها طويلًا ولا قبيحة بما يكفي لتأخذها مثلًا. لم تبدُ لي بدينة ولا نحيفة. كانت شخصًا آخر، شخصًا أُبصره ككلّ الأشخاص دون أن أراهم، حتى أنّها لم تتكلّف عناء صبغ خصلةٍ من شعرها لكي تبرز بل اكتفت بوضع شُعيرات بلاستيكية زرقاء لامعة قليلًا بمواقع مختلفة من رأسها.

“إنها حقيقية هل تدرك ذلك؟” نظرتُ إليها مستغربًا عبارتها. اللعنة لقد كشفتني نظراتي نحوها، يجب أن أتعلم إخفاءها، ليس أوّل موقفٍ مشابه بالمناسبة. “عفوًا؟” سألتها مستدركًا نفسي ومحاولًا مداراة بعض الإحراج. “هذا الشعر الأزرق المتفرّق، إنّه حقيقيّ. بدأتُ أشيب ولون الشيب في رأسي أزرق”.

بالطبع لم آخذ كلامها على محمل الجد، ونوعًا ما لم أعره اهتمامًا لأنني كنت لا أزال مشغولًا بالحرج الذي سبّبته لنفسي، ولم يعنني أن أخوض حوارًا مع امرأةٍ تدعي أنّها تشيب باللون الأزرق. “هل تريد أن تلمسه؟” سألتني كأنها لاحظت عدم اهتمامي. “عفوًا؟” سألتها قبل أن ألاحظ فورًا أنّني إلى الآن لم أقل سوى عفوًا مرّتين. “متأكدةٌ أنّك تقول في سرّك؛أزرق، مستحيل. لكنني لا أكذب يمكنك التأكد بنفسك.”

أين ستوضع على مقياس الغرابة محاولتي للمس شعر امرأة غريبة للتأكد من حقيقة شيبها المزعوم؟ خاصّة أنني لم أكن سأميّز أصلًا بين ملمس شعرة شائبة وأُخرى اصطناعية. جمدتُ في مكاني محاولًا تقييم الموقف عوضًا عن تقييم الشعر الأزرق، وبدل أن تحثّني على مد يدي لتلبية طلبها، استأذنت مني وطلبت أن أدعها تمر لأنّ الباص وصل إلى محطتها.

مضت شهور، شهورٌ فقط، تبًا للعالم، فقد مضت بضعة شهورٍ فقط، قبل أن يضج الكوكب برأس المرأة التي تشيبُ شعرًا أزرقًا. أصبحت صورها تملأ محركات البحث والمواقع الإلكترونية. لم تتركها أي وسيلة إعلامية فنية أو ترفيهية أو حتى ثقافية تحاول تحليل جميع النظريات التي أدّت إلى ازرقاق شيبها. امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بجميع التعليقات المعجبة أو المشكّكة بها. بل وقد بدأت المحطات التلفزيونية باستقبالها في شتى البرامج الصباحية والمسائية وبرامج الألعاب أيضًا، بل حتى رأيتُ مرّةً عنها تقريرًا في نشرة أخبار. في إحدى مقابلاتها أعربت عن امتنانها لتواصل مجموعة من العلامات التجارية الكبيرة، من مستحضرات الشعر إلى المشروبات الغازيّة وصولًا إلى شركات السيارات والمؤسسات الخيرية للمشاركة في حملاتهم الدعائية؛ بفضلهم استطاعت التخلّي عن وظيفتها المملّة ذات الراتب القليل.

نعم، تلك المرأة التي تشيبُ زُرقةً أضحيتُ أنا محظوظًا بلقائها قبل الشهرة وقد كلّمتها أيضًا، مَن مثلي قال لها عفوًا مرّتين في باص؟ يومًا ما سأصبح مشهورًا مثلها ربما لستُ غنيًا لكنَّ الناس ستتعرفني في الباصات. رأسي ليس أزرق اللون لكنني أمارس الفن، وقد طلب مني صحافيٌّ مؤخرًا أن أقوم بكتابة مقال عن نفسي بصيغة الغائب أو أن أطلب من أحد أصدقائي أن يجري معي حوارًا وهو سيسعى إلى نشره على الجريدة المحلية في أحد أيام الشهر المقبل.

The post ذات الشعر الأزرق appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
جنون رسمي https://rommanmag.com/archives/21081 Thu, 22 Dec 2022 13:25:35 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ac%d9%86%d9%88%d9%86-%d8%b1%d8%b3%d9%85%d9%8a/ صفّف شعره ببطءٍ شديد أمام المرآة، لم يكن راضيًا. مرَّر يده على شعره مجدًدا، ثمَّ انتقل إلى ربطة عنقه التي تشبه الفراشة، عدّلها وشدَّ قميصه بعنف إلى الأسفل. اهتزت ربطة العنق فعاد إلى تعديلها ثمَّ هبط بكلتا يديه على أزرار القميص لكي يتأكد من أنّها مرتبة بشكلٍ جيد. حركته هذه حرّكت القميص قليلًا فشدّه مجددًا […]

The post جنون رسمي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
صفّف شعره ببطءٍ شديد أمام المرآة، لم يكن راضيًا. مرَّر يده على شعره مجدًدا، ثمَّ انتقل إلى ربطة عنقه التي تشبه الفراشة، عدّلها وشدَّ قميصه بعنف إلى الأسفل. اهتزت ربطة العنق فعاد إلى تعديلها ثمَّ هبط بكلتا يديه على أزرار القميص لكي يتأكد من أنّها مرتبة بشكلٍ جيد. حركته هذه حرّكت القميص قليلًا فشدّه مجددًا بعنف مما اضطره أن يعيد تعديل ربطة العنق مرّةً أُخرى هي على الأغلب السابعة منذ أن ابتُليَت هذه المرآة بمحيّاه ليرتّب شعره الذي عاد بالمناسبة لتمسيده لأنّ كيانه اهتزَّ قليلًا.

استلَّ حقيبته في نهاية المطاف بعد وصوله إلى وضع مُرضٍ لكن غير مثالي. خرج من الحمام وتوجه إلى مكتبه وجلس إلى كرسيه. أعاد ترتيب حاجياته المرتبة أصلًا وأخرج من حقيبته اثنا عشر قلمًا جافًّا كل ثلاثة منها بلون واحد؛ أزرق، أسود، أحمر، أخضر. كان عليها أن تكون اثنا عشر قلمًا لأنه أصغر عددٍ من مضاعفات العدد أربعة الذي يقسم على ثلاثة. ولم يقبل يومًا أن يكتفي بأربعة أقلام فقط. من الجيد أنَّ ألوان أقلام الحبر الجاف الأكثر شيوعًا هي هذه الألوان الأربعة فقط، وإلا لتضاعفت عدد الأقلام على طاولته.

بدأ بترتيب الأقلام بجانب بعضها واستعمل مسطرةً للتأكد من أنَّ الأقلام جميعها على سويّةٍ واحدة قبل أن تُسمع صرخةٌ من الطرف الثاني من الغرفة: “توقف!” صعد المخرج المسرحي إلى خشبة المسرح وأكمل صراخه: “توقف! ما الذي تفعله؟” ردَّ الممثلُ مرتبكًا: “ما الخطب؟ أليس هذا ما تبحثون عنه؟” زمجر المخرج منفسًا غضبه وقال: “كيف بحق ربّك تعتبر ما تفعله جنونًا؟” ازدرد الممثل ريقه ورد: “لكنَّ إعلان تجربة الأداء يقول إنكم تبحثون عن شخص ليلعب دور شخصٍ لديه حالة نفسية وها أنا قمت بأداء رجلٍ لديه رهاب وسواس قهري أليس هذا…” التفت المخرج إلى مساعدته الواقفة تحت الخشبة وقال ووجه يتموّج من الغضب: “لا لا لا لا” تنهدت المساعدة فيما بدأت تخرج شيئًا من جعبتها وهمّت بصعود الخشبة.

أما المخرج فقد بدأت نبرة صوته بالارتفاع وأصبح صوته أرفع وأكثر إزعاجًا كلما زاد في قول: “حالة نفسية، نعم. أريد جنونًا، جنونًا، جنووووونًا. ماذا تريدني أن أفعل بترتيبك المنمّق هذااااااا؟” ثمَّ هبطت نبرة صوته إلى أن صارت زمجرة: ” هوو هوو، همم همم.” وأضاف بصوتٍ عريض ورخيم: “أين الجنون في هذا؟ أريد الجنون.” حاول الممثل أن يُدافع عن أدائه ليفهمه أنَّ الحالات النفسية والعصبية ليست التهريج الذي يقوم به المخرج لكن المخرج قاطعه بنبرة حادّة كالصفير صارخًا: “جنوووووووون!” توقف فجأة عن النعيق لحظة هَوَت المساعدة بملفها على رأسه محدثة صوت ارتطام كان له صدًى في قاعة المسرح، وناولته بعد أن التفت إليها حبة دواءٍ مهدئ وكأس ماء.

“خذ هذه إنّها الأخيرة لقد أنهيتها جميعًا اليوم.” التفتت إلى الممثل وقالت له: “يبدو أنك لم تعجبه للدور. تفضل وشكرًا لك، واطلب من التالي الدخول سيكون تجربة الأداء الأخيرة لهذا النهار.”

 

The post جنون رسمي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في محل ضميرٍ ما https://rommanmag.com/archives/21046 Mon, 14 Nov 2022 09:10:45 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%84-%d8%b6%d9%85%d9%8a%d8%b1%d9%8d-%d9%85%d8%a7/ وصل دور فريد بعد انتظار دام عزّه حوالي الثماني ساعات، إلى شبّاك ختم الجوازات في مطار اسطنبول. قدّم أخيرًا جوازه مفتوحًا على صفحة التأشيرة آملًا أن يُعجّل من العملية الأمنية ليلتحق بطائرته التي تُقلّه إلى الولايات المتحدة. بعد التدقيق والتمحيص سألت الموظفة السؤال الحاسم الذي سيمنح فريد ختم الخروج: Sir, are you vaccination؟ كان الوباء […]

The post في محل ضميرٍ ما appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
وصل دور فريد بعد انتظار دام عزّه حوالي الثماني ساعات، إلى شبّاك ختم الجوازات في مطار اسطنبول. قدّم أخيرًا جوازه مفتوحًا على صفحة التأشيرة آملًا أن يُعجّل من العملية الأمنية ليلتحق بطائرته التي تُقلّه إلى الولايات المتحدة. بعد التدقيق والتمحيص سألت الموظفة السؤال الحاسم الذي سيمنح فريد ختم الخروج: Sir, are you vaccination؟

كان الوباء قد خفَّ وطؤه والسؤال عن المطعوم قد أضحى عادةً مزعجة، لكنَّ كاهل فريد لم يُثقَل بسبب ذلك. لقد استيقظ ضميره اللغوي الحي جدًّا، أو بالأحرى كان ضميره اللغوي الحي يقظًا ولا ينام، وقد عجز عن إجابة هذا السؤال بصيغته الخاطئة تلك. كيف له أن يجيب عن سؤالِ ما إن كان هو مطعومًا بالإيجاب؟ بالطبع أدرك فريد أنَّ السؤال عنى إن كان قد حصل على تطعيمٍ ضدَّ الوباء، ولكنّه لم يستطع أن يتغاضى عن حرفية السؤال. فهو إن أجاب الآن بنعم فإنّه يُقرُّ بأنّه المطعوم نفسُه، ونفسُه الأبيّة لا ترضى على نفسِه أن يقرَّ بإقرارٍ يستصغر فيه نفسَه أو يُغيّرها. وفريد شخصٌ فريد، وله في ذاته مفهوم خاصٌّ عن ذاته لا يتساهل فيه أبدًا.

لكنّه ليس غبيًّا كذلك، لقد أدرك رغم الامتعاض الذي أصابه أنّه لا يستطيع أن يجيب بلا أيضًا. لقد استطاع أن يرى فريد من خلال ضميره اللغوي ما قد يترتّب على نفيه كونه مطعومًا لأنَّ الموظفة ستفهم بأنّه لم يحصل على التطعيم. فالتجأ إلى الحل الديبلوماسيّ الأفضل الذي خطر على باله، وهو أن يشرح لها خطأها لتغيّر صيغة السؤال فيجيبها وهو مرتاح البال.

اعترضت فريد وضميره اللغوي مشكلة جديدة؛ فاللّغة التركية لم تكن ضمن مجال عمل ضميره اللغوي، فحيويته اقتصرت عنها. ورغم أنَّه من الصعب نظريًّا شرح الفرق في اللغة الإنكليزية بين الفعل بصيغته المصرّفة والفعل بصيغته كاسم مفعول للشخص الذي لا يُدرك الإنكليزية مستخدمًا اللغة الإنكليزية، ولزيادة في التفاصييل لم تكن تأبه كثيرًا بفهمها.

حاول تبسيط لغته، أو هكذا اعتقد أنّه يفعل، وحاول تلقينها السؤال كما يجب أن يُنطق، وأكثر فريد من حركة يديه لعلّهما جعلت الشرح أسهل. إلّا أنَّ طيبة قلب الموظفة جعلتها تظنُّ أنّه هو الذي لم يفهم سؤالها. وبعد تأفّفٍ وشتيمة صغيرة خرجت من بين شفتيها بصوتٍ منخفضٍ جدًّا، شرعت بمساعدته وتوضيح سؤالها معيدةً إياه نفسه بصيغته نفسها لكن بصوتٍ أعلى. ثمَّ استغبت نفسها بأنّها أصبحت إحدى هؤلاء الذين يعتقدون أنّهم إن رفعوا أصواتهم أصبحوا أكثر وضوحًا، وتذكّرت في أجزاء من الثانية كم اشتكت من كم المسافرين الأجانب الذين تلقاهم في المطار الذين يقومون بذلك معها كلّما كان هناك سوء اتصالٍ لغوي. فأسعفت سؤالها بحركة من يدها حيث حرّكت إبهامها بحركاتٍ متتالية بين السبابة والوسطى كناية عن حقنة وهمية آملةً أن تكون هذه الإشارة قد أضحت عالميًّا تعني أخذ المطعوم.

استاء فريد كثيرًا، فقد ضاع شرحه هباءً، وها هي تعيد بكلّ بلاهة صيغة السؤال نفسه. لا يزال عاجزًا عن الإجابة وقد أخذ الصفُّ وراءه يزداد طولًا وساقاه تعبتا من طول الوقوف. لكنّه لم ييأس، واستمرَّ بالشرح مستعينًا بألفاظٍ إنكليزية أُخرى لعلّها أوصلت الفكرة. والنتيجة كانت مماثلة، لم تفهم الموظّفة بماذا يبرطم هذا الأحمق ليجيب عن سؤال كهذا. بالطبع حسُّها الأمني تحرّك، وبدأت تشكُّ بأنّه من أولئك الذين يعتبرون المطاعيم نوعًا من مؤامرة ما، وهذه البرطمة ليست سوى اعتراضٍ على سؤالها الذي يُقيّض حقّه بالحركة.

اقترب أحد رجال الأمن من الشبّاك وسألها ما الخطب فقالت له بأنَّ هذا الرجل، وأشارت إلى فريد، لا يفهم أسئلتها، وطلبت منه المحاولة، فأعاد الرجل السؤال على فريد بنفس الصيغة. لم يُقدّر فريد هذه النتيجة، سيضطر الآن إعادة الدرس لهذا أيضًا. وما إن كاد أن يبدأ بإعادة شرحه حتى قاطعته المرأة قائلة لرجل الشرطة بأنَّ هذا المسافر لم يفهم عليها فما الذي سيجعله يفهم على السؤال إن أعاده عليه هو؟

طال الصف خلف فريد أكثر وهو يشهد توبيخ المرأة للشرطي بعد أن طال انتظاره قبل ذلك وهو يستمع إلى محاضرة فريد. عادت المرأة إلى فريد معيدةً حركة يديها مقلّدةً حركة الحقنة آملة أن يفهم هذه المرة. قرَّر أنَّ هذه الإشارة لن تضير ضميره لو أجابها، لكن ما إن همَّ بفعل ذلك حتى باغتته بإعادة السؤال عليه بنفس الصيغة بنطقٍ يشبه إلى حدّ ما حركة عضلية لا إرادية. بدا صوتها وكأنها يائسة تتمنى أن ينتهي هذا النهار دون أن تضطرَّ للرجوع إلى مبنى المطار أبدًا.

بلَّ شفتيه بلسانه استعدادًا ببدء الشرح مجددًا. الصفُّ خلفه استمر بالزيادة طولًا، كاد يصل إلى حيث المدينة التي أتى منها، لكن لن تمرَّ هذه على خير، ما كانت لتجعله فترة انتظارٍ بين رحلتين دامت لساعاتٍ طويلة داخل مبنى المطار من أن تجبره على التنازل. انطلق بالشرح مجددًا محاولًا بكلّ جهدٍ عدم استعمال الكلمات ذاتها علّه هذه المرّة أصاب فهمًا.

سكّان الصف الذين استوطنوا خلفه بدأوا بالتذمّر، لم يفهموا سبب هذا التأخير وعلى من يقع اللَّوم وبدأ الناس يخشون أن تفوتهم رحلاتهم. سمح رجلٌ عجوزٌ لنفسه بأن يخرج من الصف ليستطلع الأمر، اقترب من شبّاك الجوازات بسلاسة أمنتها له عكّازه فلم يجزره أيٌّ من الحشد المتململ. كان العجوز بروفسورًا تركـيًّا متقاعدًا من قسم اللغات القديمة، في جعبته عشر لغاتٍ سبعٌ منها ميّتة، وعندما اقترب سمع فريد وهو يسهب بالشرح باستخدام إنكليزية بلكنة أميركية مصطنعة. استفهم عن الخطب من المرأة ومن فريد وما إن فهم أزمتهما حتى شرح للمرأة أنَّ فريد قد أخذ المطعوم فختمت له الجواز وللعجوز أيضًا كشكرٍ له على المساعدة رغم أنّه قفز عن دوره.

انزوى العجوز بفريد ليعاتبه على ما فعل، لينصحه من بحر خبرته، ليقول له إنَّ الحياة أكبر من خطأ قواعد، ليفهمه أنَّ سرَّ النجاة والسعادة هو التغاضي عن التفاصيل التي لا تضرُّ ولا تنفع. لكنه أخطأ باستعمال الإنكليزية. خدعته لهجة فريد الأميركية المصطنعة فلم يخطر بباله أن يحادثه بالعربية التي يتقنها باحترافية تفوق جودة لغة فريد والتي بالمناسبة، لا تقع ضمن نطاق صلاحيات ضمير فريد اللغوي أيضًا، رغم إتقانه لها. لم تكن الإنكليزية للبروفيسور العجوز سوى لغة سد الحاجة أثناء السفر، ولم يعمل بها مهنيًا فكانت أضعف لغاته العشر. ما إن بدأت نصائحه لفريد تشوبها الأخطاء النحوية حتى صعد الدم إلى رأس فريد وأخذ يصحح له أخطاءه، ولم يكتفِ بذلك فحسب، بل أضاف شروحًا مفصلة لأسباب استخدام الصياغات هذه أو تلك. استمرَّ العجوز بإصراره على إسداء نصائحه، لكنَّ كبر سنه جعله يفقد مرونته بتقبُّل دروس القواعد، فاستمرَّ بأخطائه بلا قصدٍ منه.

كاد حوار الطرشان هذا يستمرُّ إلى الأبد، كان هذا الحوار سيتحول إلى ملحمة سرمدية تتحدَّثُ عنه كتب الأساطير لو لم يقطعه الموت فجأة. ليس موت العجوز المسكين الذي لم يفقد الأمل بنصح الشاب، بل موت الشاب الذي لم يتحمَّل قلبه المرهف حيوية ضميره الحي فتوقف عن العمل.

The post في محل ضميرٍ ما appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
حظُّ الفقير عاطل لزومًا https://rommanmag.com/archives/20874 Mon, 16 May 2022 10:11:19 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ad%d8%b8%d9%8f%d9%91-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%82%d9%8a%d8%b1-%d8%b9%d8%a7%d8%b7%d9%84-%d9%84%d8%b2%d9%88%d9%85%d9%8b%d8%a7/ أنا لا أرى نفسي فهلويًّا في مجال الأعمال الحرّة، لستُ ممّن يستطيعون حبك مشروعٍ تجاريّ ناجح وتحويله إلى ماكينة لدرّ الأموال. ودائمًا ما كنت أسأل نفسي ماذا لو كنت فقيرًا ابن عائلة فقيرة؟ هل كنت سأستطيع انتشال نفسي ممّا كنت سأكون فيه؟ ودائمًا يأتيني الجواب بلا. حتى إنّني لستُ موظّفًا مثاليًّا، وغالبًا ما كنت أُرجع […]

The post حظُّ الفقير عاطل لزومًا appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
أنا لا أرى نفسي فهلويًّا في مجال الأعمال الحرّة، لستُ ممّن يستطيعون حبك مشروعٍ تجاريّ ناجح وتحويله إلى ماكينة لدرّ الأموال. ودائمًا ما كنت أسأل نفسي ماذا لو كنت فقيرًا ابن عائلة فقيرة؟ هل كنت سأستطيع انتشال نفسي ممّا كنت سأكون فيه؟ ودائمًا يأتيني الجواب بلا. حتى إنّني لستُ موظّفًا مثاليًّا، وغالبًا ما كنت أُرجع هذا إلى محبتي بالعمل ككاتب أو كمؤدٍ صوتي. لكن حقًّا هل حبي للعمل الثقافي نابع من رفاهية ما حظيتُ بها؟

جميع هذه الأسئلة تزداد عندما أقرأ مادّة عن أساليب النجاة لدى فقراء البلاد. والمزعج لدي أنَّ بعض هؤلاء عاشوا قبل لجوئهم إلى أساليب النجاة هذه حياة الموظّف المثالي، بل وبعضهم يمتهنهما معًا.

تحتوي مقالة “دورة الخبز الناشف: من حاويات القمامة إلى علف المواشي” على منصّة حبر الإلكترونية على تحقيق يشي بعدّة جوانب من سوقٍ غير رسمي في الأردن وهو تجارة بيع الخبز الناشف مكسّرًا إلى أصحاب المواشي. للأسف عندما بدأتُ بقراءة المقال ظننتُ أنّني على وشك اكتشاف جانبٍ إبداعيّ جديد في مجال تربية المواشي حيث يقوم المربون بتوفير أسعار العلف بخلط ما يُقارب ثلث الكمية المعتادة بالخبز الناشف، ممّا يعني ربحًا زائدًا لهم، إلى أن ارتطمتُ بهذه العبارة: “ما يفعله الخبز هو أنه يربي في الخراف كميات كبيرة من الشحوم، وليس اللحم، وأنه بمجرد إيقاف تغذيتها به، فإن وزنها ينزل مباشرة وبشكل كبير. في حين يؤكد المهندس الزراعي، والخبير في الإنتاج الحيواني، محمد السوالمة، أن استخدام الخبز في تغذية المواشي هو واحد من الأخطاء الشائعة في أوساط المربين، فالخبز «لا يساهم في تسمين اللحم ولا في إدرار الحليب، كما يفعل العلف. وبالتالي فإن الوفر المتحقق في سعر العلف، ينعكس ضعفًا على المردود من المواشي»”.

أول سؤالٍ خطر في بالي هو؛ هل إذن يربح أكثر من يتّكل على العلف أكثر؟ أمّ أنَّ تجارة من يستعملون الخبز أربح لأنَّ الخاروف السمين يُباع بالوزن؟ أمّ أنَّ تجارتهم أفضل لأنّ مواشيهم أرخص ثمنًا وبالتالي سوقها فيه حركة أكثر؟

في جميع الأحوال يبدو أنَّ معايير مهنة تربية المواشي تقتضي بألا يقوم المربي بإطعام الماشية الخبز الجاف لأنّه ماليًّا ليس مفيدًا، ومع ذلك هو يستمرُّ في فعل ذلك لأنّه يريد أن يوفّر الآن على أمل إصلاح الحال، وبطبيعة الممارسة فإنَّ الحال لن يتم إصلاحه فينتج عن ذلك، طبعًا، عدم إصلاحٍ للحال. وببداهة هذه العبارة ثقيلة الدم تستمرُّ الممارسة وتخلق سوقًا رديفًا للخبز يعمل به. المفاجأة الثانية، موظّفٌ إداريٌّ سابق في الجامعة الأردنية عمل فيها 25 عامًا قبل أن يتقاعد ويعمل في مجال المفروشات حتى أُنهك منها فأصبح الآن مجفِفَ خبزٍ بدوامٍ كامل. وأيضًا تعمل في هذا المجال لكن بساعات جزئية آذنة مدرسة اتفقت مع المحال والمخابز على جمع الخبز البائت والتالف لتقوم بتجفيفه وبيعه كدخلٍ إضافيّ.

لقد عملتُ في السابق كإداريّ في معهدين من قبل، وفي حين أنّني أسعى لاحتراف العمل الفكري والثقافي، يؤسفني أن أعلم أنَّ إداريَّين في مؤسستين تعليميتين، هما عمليًّا أكثر أساسيّة للمجتمع المحلي من المعهدين اللَّذين عملت بهما، اتجها إلى تجفيف الخبز وبيعه كطعامٍ للمواشي رغم أنّه مضرٌّ لها ولا يفيد عمليًّا المربي الذي اعتقد أنّه بهذه الحركة قام بضربٍ موفّق بتوفيرٍ لحظيّ لكلفة العلف. لست في صدد إصدار حكمٍ أخلاقيّ عليهما، وليس المغزى هنا معرفة إذا كانا على علمٍ بضرر بيع الخبز الناشف على المواشي، لكنّني كذلك لم أكن أعلم أيّ موقف عليّ أن أتخذ؟ صناعة تقوم بتمشية الحال لفقراء لا يذوقون اللَّحم يبيعون طعامًا يعود بالضرر على أصحاب المواشي ومستهلكي المواشي والمواشي نفسها، أي صناعة تقوم بضرب صناعة أخرى. أم أنَّها مهنة شريفة في حياة لا شرف فيها إلا بهذا الطريق الوعر؟

هناك كثيرٌ من الفقراء الذين لا عمل لهم سوى الخبز المجفف وعلى الأغلب كنت سأفعل ما فعله الشرطي الذي وصلته شكوى بشأن الجرذان على إحدى النساء العجائز التي تعمل بتجفيف الخبز حيث قالت له “عندما ذهبتُ إلى المخفر: «قلت للضابط أنا بمشيش، بشيلوني شيل. يعني أشحد؟ قالي خلص روحي يا حجّة».”

الإحباط ومقدارٌ لا بأس منه من الخوف يصيبني عندما أقرأ تحقيقًا كهذا. وهل هُناك حلٌّ مثاليٌّ للفقر والعيش الكريم في دولة لا تستطيع تأمين حقوق البشر بسبب عدم امتلاكها لإرثٍ استعماريّ يخوّلها أن تستغلَّ الشعوب الأُخرى لمصلحتها ومصلحة “مواطنيها”؟ دائمًا يوصلني هذا التفكير إلى استنتاجاتٍ مفادها أنّنا كثيرو العدد على كوكبٍ لم يعُد يتحمّلنا. كيف لا أشعرُ بكلّ هذا عند قراءة هذه المقالات؟

The post حظُّ الفقير عاطل لزومًا appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الڪتاب اللّغز https://rommanmag.com/archives/20780 Mon, 14 Feb 2022 09:59:41 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%da%aa%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%91%d8%ba%d8%b2/ كتابٌ مكتوبٌ وكامل، وكان الهدف من كِتابته أن يقرأه شخصٌ واحد فقط؛ المؤلّف. هذه الفكرة مثيرةٌ بحدّ ذاتها لدرجة أنَّها تؤثّر على مُماراسات القارئ إذا ما وجد كتابًا هدفه كان كذلك. مخطوط فوينتش، هو مخطوط مكتوب بلغة غريبة ملغزة ويحتوي على العديد من الرسومات التي تُبيّن ماذا تحاول الكتابة أن تقوم بشرحه، وجد هذا الكتاب […]

The post الڪتاب اللّغز appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
كتابٌ مكتوبٌ وكامل، وكان الهدف من كِتابته أن يقرأه شخصٌ واحد فقط؛ المؤلّف. هذه الفكرة مثيرةٌ بحدّ ذاتها لدرجة أنَّها تؤثّر على مُماراسات القارئ إذا ما وجد كتابًا هدفه كان كذلك. مخطوط فوينتش، هو مخطوط مكتوب بلغة غريبة ملغزة ويحتوي على العديد من الرسومات التي تُبيّن ماذا تحاول الكتابة أن تقوم بشرحه، وجد هذا الكتاب جامع الكتب النادرة البولندي ويلفريد فوينتش في بدايات القرن العشرين في ديرٍ للرهبان في إيطاليا وقام بشرائه. انتهى الأمرُ بالمخطوط الآن أن يكون ضمن مجموعة مكتبة جامعة يال الأميركيـّة.

التحليل الكربونيّ للرقّ المصنوع منه يُعيد المخطوط لفترة النهضة الأوروبيّة وتحديدًا بين عاميّ 1404 و1438. أثار هذا المخطوط الكثير من المحترفين والهواة للقيام بدراسته فقام علماء المخطوطات (الكوديكولوجيا) ومفكّـكي الشيفرات، منهم من كان مفكّكًا للشيفرات في الحربين العالميتين، بالإضافة إلى اللّغويين بمحاولات عدّة لمعرفة أصل ومحتوى المخطوط.

يمكننا القول إنَّ بعضًا من النجاح أصابهم في تحديد أصله إلّا أنَّ كاتبه لا يزال مجهولًا. أمّا اللّغويين ومفكّـكي الشيفرات فإنّهم يتخبّطون بين حروفه المكتوبة من اليسار إلى اليمين على أمل ترجمة النّص.

إنَّ قوّة الجذب التي يمتلكها هذا المخطوط فريدة في نوعها. فمع أنَّ الرسومات توضّح أنَّ موضوعه كان معنيًّا ببعض الممارسات الطبيّة في عصر النّهضة الأوروبيّة والتي تشتمل في ذلك الوقت على علم النبات والعقاقير ومعرفة بالأبراج والتنبؤات الفلكيّة، لكن لم تتوقّف محاولة ترجمة نصّه اعتمادًا على ما يعرفه النّاس من اللّغات الساميّة واللاتينيّة واللّغة اليونانيّة. بل حتى أنَّ إحدى هذه المحاولات أتت من مهندسٍ تركي يُدعى أحمد آرديتش لديه إلمام باللّغة التركية وتراكيبها اللّغويّة حيث حوّل محاولات ترجمة المخطوط إلى مشروعٍ عائليّ يشاركه فيه ولداه اللذان أصبحا مهووسيّن في لغة هذا المخطوط.

أدركت جامعة يال هذه الجاذبيّة وقامت بتصويره فوتوغرافيًّا وطباعته بالحجم الطبيعي وإضافة ستة أبحاث عنه في الملحق. هذا الكتاب لم يعد يتناول موضوعًا إنّما أصبح هو نفسه الموضوع.

اللّغز المُصاحبُ لهذا المخطوط ألهم الفنّان الإيطاليّ لويجي سيرافيني باختراعِ موسوعة لعالم وهميّ قام برسم كائناته وأشيائه بنفسه وأضاف خربشات تبدو ككتابة تصف تلك الرسومات، وأسماها Codex Seraphinianus أو ما يُمكن ترجمته إلى كُـرّاس سيرافينيانوس أو مخطوط سيرافينيانوس. وقد استُقبل هذا العمل بالترحاب من قِبَل محبي الكتب والفنّانين وحتى المؤسسات الفنية. وبالطبع خضعت الكتابة لمحاولات عدّة لفكّ التشفير معتقدين أنَّ سيرافيني قام بتركيب لغّة جديدة لها مفرداتها وقواعدها كما فعل تولكين في ’سيّد الخواتم‘، لكن سيرافيني لم يستطع إلّا أن يُخيّب أمل المُعجبين بالعمل عندما أعلن أنَّ ما يظهر كأنّه كتابة ليس سوى خربشات لا معنى لها وأنّها جزءٌ من الإطار العام لمظهر العمل نفسه.

اقتناء هذه الكتب أو هذه المخطوطات ليس قائمًا على حُبّ امتلاك المعرفة التي فيه. صحيح أنَّ مخطوط فوينتش ثمين لكنَّ قيمته المالية أتت من المادّة التي صُنع منها ومن قيمته التُّراثيّة ممّا حوّله إلى كتابٍ تُحفة. ولا يمكن لهذا الأمر أن ينطبق على الكتاب المصوَّر فثمنه الغالي في عالم النّشر سببه غلاء طباعة الكتب الملوّنة بشكلٍ عام.

إنَّ الكتاب الذي يُطرح كلغزٍ له نكهة خاصة، ما كان ذلك المهندس التركي ليسعى جاهدًا لفكّ شيفرة كتابٍ آخر لو كان مصنوعًا بنفس الجودة لكن مكتوبًا بلغة يستطيع نظريًّا تعلّمها، سواء أكانت لغةً حيّةً صعبةً أم مندثرةً كالبابليةِ مثلًا. فكرة أنَّ هُناك مَن يستطيع قراءة المخطوط لوحدها تُبعد عنه الاهتمام وتصرفه إلى لُغزٍ آخر.

من المُستبعد أن يأتي يومٌ نجد فيه مخطوطًا بهيًّا بذات الرسومات لكن مكتوبًا بالصينيّة مثلًا معروضًا في مكتبة مؤسّسةٍ فنيّة عربية؛ لا أحد سيكترث له.

ما دفع جميع أولئك المُهتمين بالانغماس في ترجمة مخطوط فوينتش قد يكون الشهرة وتحصيل الثروة. من المستبعد أن يكون هُناك فائدة علميّة مباشرة يمكن الولوج إليها في ذلك الكتاب، باستثناء المؤرّخين الذين قد تفتح لهم وصفات المخطوط عالمًا جديدًا في تاريخ الطب في أوروبا القرن الخامس عشر. لكن رغم أنَّ الثروة والشهرة دافعان قويّان للمضي بمشروع فك شيفرة مخطوط فوينتش، إلّا أنّنا لا يمكننا أن نُهمل تأثير الرَّغبة التي تجتاحنا عند مواجهتنا للغزٍ لا نفهمه، لغزٍ كان يُمكنه أن يدفع أيّ شخص خلال مئات السنين التي خلت إلى إحراقه، لكنّه مع ذلك نجى وأصبح من أشهر وأثمن كتب العالم الآن. ولا أنفكُّ أتساءل؛ عندما تُفَكُّ شيفرته ويصبح له ترجمة معروفة، هل سيُحافظ على قيمته المعنوية؟ وهل سيكترثُ أحدٌ بتلك الترجمة؟ أفترض حينها أنَّ مصيره سيكون كجميع مخطوطات الرّق الأُخرى التي لا نقرؤها، تحفة أُخرى في متحف، أثناء ذلك سيبحث النّاس عن لغزٍ جديد، سواءٌ في كتابٍ غير مفهوم أو بين سطور كتابٍ مفهوم ومعروفٍ جدًّا.

The post الڪتاب اللّغز appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الڪِتاب الخدمة https://rommanmag.com/archives/20745 Wed, 05 Jan 2022 09:20:55 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%da%aa%d9%90%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d8%af%d9%85%d8%a9/ عملتُ أثناء دراستي في الجامعة في مكتبتها العامّة، وقد كان زُملائي في العمل في كافّة أقسام المكتبة لا يقرأون أكثر من الجرائد اليوميّة، بل إنّ معظمهم لا يحمل الشهادات الجامعية. لا بأس بالأخيرة، لكنَّ الأولى كانت دائمًا ما تحيّرني. هل يُعقل أن تكون مُحاطًا بكلّ تلك الكُتُب وألّا تكون قارئًا؟ للمكتبات العامّة أنظمة تصنيف للكُتُب […]

The post الڪِتاب الخدمة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
عملتُ أثناء دراستي في الجامعة في مكتبتها العامّة، وقد كان زُملائي في العمل في كافّة أقسام المكتبة لا يقرأون أكثر من الجرائد اليوميّة، بل إنّ معظمهم لا يحمل الشهادات الجامعية. لا بأس بالأخيرة، لكنَّ الأولى كانت دائمًا ما تحيّرني. هل يُعقل أن تكون مُحاطًا بكلّ تلك الكُتُب وألّا تكون قارئًا؟

للمكتبات العامّة أنظمة تصنيف للكُتُب مرتبطة بشكلٍ أو بآخر بالنموذج الأكاديمي الذي أتت منه وأشهرها تصنيف ديوي العشري الذي يحتوي، كما يدلُّ اسمه، على عشرة أقسام للتصنيف (لاحقًا طوّر الأوروبيّون منه نسخة ليكون التصنيف العالمي العشري إلّا أنّه يحتوي تسعة أقسام فقط) وأيضًا يوجد تصنيف مكتبة الكونغرس الذي بدأ يزداد شهرة لاحتوائه على عددٍ أكبر من التصنيفات ليستوعب متطلبات الأكاديميا أكثر، فإلى الآن لديه واحدٌ وعشرون قسمًا. هُناك نوع تصنيف آخر، أكثر تعقيدًا وأقل شهرة، وضعه الرياضياتي والمكتباتي الهندي شيالي رامامريتا رانغاناثان، ويحتوي على اثنين وأربعين قسمًا للتصنيف، أيّ ضعف عدد التصنيفات في نظام مكتبة الكونغرس.

للعمل في مكتبة عامّة يكفي أن تعرف وأن تعرفي النظام الذي تستخدمه المكتبة لكي تنجحا في العمل فيها. المصنّفون في المكتبة لا يقرأون الكتب لتصنيفها ففي العادة تأتي الكتب وتصنيفها معها وكلُّ ما على المصنفين فعله هو ترميز الكتاب ضمن القسم الذي سيوضع فيه. على المستوى الإداري يعرف المكتباتيون أنظمة إدارة المعلومات، فهذه هي فعلًا وظيفة مؤسّسة المكتبة العامة؛ عليهم تصنيف وترتيب المواد الموجودة والسعي للحفاظ عليها ضمن شروط استخدام المكتبة كالاستعارة أو الاستخدام المحليّ داخل المكتبة.

أما على مستوى الموظفين فهناك مكتبٌ واحد يكون العاملون فيه مرشّحين لأن يصبحوا قُراءً وهو قسم المراجعات، إنّهم نقطة اللقاء الأولى بين المكتبة والقارئ، سواءٌ أكان باحثًا أكاديميًّا أم لا. لكنَّ القراءة عند العاملين في هذا القسم لا تتعدّى أن تكون اجتهادًا شخصيًّا لدى الموظّف، فبرامج الحوسبة والتنظيم التي تساعد الباحث للوصول إلى مراجِعِهِ كفيلة بإيجاد كتبه، والموظّف ليس سوى خبير بهذه البرامج، وعمليًّا يصبح دوره مساعدة المراجعين غير المجيدين لاستخدام النظام بأنفسهم.

داخل المكتبات الصغيرة يكون هؤلاء الموظّفون مسؤولين عن إخراج الكتاب وتسجيله بالنيابة عن المستعيرين. أمّا في المكتبات الأكبر حجمًا فهُناك قسمٌ آخر يقوم بذلك حيث يُسلّم ويَستَلِم الكتب. يُدخلون بيانات المستعيرين وهم من يُعيدون الكتب إلى رفوفها حسب موقعها الذين يستطيعون الوصول إليه باستخدام الرموز المطبوعة على كعب الكتاب. إنَّ هذه عملية لا تحتاج إلى فتح الكتاب.

إن زاد حجم المكتبة زادت أقسامها، كأن يكون فيها قسم خاص للدوريات وآخر للأرشيف. قسمُ الأرشيف عادةً يشغله مدخلون للبيانات لديهم مهارات حفظ الكتاب وتصويره. عادةً ما يكون الأرشيف الغرفة الأبرد في المكتبة حماية للكتب من العفن.

بعضُ المكتبات، كالتي عملتُ فيها، لديها قسمٌ للتجليد. تدخُلُ إليه الكتب التي وَصَلَت كتبرُّعٍ للمكتبة من مكتبات خاصة قد تحتوي على نسخٍ بحاجة للقليل من الترميم. قسم التجليد عادةً ما يجمع الجرائد القديمة بمجلّدات كبيرة لوضعها بالأرشيف.

جميع هذه المهام في المكتبة العامة تتكامل لإيصال خدمة إلى المراجعين يُفترض أنّهم أتوا من أجلها، وهي الكتب. تُشكّل هذه المهام معًا سلسلة من الوظائف المترابطة التي تجعل من الكتاب وظيفة خدماتية فحسب، وليست للمكتباتي حاجة إلى قراءتها للعمل فيها.

قد يقول البعض إنَّ المُنشأة التي تُسمّى بالمكتبة العامة لا يستعملها الرُّواد لقراءة محتوياتها من الكتب بل هم يدخلون إلى المساحة للعمل أو الدراسة مستخدمين ما يملكونه مسبّقًا من كتب أكاديميّة. تعليقٌ كهذا لا علاقة له بطبيعة الوظائف التي عُدَّت من قبل. تفعيل المساحات وإدارتها هو نشاطٌ يختلف تمامًا عن تنظيم الكتب وجعلها متوفرة للقُرّاء.

علاقة القيمين على المكتبات العامة مع الكتب لا تختلف كثيرًا عن علاقة تُجّار الكتب بها. فكما هي للتُّجار سلعة مربحة دون أن يكون هُناك من داعٍ لقراءتها أو المشاركة بكتابتها. فإنَّ تقديم الكتاب كخدمة غير ربحيّة في المكتبات العامّة تحتاج إلى العديد من المهارات الدقيقة لكنَّ القراءة النقدية ليست واحدةً منها.

ليس هناك أيُّ شيءٍ حالم في المكتبات العامّة سوى عدد الكتب الكبير الذي يُعجب منظرها أيَّ قارئٍ مُحِب للكتب. ارتياد المكتبة وتعلُّم كيفية استخدامها دون العودة إلى موظّف هو أمرٌ مثير يُزيل حاجزًا بين الكتاب والقارئ. وكثرة ارتياد المكتبات كفيلٌ بتعلُّم هذه المهارة، إذ لا داعي لأي خبرة مهنية لذلك.

ما قد يُحوّل أي مكتبة إلى مركز ثقافيّ هو أن تتحوّل، أو يتحوّل جزءٌ منها على الأقل، إلى مكانٍ تنشط فيه النشاطات الأدبية والمناظرات (كسوق الورّاقين) حيث قد تُرغب المراجعين استخدامَ كتبها فعلًا. وكثيرٌ من المكتبات العامّة بدأت تنجح بذلك. حتى إنَّ بعض متاجر الكُتُب بدأت تأخذ خطوات شبيهة بهدف ترويج الكتب التي فيها حتى لا تبقى مجرّد معرضٍ خاملٍ ينتظر الزبون أن يأتيه بنفسه ليُفعّل المساحة والكتب.

لكن هذا لا يجب أن يُقلّل من شأن التجارب الشخصية التي قد يعيشها المُراجع مع أمين مكتبةٍ قارئ، إنَّ قارئًا في مكتبة عامّة يعمل في نقطة التقاء مع المُراجع تجعل هذه المهنة أكثر نفعًا للناس من موظّفٍ مُتكلٍ بالكامل على نظام الحوسبة. إلّا أنّ مشكلة العمل في المكتبات العامّة للقُرّاء قد يكون مفيدًا لمُنشئها الذي يريد لها النجاح، لكنّها لن تكون مفيدة لذلك القارئ الذي يُحبُّ القِراءة وتمَّ توظيفه في المكتبة على هذا الأساس في وظيفةٍ فيها كمٌّ هائل من العمل الميكانيكيّ الذي يمنعه من القِراءة.

إنَّ مهنة الأحلام لدى كلّ قارئ في العالم يريد العمل في المكتبة العامة (وحتى متاجر بيع الكتب أيضًا) هو أن يقدر على أن يكون مُستشارًا مرجعيًّا للباحثين والقُرّاء وأن تكفل له وظيفته وقتًا للقراءة أكثر حتى يتحسّن أداؤه في عمله. لكن للأسف هذه المهنة ليست متوفّرة لأنّها غير موجودة أصلًا.

وحتى حينه أنصح جميع القُرّاء محاولة ارتياد المكتبات العامة وفهم أنظمة عملها فهذا ما يرفع الحواجز بيننا وبين الكتب. لكن لا أنصح باختبار المكتبة من الجانب الآخر فهي ليست كما تظنّون، ففي الداخل الكتاب ليس للقراءة بل هو خدمة للآخرين فقط.

The post الڪِتاب الخدمة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>