نديم جرجوره - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/62rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:42:50 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png نديم جرجوره - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/62rommanmag-com 32 32 فيلمان “فلسطينيان” جديدان: اشتغالات متنوّعة على المكان والأداء https://rommanmag.com/archives/21034 Fri, 04 Nov 2022 14:11:55 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%81%d9%8a%d9%84%d9%85%d8%a7%d9%86-%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a%d8%a7%d9%86-%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d8%b4%d8%aa%d8%ba%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d9%85%d8%aa%d9%86/ كلاكيت:

The post فيلمان “فلسطينيان” جديدان: اشتغالات متنوّعة على المكان والأداء appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
3 مشتركات تجمع “حمى البحر المتوسّط” (2022) للفلسطينية مها حاج بـ”فرحة” (2021) للأردنية دارين ج. سلاّم: اشتغالٌ على الفرد الفلسطيني؛ اختيارٌ للمشاركة في التصفيات الأولى لـ”أوسكار” أفضل فيلم أجنبي، في النسخة الـ 95 (تُعلن النتائج النهائية في 12 آذار 2023)، الأول باسم فلسطين، والثاني باسم الأردن؛ اختيارهما للعرض في الدورة الـ9 (1 ـ 7 تشرين الثاني 2023) لـ”أيام فلسطين السينمائية”، فالأول معروضٌ في حفلة الافتتاح، والثاني سيُعرض في الختام.

الاشتغال على الفرد الفلسطيني يختلف من فيلمٍ إلى آخر. مها حاج مهمومة بيوميات وتفاصيل ومآزق، في النفس والروح والاجتماع والعلاقات، من دون التغاضي كلّياً عن تأثيراتٍ يصنعها الاحتلال الإسرائيلي بأساليب مختلفة. دارين ج. سلاّم تمنح الحكاية الفردية بُعداً جماعياً، وتجعل التفاصيل اليومية للفرد مدخلاً إلى معاينة اللحظات الأولى لـ”نكبة 48″، وتحوّل المرويّ بعينيّ المُراهقة فرحة (كرم طاهر)، وأحاسيسها وتبدّلاتها الجسدية، إلى مساحة بصرية لاستعادة لحظة تاريخية مفصلية في تاريخ فلسطين، بما فيها من قتلٍ وتهجير وتبديل مسارات ومصائر، ومن عنفٍ يمارسه الصهاينة بنيّة واضحة لإلغاء وإقصاء، في الجغرافيا والذاكرة والحياة.

الفرد أساسيّ في اشتغالات مها حاج. “أمورٌ شخصية” (2016)، أول روائيّ طويل لها (“رمّان الثقافية”، 16 كانون الثاني 2017)، بدايةٌ مُثيرة لاهتمامٍ نقديّ، ولمتعة مشاهدة، لما فيه من حياكة سينمائية لسِيَر أفرادٍ يعيشون يومياتهم ببساطة وهدوء، غير حاجِبَين روتيناً قاتلاً في تمضية الوقت. في هذه الحياكة الرائعة، تعكس حاج شيئاً من أحوالٍ ورغباتٍ ومشاعر خاصة بأفراد عائلة، وبعلاقاتهم وأهوائهم. “حمى البحر المتوسّط” (“رمّان الثقافية”، 30 حزيران 2022) استكمالٌ لمشروعٍ يهتمّ بالتفاصيل اليومية، صانعاً منها مرايا شفّافة وقاسية لأناسٍ تائهين في آلامٍ ذاتية، وانكسارات وخيبات وأوجاعٍ، لن تكون كلّها نتاج احتلالٍ إسرائيلي، له بصماتٍ حادّة وغير مباشرة فيه.

الفرد الفلسطيني نفسه حاضرٌ في “فرحة” (“رمّان الثقافية”، 10 كانون الثاني 2022)، لكنّه غير مُكتفٍ بذاته كنصٍّ يكتب بالصُوَر حكاية وسيرة وهموماً خاصة به، لأنّه حجّة درامية وجمالية لقولٍ، يُوازن بين حربٍ ونكبةٍ واحتلالٍ ومجازر وقهرٍ وآلامٍ، وكيفية مواجهة المُراهِقة فرحة هذا كلّه، لوحدها، من داخل غرفة/قبو مُغلق عليها، فوالدها “يُخفيها” فيه، حرصاً على سلامتها، واعداً إياها بعودةٍ قريبة (!). المساحة الأوسع ستكون لمجريات فعل جُرميّ، يرتكبه الصهاينة في بلدٍ يحتلّونه، ويطردون بعض أهله ويقتلون بعضهم الآخر، مع أنّ حكاية فرحة، كمُراهقة وكفردٍ وكإنسانٍ، تحضر في ثنايا السرد الجماعيّ، والكاميرا (تصوير راشيل عون) لن تبقى آلة، بل روح فرحة وعينيها وانفعالاتها، في تلصّصها عبر ثقوب الغرفة/القبو على الحاصل في خارجٍ، يُفترض به أنْ يكون منزلها/قريتها/ بلدها، المسلوبة كلّها منها، تدريجياً.

الفرد الفلسطيني نواة جوهرية لـ”حمى البحر المتوسّط”، المكتفي به. فمعه وعبره، تُروى حكايات شقاء وقهر وانسداد أفق، منبثقةٌ كلّها من ارتباك نفسي/روحي، يُعانيه المرء في يومياته العادية، إنْ يكن زوجاً/أباً، أو متورّطاً في أفعال جُرمية (وهو أب/زوج/عاشق أيضاً)، أو امرأة/زوجة/أم. كلّ ما تبغيه مها حاج مرتبطٌ مباشرة بهذا الفرد وحده. فلسطين المحتلّة/الاحتلال الإسرائيلي يحضران قليلاً، بسلاسة وتبسيطٍ جمالي/درامي مُحبَّب، من دون أنْ يطغى على النواة الجوهرية تلك (مدير التصوير إدوارد إيبرل). الفرد الفلسطيني نفسه سيكون جزءاً أساسياً من النواة الجوهرية لـ”فرحة”، من دون أن يغلب على المشهد برمّته، لأنّه مرآة واقع وجماعة ومصائر، وإنْ تختفي الجماعة وواقعها ومصائر أفرادها عن الشاشة، مباشرةً.

إدخال فرحة إلى غرفة/قبو، بهدف حمايتها من الصهاينة، يتطلّب اشتغالاً أعمق على الأداء والتصوير، تحديداً. فالمكان مُغلق، والعتمة طاغيةٌ، والحركة الجسدية، تحديداً، مُحاصرة بجدران وأثاثٍ وأكياسٍ، ما يستدعي جهداً أكبر في التقاط نبض الحاصل في المكان، وفي خارجه أيضاً، من خلال التلصّص الذي تُمارسه فرحة، لفهم الخارج ومعاينته، من خلال ثقبٍ صغير في جدار أو بابٍ. والفيلم ـ إذْ يعيد صوغ مشهد النكبة الفلسطينية بمفردات سينمائية بسيطةٍ وسلسة ـ سيكون فعلياً ذاك الحاصل في الغرفة/القبو، حيث تلتقي أنماطٌ فنية وتقنية، ترتكز أساساً على جهد كرم طاهر، المُراهقة (هي أيضاً)، التي تؤدّي أول دور سينمائي لها. فطاهر تُحوِّل بعض مُراهقتها إلى فرحة، مزيلةً في الوقت نفسه كلّ عائق بينها وبين الشخصية، ما يدفع بفرحة إلى ممارسة مراهقتها المعطّلة بفضل حيوية مُراهقة كرم طاهر نفسها، مع اختلافٍ جوهري، كامنٌ في أنّ مُراهقة الممثلة غير معطّلة، كحالة فرحة.

مها حاج غير مرتبطةٍ بأمكنةٍ مغلقة، وبمعاينة حسّية للحظة تاريخية قاهِرة، كـ”نكبة 48″. في “حمى البحر المتوسّط”، غرفٌ في أكثر من منزلٍ، تُقيم فيها عائلاتٌ، بعض أفرادها يحتاج إلى سكينةٍ لتحقيق رغبةٍ في كتابة رواية، وبعض آخر يجد في المنزل ملاذاً وعيشاً وحياةً، كأي عائلة أخرى. الخارج حاضرٌ بقوّة أيضاً، وفيه أحداثٌ وعلاقاتُ وتساؤلات. المسألة أنّ الحالات التي يعيشها أفرادُ تلك العائلات، تبدو “هدفاً” سينمائياً أساسياً. خاصة بالنسبة إلى وليد (عامر حليحل)، الذي يُشكِّل العَصب الدرامي للنصّ السينمائي (سيناريو مها حاج، الفائز بجائزة “نظرة ما” في الدورة الـ 75 لمهرجان “كانّ” السينمائي، المُقامة بين 17 و28 مايو/أيار 2022)، بما فيه من انفعال وقلق وتعب، ومن رغبات معطوبة، ووقائع قاسية، وشعور باختناقٍ.

عفوية كرم طاهر يُضاف إليها تصوّر سينمائيّ، يصنع شخصيتها التمثيلية (فرحة)، بكل انفعالاتها وهواجسها وقلقها وخوفها، وهذا كلّه لاحقٌ على جرأة لديها في مواجهة رغبة والدها المختار (أشرف برهوم) في تزويجها، والمواجهة مبنيةٌ على رغبة مُضادة لها في إكمال دراستها. هذه العفوية، رغم جماليّتها الأدائية، غير متساوية، جمالياً وعاطفياً ودرامياً، مع أداء عامر حليحل في شخصية وليد، المليئة بارتباكات واضطرابات ومخاوف وقلق، إذْ يبلغ أداؤه مرتبةً احترافية باهرة في تحويل ملامحه وشكله وحركاته إلى مفردات بشرية لشخصية سينمائية، غير متناقضة مع أفرادٍ كثيرين.

ملاحظةُ الاشتغال السينمائي على ثنائية المكان والأداء، في فيلمي مها حاج ودارين ج. سلاّم (العرض الدولي الأول لـ”فرحة” حاصلٌ في قسم “اكتشافات”، في الدورة الـ 46 (9 ـ 18 سبتمبر/أيلول 2021) لـ”مهرجان تورنتو السينمائي الدولي”، قبل اختياره رسمياً في الدورة الـ16 (14 ـ 24 أكتوبر/تشرين الأول 2021) لـ”مهرجان روما السينمائي الدولي”)، غير حاجبةٍ ما فيهما من مسائل قابلةٌ لنقاشٍ نقدي. فمقاربة فلسطين، قضية وشعباً وأفراداً ـ وإنْ تختلف بين فيلمٍ وآخر ـ تُشكِّل ركيزة سينمائية مفتوحة على اجتهادات بصرية ودرامية وجمالية، تُساهم في بلورة سينما فلسطينية تجديدية.

The post فيلمان “فلسطينيان” جديدان: اشتغالات متنوّعة على المكان والأداء appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“نزوح” لسؤدد كعدان: ثقلٌ إنساني غير مُترجم سينمائياً كفاية https://rommanmag.com/archives/21028 Fri, 28 Oct 2022 11:24:47 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%86%d8%b2%d9%88%d8%ad-%d9%84%d8%b3%d8%a4%d8%af%d8%af-%d9%83%d8%b9%d8%af%d8%a7%d9%86-%d8%ab%d9%82%d9%84%d9%8c-%d8%a5%d9%86%d8%b3%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d9%85%d9%8f%d8%aa%d8%b1/ كلاكيت:

The post “نزوح” لسؤدد كعدان: ثقلٌ إنساني غير مُترجم سينمائياً كفاية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
إنْ تكن قارورة غاز سبباً درامياً لسرد فصولٍ من حياة أفراد سوريين، في حربٍ ضد بلدٍ وشعبٍ واجتماعٍ، في “يوم أضعت ظلّي” (2018)؛ فإنّ انقطاع المياه دافعٌ إلى تصوير تفاصيل عيشٍ في مدينة مدمَّرة، تعاني آثار استمرار تلك الحرب نفسها، كما في “نزوح” (2022).

مقاربة أهوال بيئة ومصاعب أناسٍ فيها، سينمائياً، يدفع المخرجة السورية سؤدد كعدان (1979) إلى اختيار تفصيلٍ حياتي أساسيّ في الحياة اليومية، ليكون ركيزة بصرية، تحتمل شيئاً من تأمّل وتفكير في شؤون ومشاعر ورغبات، بكشف بعضها على الأقلّ. قارورة الغاز الفارغة سببٌ كافٍ لخروج سناء (سوسن أرشيد) من منزلها، بحثاً عن قارورة أخرى تصلح لإعداد العشاء لابنها الوحيد خليل (أحمد مرهف آل علي)، تاركةً إياه في عتمة منزل ومدينة، والخروج هذا يتحوّل إلى مرآةٍ تعكس بعض الحاصل في الخارج، على الأقلّ. وانقطاع المياه مدخلٌ إلى كشف المخفيّ في عائلةٍ، مؤلّفة من الأبوين هالة (كندة علوش) ومعتزّ (سامر المصري)، وابنتهما زينة (هالا الزين)، أصغر بناتهما، المتزوّجات والمُقيمات مع عائلاتهنّ في أمكنةٍ مختلفة. بكشف بعض هذا المخفيّ، تُروى أحوال بلدٍ في صراعه مع الموت، بل مع القتل والتدمير والإلغاء.

بهذا، يتّصل كشف المخفيّ بواقعٍ سوريّ، يُقيم في دمار واحتراق ومخاوف ومخاطر، وعيشه مليءٌ بقلق وقهر وآلام. الواقع السوريّ حربٌ، ظهورها ـ بصرياً وسمعياً ـ نادرٌ، وآثارها (أطلال أبنية، انفجار صاروخ في المنزل العائلي يُسبِّب أضراراً مادية فقط، شوارع مليئة بركامٍ، إلخ.) تُصيب نفوساً ومشاعر أيضاً. انقطاع المياه أثرٌ يُبنَى عليه نصٌّ (كتابة كعدان) يُراد منه أنْ يكون انعكاساً لمُصابٍ يحلّ بالعائلة، يتمثّل (المُصاب) بصدامٍ بين هالة ومُعتزّ، غير المتوافقَين أحدهما مع الآخر إزاء مسألة البقاء (معتزّ) والخروج إلى مكان آمن (هالة). أما زينة، فتعيش مرحلة عُمرية مهمّة للغاية، إذْ تبدأ اكتشاف جسدها ومشاعرها، رغم سوءٍ يُحيط بها، وغبار يفترش أرضاً وعقلاً (عناد الأب إزاء البقاء، ومحاولاته الهزيلة لخلقِ إيجابيات من وطأة السلبيات القاتلة).

صدامٌ كهذا يمتدّ مئة دقيقة، موزّعة على أيامٍ عدّة، يتخلّلها تعارفٌ بين زينة وابن الجيران، عامر (نزار العاني)، المهووس بتصوير الأفلام، ومنقذ هالة وزينة من جحيمٍ يفرضه معتزّ عليهما، لأنه رافضٌ الخروج، ومُصرّ على البقاء، كأنّ الرفض والإصرار انعكاسٌ لمعنى العلاقة بالبلد، وهذا يُناقَش طويلاً، فحسم الإجابة على السؤال غير سهلٍ، وغير قابل للتحقّق أصلاً، لأنّ الهجرة/البقاء مسألة ذاتية، ولكلٍّ منهما تبريرات، بعضها مُقنعٌ. اشتغالها سينمائياً دونه تحدّيات جمّة، درامياً وجمالياً وفنياً وتقنياً.

والسؤال، المغلَّف بسرد يوميات العائلة في جحيم بلدٍ ومنزلٍ، يتمثّل بالتالي: هل يبقى المرء في بلدٍ (منزل) معطوبٍ، يُثير خوفاً ويُشيع خراباً وموتاً، والأسوأ أنّ من يُثير الخوف ويشيع الخراب والموت نظامٌ يُفترض به أنْ يحمي أبناء الوطن وبناته، مانحاً إياهم كلّ أصناف الأمان والاحترام؟ إجابة سؤدد كعدان غير حاسمةٍ، فالخروج شبه الآمن لهالة وزينة رفقة عمر، عبر نفقٍ، سيتعطّل في لحظة وصول معتزّ إليهم، وتمكّنه من جذب زينة إليه، فترضخ هالة. اللاحق سيكون “لمّ شمل بقايا العائلة”، والتعبير عن الحبّ الكبير لمعتزّ إزاء هالة يكاد يُلغي كلّ ما له علاقة بجوهر التساؤلات المعنية بالهجرة/البقاء، ومفهوم العائلة/الوطن، وثنائية أهل/أبناء. ألن يكون الخضوع، الملتبس ربما، لهالة إزاء معتزّ، بسبب زينة، انعكاس لمفهوم خضوع المرأة للرجل، وإنْ بسبب ابن/ابنة؟ ألن يكون تشدّده الصارم إزاء الجيران، وخروج هالة عليهم من دون ارتداء الحجاب، فيغضب عليها طالباً منها بحدة ارتداءه، موقفٌ من مسألة علاقة الرجل بالمرأة؟

التعبير نفسه مُبالَغٌ في كاريكاتوريّته، التي تتفاقم مع أداء متصنّع لسامر المصري، الذي يخفق مراراً في إظهار خفّة دمّ وتصرّف هادئ وإعلان حبّ زوج/أب، محاولاً إشاعة مناخ مُريح رغم الخوف والقلق والاضطراب. أداء يبلغ، أحياناً، رتبة التهريج غير المُضحك وغير الممتع. فغلبة الحرب والتحرّر من الخوف وتجاوز التحدّيات أمورٌ يستسهلها التمثيل والنصّ والمعالجة، وسلوك معتزّ، كما يُبيّنه سامر المصري ويمارسه، مُنفر لشدّة اقترابه من بهلوانياتٍ، تحدث في تمثيلٍ وواقع.

للنصّ أهميته في مقاربة إحدى الحالات القاسية والصعبة، التي يُعانيها كثيرون وكثيرات في حروبٍ أهلية. لكنّ الترجمة السينمائية ينقصها ما يُزيل كلّ حاجز بين المُصوَّر (هِلن لوفار وبوراك كانبير) والمُشاهِد، وكلّ وهنٍ في تركيب الشخصيات وعلاقاتها، وفي كيفية مقاربة الأسئلة ومعاينتها، وفي تصميم مَشاهد وتنفيذها (مونتاج سؤدد كعدان ونيلّي كَتّييه). كأنّ هناك ناقصٌ دائماً، في الانفعالات والحوارات والأحلام، كما في الصدام والخروج والمطاردة. هناك ما يشي بانعدام منطقٍ درامي في بناء النصّ سينمائياً (شيءٌ يُشبه الارتباك في كتابة مَشاهد وعلاقات وآليات تعبير، وفي تنفيذ غالبيتها، خاصة إصابة المنزل العائليّ بصاروخ يُدمّر أكثر من جدار وسقف، من دون إصابة أفراد العائلة بالأخطر من جرحٍ)، وبعجزٍ عن منح الشخصيات حيويتها وواقعيتها وإنسانيتها.

يبدو أنّ الثقل الإنساني في ما تختاره سؤدد كعدان حائلٌ دون ترجمة سينمائية أمتن وأعمق. لديها قدرة على إيجاد ما يُثير إعمال تفكير وتأمّل في أحوالٍ، تبدأ بالفرديّ وتنتقل إلى تساؤلاتِ جماعة. لكنّ الترجمة السينمائية غير كافية، بل غير متساويةٍ والثقل الإنساني، القادر ـ مع ترجمة سينمائية أمتن وأعمق ـ على كشفٍ وتفكيكٍ وقولٍ، يُفترض بها أنْ تُثير متعة مُشاهدة رغم الخراب والموت والمآزق، وتنبّهاً إلى أحوال وأهوال. فيلمٌ قصير لها، بعنوان “عزيزة” (2019، 13 دقيقة، تمثيل عبد المنعم عمايري وكاريس بشار)، يؤكّد قدرتها على معاينةٍ ومقاربة سينمائيتين: قصة سلسة وإنْ تُحمَّل بقول سياسي/ثقافي، تكثيفٌ مقبول، إدارة تمثيل أفضل، معالجة أسلس. هذا غير حاضرٍ، كفاية، في “نزوح”، وحضوره في “يوم أضعت ظلّي” ـ الفائز بجائزة “أسد المستقبل أفضل فيلم”، في مسابقة “آفاق”، في الدورة الـ75 (29 آب ـ 8 أيلول 2018) لـ”مهرجان فينيسيا السينمائي” ـ أكبر وأهمّ.

رغم هذا، يُثير “نزوح” ـ المعروض للمرة الأولى دولياً في برنامج “آفاق إكسترا”، في الدورة الـ79 (31 آب ـ 10 أيلول 2022) للمهرجان نفسه ـ سؤال المقاربة السينمائية السورية للحرب الأسدية، المُعلنة من النظام ضد “ثورة 18 آذار” (2011)، ولهذه الثورة أشياء متفرّقة في “يوم أضعت ظلّي”، كما أنّ لتلك الحرب حضوراً في “نزوح”. سؤال يتجاوز مقالةً وفيلماً، لحاجته إلى أكثر من نقاشٍ وبحثٍ

The post “نزوح” لسؤدد كعدان: ثقلٌ إنساني غير مُترجم سينمائياً كفاية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
عن مُقاوِمةٍ لبنانية في راهن الهزائم والخيبات https://rommanmag.com/archives/21000 Fri, 07 Oct 2022 12:43:57 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b9%d9%86-%d9%85%d9%8f%d9%82%d8%a7%d9%88%d9%90%d9%85%d8%a9%d9%8d-%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b1%d8%a7%d9%87%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%b2%d8%a7%d8%a6%d9%85-%d9%88/ كلاكيت:

The post عن مُقاوِمةٍ لبنانية في راهن الهزائم والخيبات appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

“سهى، النجاة من الجحيم” (2001، 57 دقيقة)، للّبنانية الراحلة رندة الشهّال صبّاغ (1953 ـ 2008)، وثائقيّ مُبسَّط بصرياً، يُرافق المناضلة الشيوعية اللبنانية سهى بشارة (1967) في أمكنةٍ عدّة، أبرزها سجن الخيام (جنوبي لبنان)، الذي تُمضي فيه 10 أعوام (1988 ـ 1998)، بعد محاولتها، في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1988، اغتيال العميل أنطوان لحد (1927 ـ 2015)، قائد “جيش لبنان الجنوبي”، المتعاون مع الجيش الإسرائيلي، أثناء احتلاله الجنوب اللبناني والبقاع الغربي، إثر هروبه من بيروت ومناطق أخرى، بعد عمليات نوعية لـ”جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمّول)”، المُنطلقة في 16 سبتمبر/أيلول 1982، بعد أسابيع على غزوه لبنان، واحتلال عاصمته (6 يونيو/حزيران 1982).

“جبهة المقاومة” تلك ستكون الجهة المُقاوِمة، التي تنتمي سهى بشارة إليها، من خلال الحزب الشيوعي اللبناني. عام 1982، تتخلّى الشابّة الجنوبية، ابنة “دير ميماس” (88 كلم جنوبي بيروت)، عن دراستها، للالتحاق بجبهةٍ، تُنزل خسائر فادحة في الجيش الإسرائيلي، وتُرغم عناصره على مغادرة العاصمة، والانسحاب من مناطق لبنانية مختلفة، قبل تثبيت احتلاله الجنوب بين عامي 1985 و2000. بشارة ستكون إحدى المناضلات العديدات في أحزاب لبنانية، يسارية وعلمانية، يُقرّرن (مع مناضلين من الأحزاب نفسها) مقاومة المحتلّ وعملائه اللبنانيين بوسائل متواضعة، كتنفيذ عمليات انتحارية، وتفجير مقرّات وآليات، وقتل جنود وضباط.

الغزو الإسرائيلي للبنان، أو ما يُعرف بـ”عميلة سلامة الجليل” (1982)، سببٌ أساسيّ في انخراط سهى بشارة في المُقاومة الوطنية اللبنانية. وثائقيُّ رندة الشهّال صبّاغ يُركّز على تفاصيل من سيرتها (ترتبط بالسجن والمقاومة أساساً)، تُصدرها بشارة نفسها باللغة الفرنسية أولاً، بعنوان “مُقاوِمة” (“منشورات لاتيس”، باريس، 2000)، ثم باللغة العربية، بالعنوان نفسه (“دار الساقي”، بيروت، 2002). إنجاز الوثائقيّ يتمّ عام 2000، وعروضٌ مختلفة له تبدأ في العام التالي، آخرها في بيروت وباريس في موعد واحد، مساء 30 سبتمبر/أيلول 2022. أما تصويره، فيبدأ قبل نحو عامٍ واحد.

فيلمٌ كهذا غير مُحتاج إلى مناسبةٍ محدّدة لعرضه مجدّداً، رغم أنّ الشهر المذكور يشهد ذكرى مرور 40 عاماً على إطلاق “جمّول”. لكنّ عرضه مُجدّداً غير مُنفضٍّ عن حالة لبنانية موغلة في الانهيار والتسلّط على الذاكرة والتاريخ، وعلى نضال مقاومات ومقاومين يتمكّنون من إذلال جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومطاردة جنوده وضباطه، وطردهم من العاصمة ومناطق لبنانية مختلفة، قبل انبثاق “مقاومة إسلامية”، يُسيطر عليها “حزب الله”، مانعاً كلّ من ليس منتمياً إليه من تنفيذ أي عملية. عرض الوثائقيّ مجدّداً تأكيدٌ على معنى التزام السينما سرد حكايات مستلّة من الواقع، وتوثيق مساراتها ومضامينها وشخصياتها، والتأكيد على أهمية الصورة في مواجهة احتلالٍ وعدوّ.

“سهى، النجاة من الجحيم” وثيقة بصرية عن مناضلة شيوعية شابّة، يُطلق سراحها بعد أعوام من التعذيبين الجسدي والنفسي (6 أعوام في زنزانة انفرادية)، ويُمنع والدها من رفع العلم الشيوعي في باحة “السراي الحكومي”، عند وصولها إليه في سيارة تابعة لـ”الصليب الأحمر الدولي”. بساطته، شكلاً وأسلوب تصوير ومعالجة، غير حاجبة مضمونه، المهتمّ بالتقاط صُوَر جديدة لها، في رحلةٍ تقوم بها إلى سجن الخيام، بعد انسحاب مخزٍ للجيش الإسرائيلي وعملائه. صُوَر تبدو سهى بشارة فيها متماسكة بشدّة، وذات شخصية قوية، وكلامها يروي بعضَ عيشها ومعاناتها، وفرحةَ لقاءٍ يجمعها بصديقة السجن، المناضلة الفلسطينية كفاح عفيفي، التي ستكون شخصيةَ وثائقيّ آخر، بعنوان “أرض النساء” (2004، 58 دقيقة)، للّبناني الراحل جان شمعون (1944 ـ 2017).

صلابتها، الحامية لها في أعوام السجن، تعكس قوّة شخصية، تمنحها القدرة على التعالي عن وجع وجرح وقلق وخوف، فتدخل مُجدّداً سجن الخيام من دون تردّد أو إرتباك، وتروي للكاميرا بعض اختباراتها وعيشها في أمكنة الاختبارات والعيش، وتتحدّث مع مُراهِقةٍ تلتقيها صدفة أمام زنزانتها الانفرادية، ومع نساء في باحة السجن. تذهب أيضاً إلى منزل لحد، لتُخبِرَ الحاصل لحظة الاغتيال، وكيفية حصوله. تعود إلى قريتها، وتلتقي أناساً ومناضلين/مناضلات، وبعض هؤلاء يحاول تنفيذ عملية إنقاذ لها من السجن، من دون نجاح. أغنيات لفيروز ومرسيل خليفة وأحمد قعبور، وموسيقى لزياد الرحباني، وجولات وكلام وتسجيلات مُصوّرة قديماً، وبشارة تُتقن اللغة الفرنسية فتتحدّث بها، ساردةً شيئاً من تفكيرٍ وشعور.

يحتمل “سهى، النجاة من الجحيم” نقداً يخرج من أهمية موضوعه إلى المعالجة البصرية المتواضعة، في ترتيب سياقٍ سردي، وفي إنجاز شهادة توثيقية عن مناضلة شيوعية لبنانية. غير أنّ النقد يكتفي بتسجيل ملاحظات عن بساطة التقنيات المُستخدمة، وغياب مُتخيّل بصري، وعدم اهتمام بجوانب إنسانية وحياتية خارج إطار الفعل النضالي للشابّة. هذه البساطة، السردية والتقنية والفنية، تمنح المُشاهِد/المُشاهِدة فرصة كبيرة للتمعّن في ما ترويه سهى بشارة عن نفسها، وبعضٌ أساسيّ من هذه الرواية مرتبطٌ بسيرة بلد واجتماع ونضال ومقاوَمة.

مُشاهدتُه الجديدة ـ بعد 22 عاماً على إنجازه، والعرض الجديد حاصلٌ في مكتبة تابعة لـ”بلدية بيروت”، صغيرة حجماً، ومليئة بما يحثّ على القراءة والاسترخاء في مكانٍ متواضع وهادئ (تنظيم العرض لـ”نادي لكلّ الناس”، بالتعاون مع “جمعية السبيل”) ـ تُثير ذكرياتٍ، يتعلّق بعضها بلحظات تاريخية تصنع، واقعياً، المعنى الأجمل والأهمّ والأعمق للمقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، الذي سينتهي بعد أعوامٍ من استكمال فعل المقاومة على أيدي مقاتلي “حزب الله”. وبعضها الآخر مرتبطٌ بذاكرة شخصية، فهذا الفيلم نفسه سيكون أوّل هدية أحصل عليها من رندة الشهّال صبّاغ، بنسخة VHS، في بداية تعاون لي معها كملحق صحافي في فريق عمل “طيّارة من ورق”، المُنجز بكامله عام 2003. الهدية حاضرةٌ بعد عامٍ واحد على زيارتي سجن الخيام ومناطق جنوبية مختلفة، مُحرَّرة حديثاً يومها، في 30 مايو/أيار 2000 (بعد 5 أيام فقط على الانسحاب المُذلّ للجيش الإسرائيلي وعملائه اللبنانيين، من الجنوب والبقاع الغربي)، وتجوّلي بين زنزانات السجن، وفي ممراته وساحاته ومبانيه، محاولاً لمْس مشاعر أناسٍ يُعذّبون في مكانٍ، يُصبح أحد أسوأ نماذج الوحش الإسرائيلي والعنف اللبناني، ومثالاً لفعل مُقاوِم، يتمثّل بتمكّن سجناء/سجينات كثيرين من الصمود والعيش، رغم التعذيبين، النفسي والجسدي.

مُشاهدة الوثائقي لاحقاً اختبار إضافي لي، عبر عينيّ سهى بشارة وكلامها وحركتها وتفكيرها وإحساسها؛ وعبر كاميرا رندة الشهّال صبّاغ، وكيفية توثيقها شهادة حياتية وأخلاقية وإنسانية، تكتبها شابّة بيومياتها ومقارعتها تنانين القتل والمهانة، فتُحوِّل الكتابة (فقرات كثيرة مكتوبة على ورق التواليت) إلى نصٍّ يصدر باللغتين الفرنسية والعربية. والنصّ نفسه إضافة إلى العلاقة الشخصية بالفيلم والزيارة، بما فيه من سردٍ لتجربةٍ واختبارات.

“سهى، النجاة من الجحيم” يُشير إلى غيابٍ شبه تام لأفلامٍ، وثائقية وروائية، تتناول أفعال مُقاومين ومُقاومات، وهذا يدعو إلى نقاش نقدي بحثاً في أسباب ذلك. كما يُشير إلى غيابٍ، شبه تام أيضاً، لكتبٍ تروي فصولاً من ذكريات شخصية وذاكرة جماعية، عن مرحلة وتاريخ وبلدٍ وتحوّلات، وعن مشاعر وتأمّلات ذاتية.

The post عن مُقاوِمةٍ لبنانية في راهن الهزائم والخيبات appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
السينما ومَقتلة مرفأ بيروت: اشتغالات باهرة عن واقع قاسٍ https://rommanmag.com/archives/20948 Fri, 05 Aug 2022 19:58:33 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d9%86%d9%85%d8%a7-%d9%88%d9%85%d9%8e%d9%82%d8%aa%d9%84%d8%a9-%d9%85%d8%b1%d9%81%d8%a3-%d8%a8%d9%8a%d8%b1%d9%88%d8%aa-%d8%a7%d8%b4%d8%aa%d8%ba%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%a8/ كلاكيت:

The post السينما ومَقتلة مرفأ بيروت: اشتغالات باهرة عن واقع قاسٍ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
عشية الذكرى السنوية الثانية للانفجار المزدوج في مرفأ بيروت (4 آب 2020)، يُطرح سؤال عن علاقة السينما اللبنانية بهذا الفعل الجُرميّ، المستمرّة تأثيراته الخطرة والعنيفة في إحداثِ شروخٍ في الذات والروح والعلاقات والتفاصيل اليومية، للبنانيين ولبنانيات كثيرين، ولأناس مُقيمين في البلد، وبعضهم/بعضهنّ يُصاب بجروحٍ مختلفة، بسبب هذا الانفجار المزدوج، الذي يرى البعض أنّ “تفجير” أفضل وصفٍ له، خاصة أنّ ردة فعل النظام الحاكم برمّته تؤكّد، بشكلٍ أو بآخر، مسؤولية أطرافٍ فاعلة فيه عن تلك الجريمة، التي تُصرّ (تلك الأطراف نفسها) على منع التحقيق القضائي فيها، ومنع إحقاق عدالةٍ مطلوبة.

يصعب إنتاج أفلامٍ كثيرة، تتناول جريمةً كهذه، أو جرائم أخرى يشهدها البلد ويعيشها الناس يومياً، أقلّه منذ نهاية صيف 2019، أي عشية اندلاع “انتفاضة 17 أكتوبر” المعطوبة والمعطّلة. رغم هذا، تُنجز أفلامٌ، وثائقية وقصيرة، يختبر مخرجوها/مخرجاتها أساليب متنوّعة في مقاربة أهوال الفعل الجُرميّ، والمصائب المنبثقة منه، مع ميلٍ كبيرٍ إلى الذاتيّ والشخصيّ والفرديّ، في مقابل أفلامٍ قليلة تستعيد شيئاً من تاريخ المرفأ والمدينة والحياة فيهما، بحثاً في مسائل الهوية والعمارة والتصميم المديني والنسيج الاجتماعي؛ أو تكتفي بمراقبة التأثيرات الحادّة للفعل نفسه على أناسٍ مُقيمين في محيط المرفأ.

الاكتفاء بالمراقبة مبنيٌّ على اشتغال سينمائي، يوثِّق ملامح أناسٍ ومعالم مدينة، بعد وقتٍ على الفعل الجُرميّ، في محاولةٍ، فنية وجمالية ودرامية، التقاطَ معنى الحاصل وما بعده، ومدى عمق التشوّه في روحٍ وذاتٍ وأزقّة وفضاء. كريم قاسم يُراقب هذا كلّه، في “أخطبوط” (2021، 64 دقية) بعينٍ ثاقبةٍ، وكاميرا تحذف كلّ كلامٍ، فما من كلامٍ يُقال في لحظةٍ مليئة بقهر وخراب وغضب، والصمت أجمل تعبيرٍ وأصدق بوح.

المتتاليات البصرية تكشف مساحات شاسعة من مدينة منغلقة على ضيق واختناق وحصار. الموت كثيف، ومحاولات الخروج من هول الجريمة غير ناجحة، رغم هوامش يصنعها البعض لخروجٍ آمن كهذا. الوثائقي الآخر، “إعادة تدمير” (2021، 42 دقيقة)، مختلفٌ كلّياً، فسيمون الهبر مهمومٌ بتاريخ ومسار ومحطّات أساسية في هذين التاريخ والمسار، يعود إليهما كي يصل إلى الجريمة، مستعيداً المدينة، بساحتها ومرفئها ونسيجها الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ الثقافي، واضعاً مشروع إعادة إعمار بيروت (شركة “سوليدير”) في صلب “إعادة التدمير”، ويُلمّح إلى أنّ إعادة إعمار المرفأ (بحسب ما يتردّد) غير مختلفة عن مشروع “سوليدير”، في تشويه المدينة بإعمارها المُدمِّر. لقاءات عدّة يُجريها الهبر، بينما يبتعد قاسم عنها، مُفضِّلاً منح وجوه الناس وحركاتهم ومسالكهم حرية قولٍ وتعبير صامتين، مع إضافة لقطاتٍ توحي بجانب روائيّ متخيّل، مع ضبطه في أطرٍ محدّدة وصارمة. مع الهبر، هناك معلومات ومعطيات ومشاعر، مستلّة كلّها من أرشيف وصُور وتصاميم ونصوص واشتغالات “غرافيك”، تُساهم كلّها في البناء الدرامي للنص البصري.

في هذا ما يُعزِّز مقولة/عنوان الوثائقي، فـ”إعادة تدمير” معنيٌّ بكشف الروابط بين مشاريع الإعمار وإعادة الإعمار، والتدمير المقصود لكلّ ما يصنع ميزة المدينة ووسطها ومحيطها، عمرانياً واجتماعياً وثقافياً وحياتياً واقتصادياً. ولعلّ الانفجار المزدوج/تفجير مرفأ بيروت منبثقٌ من هاجس التدمير، الذي يؤدّي (التدمير) إلى إعمار مدينةٍ غير متناسقة مع البنى الأساسية، إنسانياً وعمرانياً واجتماعياً وحياتياً، للمدن/العواصم الساحلية. وفرة المعلومات/المعطيات، التي يستند سيمون الهبر إليها، تُكثِّف مضمون الحكاية، المنوي سردها بمتتاليات بصرية، يختفي منها جميع المُشاركين/المشاركات في لقاءات، تبقى منها أصواتهم/أصواتهنّ، التي تقول شيئاً من هذين التاريخ والمسار، وصولاً إلى راهنٍ، يُراد له الاستمرار في نهج الإعمار المُدمِّر.

الصمت العميق في “أخطبوط” تمرينٌ على ابتكار لغةٍ سينمائية، تروي الحكاية، وتُصوِّر الانفعال، وتمنح أناساً وأمكنةً ومشاعر وفضاءات حيّزاً لبوحٍ يُقال من دون كلام. صمتٌ كهذا يقترب من نصوصٍ قصيرة مكتوبة في 5 أفلامٍ، مُنجزة في مشروع “بيروت… آب 2021” (المنتجة: نرمين حداد. إدارة الإنتاج: أنطوني زوين، مع “بيروت دي سي” و Danish – Arab Partnership Programme و IMs، بالشراكة مع “المفكرة القانونية”). نصوص يُصبح كلّ كلامٍ فيها، المختصر والمكثّف أصلاً، أشبه بصمتٍ يصنع من الكلمات صُوراً عن ألمٍ وغضبٍ واضطرابٍ وقلقٍ، وعن تساؤلاتٍ تتناول اللحظة وما سيليها، والهوية والمدينة والغد.

“إلى أين يذهب المرء بعد نهاية العالم؟”، تسأل الراوية (سرد: زهور محمد) في “زهور زرقاء عديمة الرائحة تستيقظ قبل أوانها” لبانوس إبراهاميان. “كم أنّها بشعةٌ نهاية العالم”، يذكر راوي “ورشة” لجان كلود بولس. “4 آب كان إعلان حرب”، يقول إيلي داغر في “إعلان حرب”؛ بينما تلتقط ساره قصقص تفاصيل مختلفة، صوتاً وكلاماً وارتباكَ صُور ونفسيات ومشاعر، لتُشير إلى أنّ الحاصل “اضطراب” (مدّة كلّ فيلمٍ منها 6 دقائق). مع لوسيان بورجيلي، تختلف المقاربة كلّياً، لاختياره لقاءً (7 دقائق) مع جوزف، الذي يجهد في إيراد اسم والدته في لائحة قتلى الانفجار/التفجير، ووضع صورتها بين صُورهم: “يُقال إنّ أكثر من 200 شخصٍ قتلوا جرّاء الانفجار، لكنْ ليس هناك، حتى اللحظة، لائحة رسمية نهائية للضحايا”، كما في نهاية “مينارفا”.

جمالية الصُور والتوليف والنصوص البصرية في الأفلام الـ4 الأولى تُحيل، بشكلٍ ما، إلى ذاك الصمت العميق في “أخطبوط”، وإنْ تكن الكلمات والأصوات حاضرةٌ، فمضامينها شبيهةٌ ببهاء صمتٍ سينمائيّ إزاء جريمةٍ كتلك. أي أنّ حجم الكلام والأصوات، بما فيها من تكثيفٍ لانفعال اللحظة وما يلحق بها، مُرادفٌ سمعي لصمتٍ سينمائي، مليء بغضبٍ وألم وتأمّل والتباسات وخوف ومتاهة. كلّ نص/فيلمٍ منها مليء بارتباكِ انفعالات، وبأسئلةٍ ومخاوف، فالانفجار/التفجير يخترق أفراداً، يُعانون أهوال عيشٍ مضطرب في بلدٍ واجتماعٍ آيلين إلى الانهيار الكامل. تناول الانفجار/التفجير، بصرياً، يعكس اهتزازَ نفْسٍ وجسد وروح وانفعال، لحظة الجريمة، وما بعدها أيضاً.

إيلي داغر نفسه يُنجز روائياً طويلاً، سيكون الأول له، بعنوان “البحر أمامكم” (2021)، بعد أشهر طويلة من الاشتغال عليه (منذ ما قبل “انتفاضة 17 أكتوبر”، واللاحق بها من مصائب وأزمات وخراب). لا علاقة لهذا الفيلم بمشروع “بيروت… آب 2021”. لكن المناخ، المشغول بحِرفية سينمائية واضحة ومؤثّرة وعميقة، يشي بمسارٍ يمزج بين خراب مدينة وخراب روح، ويكشف شيئاً من بهتان الحياة في مدينةٍ منذورةٍ لانكساراتٍ وخيبات وأوجاع والتباسات. كأنّ “البحر أمامكم”، بنصّه وتصويره ونبشه في أعمق ذات ومدينة وعمارة، “مُقدّمة” لـ”إعلان حربٍ”، يتمثّل (الإعلان) بالانفجار المزدوج/التفجير، الحاصل في مرفأ بيروت.

أما “مينرفا”، فيعتمد أدوات الفيلم الوثائقي التقليدي، مختزلاً إحدى أسوأ نتائج الفعل الجُرمي، المتمثّلة بمصير القتلى/الضحايا (كثيرون يرون في مفردة “ضحية” تعبيراً أفضل، فالانفجار/التفجير جريمة، والقتلى ضحايا أفعال المُجرمين)، وانعدام كلّ توثيق عنهم، لحفظ ذكراهم والعمل على إحقاق العدالة من أجلهم، بمحاكمة المسؤولين، المباشرين وغير المباشرين، عن الجريمة. مينرفا تُشبه عدداً آخر من “مفقودي” تلك الجريمة، أي غير المدرجين في لوائح رسمية. ولوسيان بورجيلي يرافق ابنها جوزف في رحلة إثبات مقتلها في ذاك اليوم المشؤوم.

اعتماد أدوات التسجيل التوثيقي التقليدي في “مينرفا”، المتناقض مع اللغة السينمائية التي تصنع الأفلام الـ4 الأخرى في مشروع “بيروت… آب 2021″، لن يحول دون أهمية الموضوع، الذي يتبيّن لاحقاً أنّ اللائحة المطلوبة غير جاهزة، وأنّ عدد القتلى يرتفع مع موت جرحى بعد أشهر على ارتكاب الجريمة، وأنّ الجريمة تولِّد جريمة أكبر وأخطر، تتمثّل بمحاربة النظام الحاكم في لبنان كلّ إمكانية لتحقيق عدالة مطلوبة.

The post السينما ومَقتلة مرفأ بيروت: اشتغالات باهرة عن واقع قاسٍ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في تكريم يُسري نصرالله: اشتغالات تبغي تطويراً وتجريباً ومعاينات https://rommanmag.com/archives/20940 Fri, 22 Jul 2022 06:39:36 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%81%d9%8a-%d8%aa%d9%83%d8%b1%d9%8a%d9%85-%d9%8a%d9%8f%d8%b3%d8%b1%d9%8a-%d9%86%d8%b5%d8%b1%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%87-%d8%a7%d8%b4%d8%aa%d8%ba%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d8%a8%d8%ba%d9%8a-%d8%aa/ باختياره المخرج السينمائي المصري يُسري نصرالله لتكريمه في دورته الثالثة (20 ـ 27 تموز 2022)، يؤكّد “مهرجان عمّان السينمائي الدولي ـ أوّل فيلم”، وإنْ من دون قصدٍ أو تخطيط واضحين، أنّ التواصل فعلٌ أساسيّ في طرح أسئلة الصورة ولغتها، في سينما عربيّة تتجدّد في فهمها، البصري والفكري والجمالي والفني، أحوال أناسٍ وبيئاتٍ وعلاقات. تكريم نصرالله […]

The post في تكريم يُسري نصرالله: اشتغالات تبغي تطويراً وتجريباً ومعاينات appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
باختياره المخرج السينمائي المصري يُسري نصرالله لتكريمه في دورته الثالثة (20 ـ 27 تموز 2022)، يؤكّد “مهرجان عمّان السينمائي الدولي ـ أوّل فيلم”، وإنْ من دون قصدٍ أو تخطيط واضحين، أنّ التواصل فعلٌ أساسيّ في طرح أسئلة الصورة ولغتها، في سينما عربيّة تتجدّد في فهمها، البصري والفكري والجمالي والفني، أحوال أناسٍ وبيئاتٍ وعلاقات.

تكريم نصرالله في مهرجانٍ، يهدف إلى اكتشاف أوّل الخطوات في السينما العربية، امتدادٌ لأهمية تفعيل حوار دائم بين عاملين/عاملات في صناعة السينما العربية، خاصة إنْ يكن بعض هؤلاء منتمٍ إلى جيل سابق، يملك قدرة على اختراع ترجمات سينمائية لشؤون وحالات، وعلى التنقيب في ذاكرة وذات وعلاقات، وعلى طرح أسئلة الراهن والتاريخ والبشر وبيئاتهم، بلغة الصورة، وبمحاولات دائمة للابتكار والتجريب.

بدايات تكوين وتأثّرات

تكريم يُسري نصرالله يتزامن مع احتفاله بعيد ميلاده الـ70، فهو مولود في القاهرة، في 26 تموز 1952، بعد 3 أيام فقطٍ على “حركة الضباط الأحرار”، التي تُعرف بـ”ثورة 23 يوليو” ضد الملكية المصرية. وهذا لن يبقى صدفةً فقط، فالثورة نفسها، وأفعالها اللاحقة على “انقلاب” جمال عبد الناصر على محمد نجيب (14 تشرين الثاني 1954)، ستؤثّر في وجدان نصرالله وتفكيره وعيشه فصولاً من التاريخ الحديث لبلده ومحيطه العربي، ومفاصل أساسية في التكوين الثقافي والاجتماعي والسياسي والحياتي لأكثر من جيلٍ مصري وعربي.

الثورة تلك ستنقضّ على أملاك الطبقتين الثرية والوسطى، في مرحلة التأميمات الناصرية، ما ينعكس سلباً، إلى حدّ كبير، على السيرة الحياتية والمهنية لمخرج “سرقات صيفية” (1988)، أول فيلمٍ له، وفيه جانبٌ شخصيّ، لكنّ الأبرز في هذا الشخصي ومعه كامنٌ في مقاربته السينمائية للفترة الناصرية، طارحاً فيها سؤالاً جوهرياً: “هل كنا بالفعل في تجربة اشتراكية، أم رأسمالية دولة؟” (“يُسري نصرالله ـ محاورات أحمد شوقي”، منشورات “مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية”، الدورة الـ6، المُقامة بين 16 و22 آذار 2017، بمناسبة تكريمه. ص 19). وهذا بعد عيشه “لحظاتٍ”، بين عامي 1967 (“نكسة” حرب الأيام الستة، 5 ـ 10 حزيران) و1988 (سرقات صيفية)، سيكون لكلّ منها فعل تغييري ما (لن يكون إيجابياً دائماً)، بدءاً من الحركة الطالبية، المنادية بالإصلاح والتغيير ومعالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، التي (الحركة الطالبية) تواجه سياسة الانفتاح الاقتصادي، بتأثيراتها السلبية على الناس والمجتمع؛ ثم “حرب أكتوبر” (6 ـ 25 تشرين الأول 1973)، والإفرازات الثقافية والفكرية والاجتماعية، على الأقلّ، لذاك الانتصار المعلّق.

“حرب أكتوبر” وانتصارها المعلّق يستعيدان، من بين أمور كثيرة أخرى، أسئلة الهزيمة (نكسة 67) وأسبابها، بل يُبلورانها أكثر فأكثر. والحرب تلك سابقةٌ على انخراط نصرالله في تظاهرات شعبية، مندلعة في نهاية سبعينيات القرن الـ20، دفاعاً عن الرغيف، وتُعرف بـ”مظاهرات الطعام”، المطالِبة بتثبيت الأسعار، وتحسين أوضاع العمّال، وتحقيق العدالة الاجتماعية. هناك أيضاً نزاعات فلسطينية عربية، أولاً في الأردن (بدءاً من 12 أيلول 1970)، ثم في لبنان، الذي يشهد صدامات عسكرية متتالية بين الجيش اللبناني ومنظمات مسلّحة فلسطينية، أعنفها ذاك الحاصل بدءاً من 2 أيار 1973، قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (13 نيسان 1975 ـ 13 تشرين الأول 1990) بجريمة قتل مدنيين فلسطينيين في باصٍ أمام كنيسة في عين الرمانة المسيحية.

هذا كلّه، وغيره من تفاصيل مرتبطة بالمقاومة الفلسطينية، واليسار العربي، وتحوّلات حاصلة في العالم العربي وأوروبا، منذ نكسة 1967، ومجيء نصرالله إلى بيروت بعد وقتٍ قليل على اندلاع حربها الأهلية، واشتغاله في “السفير”، الصحيفة اللبنانية العربية (الجامِعة بين ناصرية ناشرها ورئيس تحريرها طلال سلمان وعروبيته، ويسارية متنوّعة لمحرّرين وكتّاب، في بداياتها على الأقلّ)، بين عامي 1978 و1982، عام عودته إلى القاهرة، قبل وقتٍ قليل على الاجتياح الإسرائيلي الثاني للبنان (بدءاً من 6 حزيران ذاك العام)؛ هذا كلّه مُساهمٌ أساسيّ في التكوين الإنساني والفكري والمعرفيّ لنصرالله.

“هناك عالمٌ يتغيّر. البوليس يُطارد اليساريين، والحركة الإسلامية تتنامى. لذا، عليك حينها أنْ تفهم جيداً ما الذي يحدث، كي تستطيع أنْ تقول: أنا كذا” (كتيّب “سؤال الذات ـ سينما يُسري نصرالله”، منشورات “محترف شمس للثقافة المهنية”، بيروت، 2001)؛ وفيه تكثيف لسيرة نصرالله واشتغالاته، يستند إلى حوارات مختلفة لي معه، منشورة في “السفير”، وأخرى مع آخرين منشورة في صحف لبنانية وعربية).

اشتغالات سينمائية وتساؤلات ثقافية

يُمكن اعتبار هذا كلّه، ومسائل أخرى كثيرة، تمهيداً لـ”سرقات صيفية”، المنبثق أيضاً من قراءاتٍ عدّة ليُسري نصرالله، تتعلّق بمشكلة الزراعة والإصلاح الزراعي في مصر. والفيلم، في جانبه الشخصي، مرتكزٌ على عيش مخرجه مع أفراد عائلته هلعاً إزاء قرارات الإصلاح الزراعي. الجانب الشخصي يحضر أيضاً في “مرسيدس” (1993)، إذْ يُتابع نصرالله انهيار المعسكر الاشتراكي، مقتنعاً “بأننا نعيش نهاية عالم وبداية عالم جديد بقواعد مختلفة تماماً” (“محاورات أحمد شوقي”، ص 27). بعده بعامين، يُنجز وثائقياً بعنوان “صبيان وبنات” (1995)، يلتقط فيه أحوال شبابٍ وشابات مصريين، يروون تحدّياتهم وأحوالهم ونظرتهم إلى العلاقات الثنائية بمختلف وجوهها: المناخ العاطفي، مفهوم الجنس، التقاليد الاجتماعية المتوارثة، طغيان الحالة الدينية، المتطرّفة أحياناً، والمتنامية بسرعة وقوّة منذ مطلع تسعينيات القرن الـ20؛ من دون تناسي ظاهرة الحجاب ودلالاتها الاجتماعية، وتأثيراتها النفسية والإنسانية.

في “المدينة” (2000)، هناك بحثٌ عن الذات عبر السفر، فالفرد غير قادر على تواصل سليم مع ذاته في بلده، ما يدفعه إلى اختبار السفر ظنّاً منه أنّ في السفر خلاصاً، بينما “الخلاص” (للكلمة معانٍ وسمات عدّة) ينبع من مصالحةٍ وتواصل مع الذات نفسها، بعد محاورتها وفهمها، أو محاولة فهمها على الأقلّ. ردّاً على سؤال عن انفصال محوري عن الأم (إلى جانب الانفصال عن المجتمع والطبقة والعائلة)، والأم دائماً هي الشخصية الأهمّ التي ينفصل عنها البطل، في “سرقات صيفية” و”مرسيدس” و”المدينة”، يُجيب نصرالله إنّ هذا عائدٌ إلى “غياب الأب دائماً”، حتى في “صبيان وبنات”، فالأمّ تُربّي الأبناء والبنات، والأب مسافر، وعند عودته يكون “شخصاً مختلفاً”. يقول إنّ هذا “ربما” يتعلّق بغياب والده أيضاً، لكنّ الأهم كامنٌ في “الجانب السياسي”، و”محاولة فهم السلطة الأبوية، الناصرية والعروبة وصورة الأب البطريركي، الذي يعيش حالة “سي السيد”، في زمنٍ لم يعد مناسباً لهذه الحالة” (“محاورات أحمد شوقي”، ص 43).

إنْ يكن النصّ السينمائي في الأفلام هذه “مصرياً”، أي أنّه منهمك بمعاينة الحاصل في مصر، والسابق على الحاصل راهناً، متّخذاً من سيرة كاتبه/مخرجه ما يُناسب الهاجس الثقافي والفكري لنصرالله؛ فإنّ “باب الشمس”، بجزئيه “الرحيل” و”العودة” (2005)، المقتبس من رواية بالعنوان نفسه (1998) للروائي اللبناني الياس خوري (المُشارك مع نصرالله، ومع السينمائي والكاتب اللبناني محمد سويد، في كتابة السيناريو)، يبقى الاستثناء العربيّ سينمائياً في سيرته المهنية، إذْ يعود نصرالله بعده إلى المصريّ، بإنسانيته وثقافته وتحوّلات مجتمعه وناسه، وبهموم بلده، من دون انقطاع عن متغيّرات العالم، متابعة وتنبّهاً ورصداً. الاستثناءُ فلسطينيٌّ، ينبع من ارتباط يُسري نصرالله بشأنٍ، لن يشعر إزاءه باغترابٍ منذ وعي شبابي أوّل له. فتأثيرات “نكسة 67” وما يتلوها من تأثيرات متفرّقة غير مرتبطةٍ بالهمّ المصريّ البحت، بل بمدى اتّساع رقعة الانكسارات والتحوّلات والتساؤلات، عربياً بشكل خاص. “باب الشمس” يمنح نصرالله فرصة اختبار الاشتغال السينمائي في نوعٍ يقترب من الملحميّ، ويميل إلى التأريخ الفردي لمسألة عامة، ويذهب في لغة الصورة إلى محاكاة فرادة النصّ في مزجه الروائي بالتاريخي، عبر قصة حبّ، وسيرة هجرات، وأسئلة انتماء وانفعال واقتلاع وهوية ومشاعر.

عودة إلى مصر بعد فلسطين

العودة السينمائية إلى مصر تصبو إلى استكمال مشروع يُسري نصرالله في تفكيك الذات الفردية، وما يصنعها من انفعال وتفكير وارتباطات وعيش ومواجهات وتحدّيات، بدءاً من “جنينة الأسماك” (2008)، ثم “احكي يا شهرزاد” (2009)، وصولاً إلى “الماء والخضرة والوجه الحسن” (2016)، من دون تجاوز “ثورة 25 يناير” (2011) المصرية، التي تضع نصرالله، وكثيرين غيره، أمام لحظة التغيير المنشود، لكنْ مع تمعّن عميق ولاحق في أهوال اللحظة وتداعياتها، قبل أن ينكشف حجم الخراب والفساد والعنف، وهذه غير ظاهرةٍ مباشرة، فنصرالله يكتفي بروائيّ طويل مستمدّ من تلك الثورة، عنوانه “بعد الموقعة” (2012)، وبآخر قصير، بعنوان “داخلي/خارجي”، في الفيلم الجماعي “18 يوم” (2011)، المؤلَّف من 10 أفلام قصيرة. أي أنّ التساؤلات السجالية والنقدية والتحليلية للثورة غير مطروحةٍ في فترة قليلة للغاية، تفصل بين لحظتي اندلاعها وإنجاز الفيلمين في عامٍ وبضعة أشهرٍ، لا أكثر.

“بعد الموقعة” يستند إلى حادثة مشهورة، تُعرف بـ”موقعة الجمل”، وتتمثّل بهجوم “بلطجية” نظام حسني مبارك، في 2 شباط 2011، على متظاهري ميدان التحرير، ممتطين جِمالاً وبِغالاً وخيولاً. لكنّ نصرالله يتعمّق أكثر في ما يُشبه سيرة بلطجي (باسم سمرة) في حيّه وعائلته وبيئته، وفي علاقته بنظام متكامل في الاجتماع والحياة والسياسة والحكم، محاولاً (نصرالله) تفكيك شيءٍ من تلك السيرة، وفهم مكنونات نَفْس البلطجي وروحه وانفعالاته. أمّا “داخلي/خارجي”، فيكشف شيئاً من علاقة مصريين ومصريات بثورةٍ، مندلعةٍ في لحظةِ تخبّط وانهيار وقهر وكبت ورغبات في خلاصٍ معطّل، عبر سرد حكاية زوجين (منى زكي وآسر ياسين)، يختلف أحدهما عن الآخر في كيفية التعاطي مع الثورة، فالزوجة تريد مشاركة حيّة، والزوج رافضٌ، والنهاية معقودة على كسر حاجز الخوف، وعلى أولوية المواجهة سعياً إلى تغيير.

أفلام ما بعد “باب الشمس” منخرطةٌ في أحوال أناسٍ، يبحثون عن خلاصٍ أو تمرّد (جنينة الأسماك)؛ أو يحلمون بصفاءٍ غائبٍ، فالمرأة، تحديداً، تعاني، ونصرالله يضعها أمام الكاميرا كامرأة أولاً، ثم كزوجة وحبيبة ومستقلّة في عيشها وتفكيرها وعلاقتها بنفسها (إحكي يا شهرزاد)؛ أو يختبرون بهاءً وجمالاً حاضِرَين في ريفٍ يجمع بعضهم في احتفالٍ، تنكشف فيه مَوَاضي أفراد وبيئة وعلاقات، ويُبرز (الاحتفال) راهناً إنسانياً شفّافاً وبهيّاً (الماء والخضرة والوجه الحسن). لكنّ تحديدات كهذه غير لاغيةٍ تمدّد كلّ فيلمٍ على مساحات أوسع، في بحثٍ سينمائي في راهنٍ مصري، يُمكن أنْ يتماهى براهن إنساني/بشري عربيّ أيضاً.

مقالةٌ كهذه، مكتوبةٌ بمناسبة تكريم يُسري نصرالله في عمّان، غير قادرة على إحاطة نقدية متكاملة لسيرة مهنية، يتداخل فيها الحياتي بما يملكه الحياتي من تأثّرات ومناكفات ومواجهات، ومن بحثٍ دائمٍ عن إجاباتٍ، أو عمّا يُشبهها، على الأقلّ. أو ربما لن يكون نصرالله معنياً بإجابات، فالأهمّ عنده مهمومٌ بكيفية تطوير أدوات الاشتغال السينمائي، وبكيفية معاينة الحاصل في مصر والعالم العربي والعالم.

The post في تكريم يُسري نصرالله: اشتغالات تبغي تطويراً وتجريباً ومعاينات appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“حمّى البحر المتوسّط”: السينما مرآة أناسٍ وحالات https://rommanmag.com/archives/20915 Tue, 28 Jun 2022 07:14:33 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ad%d9%85%d9%91%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%ad%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%aa%d9%88%d8%b3%d9%91%d8%b7-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d9%86%d9%85%d8%a7-%d9%85%d8%b1%d8%a2%d8%a9-%d8%a3%d9%86%d8%a7%d8%b3/ كلاكيت:

The post “حمّى البحر المتوسّط”: السينما مرآة أناسٍ وحالات appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

التفاصيل الصغيرة في يوميات أفرادٍ عاديين، مُضافة إلى مسائل حياتية ومآزق تمتدّ من النفسيّ إلى الاجتماعيّ، من دون التغاضي عن الوطنيّ، هوية وانتماءً وعيشاً في بلدٍ محتلٍّ؛ تلك التفاصيل تُشكِّل البنية الدرامية لـ”حمّى البحر المتوسّط” (2022)، ثاني روائيّ طويل للفلسطينية مها حاج (مواليد الناصرة، 1970)، الفائز بجائزة أفضل سيناريو في “نظرة ما”، في الدورة الـ 75 (17 ـ 28 أيار 2022) لمهرجان “كانّ” السينمائي، والمسابقة مُطلقة فيلمها الروائي الأول، “أمور شخصية”، في الدورة الـ 69 (11 ـ 22 أيار 2016) للمهرجان نفسه.

تفاصيل صغيرة تبدو، لوهلةٍ، عادية للغاية، في حياة فلسطينيين يُقيمون في حيفا، ويجهدون يومياً في تأمين عيشٍ، يُفترض به أنْ يكون طبيعياً، ضمن شروطٍ اجتماعية ـ اقتصادية ـ انفعالية، “يخضع” لها كثيرون. الاحتلال الإسرائيليّ غير غائبٍ، وإنْ يكن حضوره غير ظاهرٍ، فالحفر في الوجدان الفلسطيني، كما في حياةٍ وتحدّيات ومصاعبٍ وأهوالٍ وانكساراتٍ وخيباتٍ، تتعلّق كلّها بالفرد الفلسطيني، وبيومياته الخانقة والمخنوقة؛ هذا الحفر أساسيٌّ، من دون إغفال مأزق الاحتلال الإسرائيلي، وتأثيراته، المباشرة وغير المباشرة، على هذه اليوميات، وعلى نفوسٍ وتفكيرٍ ومشاعر تخصّ الفلسطيني في عيشه، كما في مواجهاته التي تبدو أنّها غير متناهية.

روائيٌّ، غير قادرٍ على تأليف أول رواية له؛ ومتورّطٌ في أعمال جُرميّة، يعجز عن الخلاص من ديونٍ تُثقل عليه، قبل أنْ ينكشف، نفسياً وانفعالياً، أمام ذاته والكاميرا (مدير التصوير: أنطوان إيبرل)، كانكشاف الروائيّ المؤجَّل أيضاً؛ يُشكّلان معاً عَصَباً درامياً أساسياً، يلتقط المسار الأساسيّ، ويصنع من التفاصيل حكاية بيئة وأناسٍ وعلاقاتٍ، ومصائر أحلامٍ (أتكون معطّلة؟) ورغباتٍ (أتكون معطوبة؟)، ونهاية خيباتٍ وقلاقل. والتفاصيل ـ إذْ تبدو مشتركاً بين كثيرين، في مدنٍ ومجتمعات عدّة ـ تمتلك، في جانبها الفلسطيني، عمقاً مختلفاً في مواكبتها أحوال أولئك الأفراد القلائل، الذين تختارهم مها حاج من واقعٍ وحياة، من دون أنْ يكون الاختيار تعميماً وشمولية، رغم كون التفاصيل الكثيرة مشتركاً عاماً.

أيّ أنّ فردية كلّ شخصية، مختارة في “حمّى البحر المتوسّط”، تبقى الأبرز في نصٍّ (سيناريو مها حاج) يُصبح مرآة شفّافة، تفضح المخبّأ في ذاتٍ وروح وجسدٍ، من دون إغفال أنّ المُعاش متشابهٌ، غالباً، وهذا لن يجعل الفيلم “ناطقاً” باسم جماعة أو بيئة. الفردية، بكلّ ما تملكه من حساسية ووعي وأسلوب عيش وعلاقات وتأمّلات ورغبات وإحباطات، تروي، في “حمّى البحر المتوسّط”، سِيَر أناسٍ يُحبَطون ويتألّمون وينكسرون بصمتٍ، وبعضهم يوحي بنقيض هذا، عبر إظهار سلاسة له في العيش، وحماسة وحيوية في التعاطي مع جيرانٍ وأهل الجيران، بينما المخبّأ في الذات والروح أقوى من أنْ تُخفيه السلاسة والحماسة والحيوية.

وليد (عامر حليحل) يريد تأليف أول رواية له، لكنّه عاجزٌ عن ذلك. يهتمّ بشؤون المنزل، فزوجته علا (عنات حديد) ممرضة في مشفى، وولديه نور (سينتيا سليم) وشمس (سمير إلياس) يذهبان إلى المدرسة، فيخلو المنزل له، لكنّه منمهكٌ في الترتيب والتنظيف وإعداد الطعام. ملامحه غير مُريحة، ففيه شيءٌ من حزنٍ، يقترب من كآبةٍ، تظهر لاحقاً. تتبدّل حياته كلّها، مع استئجار جلال (أشرف فرح) الشقّة المجاورة لشقّته، والإقامة فيها رفقة زوجته رنين (شادن قنبورة) وأولادٍ لهما مع كلبين. صدامٌ صامتٌ أولاً، فوليد ينزعج من الصوت العالي لأغنياتٍ يطرب لها جلال صباحاً، مع كأسٍ من العرق؛ ومباشر لاحقاً، عندما ينبح الكلبان، الأخطل وجوزفين/الخنسا، عليه (لاختياره هذه الأسماء أسباب، يرويها جلال بطرافةٍ لن تخلو من إشاراتٍ تدلّ على ثقافةٍ ووعي له، وقدرة على إسقاطات رمزية على وقائع مختلفة)، في الحديقة المقابلة للمبنى الذي يسكن فيه الطرفان.

هذه مقدّمات. اللاحق أهمّ، وتطوّر العلاقة من النفور والتوتّر والابتعاد، إلى صداقةٍ تتوطّد يوماً تلو آخر، تُنتج مساراً يجمعهما معاً، ويضعهما أمام لحظاتٍ مصيرية، فلكلّ واحدٍ منهما مخاطر عيشٍ وهموم حياة، وتحطيم الفاصل بينهما لن يكون صعباً، لأنّ أحدهما يحتاج إلى الآخر، وإنْ من دون أنْ يعي ذلك مباشرة (في بدايات الصداقة على الأقلّ)، أو لأنّ أحدهما يرى نفسه، أو شيئاً من نفسه، في الآخر، وإنْ من دون انتباهٍ علنيّ في البداية. كأنّ لاوعياً يُحرِّك الواحد منهما تجاه الآخر، وهذا حاصلٌ، مع تفتيت أقنعةٍ تحجب وليد عن جلال، وتُقرِّب أحدهما من الآخر.

لشمس ارتباكات في مدرسته، ينتبه إليها وليد لاحقاً، تتمثّل في خشيته من متابعة حصّة الجغرافيا، لأنّ للمُدرِّسة نهجاً ومفردات في التعليم، لن تُرضي وليد أبداً، لشدّة التزامه بحقٍّ وتاريخ ووطن، ضد احتلالٍ، يتعامل جلال معه بخفّة و”واقعية” (يتأكّد التزامه أكثر، مع “توبيخ” نور لتلفّظها مفردات وكلمات وتعابير باللغة العبرية، وهذا مُصوَّر بطريقة توحي بعفوية أبٍّ، حريصٍ على انتمائه الفلسطيني، وعلى أولوية أنْ يبقى ولداه عربيّين). إحدى جماليات السيناريو كامنةٌ في الابتعاد المطلق عن كلّ خطابية نضالية، وفي تأكيد فداحة العنف والتزوير الإسرائيليين في حقائق فلسطين وشعبها. عجز وليد عن كتابة أول رواية له، متأتٍ من أثقال حياتية، لن يغيب الاحتلال الإسرائيلي عنها. لامبالاة جلال، أو تعاطيه بخفّة مع “واقع” كهذا، إضافة سلبية لنفور وليد منه، قبل أنْ يعثر فيه على ما سيظنّ أنّه خلاصٌ له من كآبة تتآكله، ومن خيباتٍ تُوَتّره وتُقلقه، ومن شعورٍ دائمٍ بانسداد أفق، في عالمٍ يتمزّق وينحلّ وينهار.

الظهور المُكرَّر لعائلة وليد يُقابله اختفاء شبه تام لعائلة جلال، رغم ظهور زوجته وأولاده وكلبيه أكثر من مرة. اختفاء الجميع لاحقاً، في لحظات كثيرة، غير مفهومٍ وغير مُبرَّر درامياً، خاصة أنّ لجلال مكانة تتساوى ومكانة وليد في النصّ السينمائي ومسار حبكته وصوره البصرية واشتغالاته المتنوّعة، فنياً وحياتياً وإنسانياً (ألا يُفترض بهذا أنْ يكون دافعاً إلى إظهار عائلة جلال، كإظهار عائلة وليد؟). ما يطلبه وليد من جلال، بعد وقتٍ مديدٍ على توطّد العلاقة بينهما، ورفض جلال تحقيق ما يرغب وليد فيه، سيؤدّي بالروائي العاجز عن كتابة أول رواية له إلى مزيدٍ من التقوقع والقهر والصمت، ما يدفع بعلا إلى طلب المساعدة من جلال، الذي تبدأ ملامح مآزقه بالانكشاف في الفترة نفسها. الأفعال الجُرمية التي يرتكبها جلال تُعرّضه لمضايقات ومخاطر إضافية، بينما رنين لن تظهر كفاية، والتهديد بالموت يُعيد رنين إلى الواجهة، لبعض الوقت. التهديدُ بالتقل لقطةٌ جميلة، تُضاف إلى جمالية لقطات أخرى، إذْ يعتمد التهديد بالقتل على “ورقة نعوة” تقول بوفاة جلال، وبأوقات دفنه وجنازته وتقبّل التعازي، تُلصق على مدخل البناية. وهذا أحد أجمل التهديدات بالقتل، وأكثرها سخرية وترهيباً.

نباح الكلبين على وليد يجب أنْ يؤدّي إلى نباح عليه لحظة دخوله الأول إلى منزل جلال، قبل تثبيت الوفاق بين الجميع، وهذا غير حاصلٍ، فالكلبان يختفيان من المشهد (إنّهما في منزل متواضع، ولا بُدّ من ظهورهما عند زيارة وليد لجلال)، حتّى في تلك الأمسية الاحتفالية، التي تُقام في منزل جلال احتفاء بانتقاله والعائلة إليه، وفي تلك الأمسية، يكتشف وليد أنّ هناك أمراً ما غير مُريح يحصل مع جلال، إثر زيارة “مُريبة” لشابين “مُريبين”.

والدا وليد، عزيز (يوسف أبو وردة) وهناء (نهاي بشارة)، يعيشان في منزلهما كأي عجوزين. لكنّ براعة جلال في التخاطب مع الآخرين تُقرّبه من هناء، وتدفع عزيز إلى قبول خدماته بإصلاح العفن في المنزل. شخصية جلال تُشبه شخصيات عدّة متورّطة في أعمال جُرمية، في عصابات عادية أو مافيات تحترف الجرائم المنظَّمة، فإذا بجانبها الإيجابيّ يبرز في لحظاتٍ غير متوقّعة، وفي حالات ومواقف غير مُنتظرة، تماماً كعدم توقّع وانتظار أنْ يكون لكلّ متورّط في أعمال جُرمية جانبٌ إيجابي. لكنّ خيباته وقلقه وانكساراته تتغلّب عليه، وعلاقة العشق التي تربطه بعشيقة تؤكّد أنّ خطْباً ما يلمّ به، ويدفعه إلى سوداوية قاسية، ستنتهي في فعلٍ، يسعى وليد إليه من دون جدوى.

“كتير هدوء هون، لا؟”، يسأل من سيُصبح جاراً جديداً لوليد، فيُجيبه الأخير، بنبرة قاتمة وغاضبة وساخرة: “آه، هدوء مقابر”. هذا وحده كافٍ لتنقيبٍ إضافي في دلالات هدوء المقابر، بعد معاينة حسّية، يُزيدها متعةً، رغم مصائب وتشنّجات وقهرٍ وآلامٍ، توليفٌ (فيرونيك لانج) يوازن بين هوامش الحبكة ومتنها، بتبسيطٍ يُساهم في كشف المعمَّق والغائص في أحوالٍ وكآبات. أمّا بثّ قولٍ لأنطون تشيخوف في النهاية (يا له من طقسٍ رائع اليوم، لا أستيطع أنْ أختار بين شرب الشاي أو الانتحار شنقاً)، فإضافة مُحبَّبة إلى نصٍّ مُشبع بالألم والتقهقر والخسائر والخراب.

“حمّى البحر المتوسّط” غير محصور في نوعٍ سينمائيّ واحدٍ، إذْ يجمع في حكاياته وحالات ناسه ويومياتهم بين النفسيّ والاجتماعي والتشويقي، مع نثرات ساخرة وأنماطٍ سوداوية، من دون تناسي السياسيّ والفلسطينيّ، وإنْ يحضران بسلاسة وبساطةٍ جميلتين، بعيداً عن تسلّط وإخضاع لنصٍّ سينمائيّ، من المؤكّد أنْ الفيلم المنبثق منه يستحقّ أكثر من مُشاهدة، وأكثر من مناقشة، وأكثر من متعةٍ بمعنى السينما وحيويتها.

The post “حمّى البحر المتوسّط”: السينما مرآة أناسٍ وحالات appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“بيروت في عين العاصفة”: توثيقُ انتفاضةٍ ورواية سِيَرٍ https://rommanmag.com/archives/20888 Fri, 03 Jun 2022 06:24:17 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a8%d9%8a%d8%b1%d9%88%d8%aa-%d9%81%d9%8a-%d8%b9%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d8%b5%d9%81%d8%a9-%d8%aa%d9%88%d8%ab%d9%8a%d9%82%d9%8f-%d8%a7%d9%86%d8%aa%d9%81%d8%a7%d8%b6%d8%a9%d9%8d/ بين “انتفاضة 17 أكتوبر” (2019) اللبنانية، والانفجار المزدوج في مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2022)، تلتقط الفلسطينية مي المصري، في وثائقيّها الجديد “بيروت في عين العاصفة” (2021، 75 دقيقة)، تفاصيل حياةٍ في هاويةِ خرابٍ وقلاقل، ويوميات شاباتٍ يواجهن، بفنّ وحماسة ووعي وتطلّعات وآمالٍ، آلة قتلٍ تبغي كسر إرادة أناسٍ، وإحالة عيشهم إلى جحيم دائم. اللحظتان أساسيتان. […]

The post “بيروت في عين العاصفة”: توثيقُ انتفاضةٍ ورواية سِيَرٍ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
بين “انتفاضة 17 أكتوبر” (2019) اللبنانية، والانفجار المزدوج في مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2022)، تلتقط الفلسطينية مي المصري، في وثائقيّها الجديد “بيروت في عين العاصفة” (2021، 75 دقيقة)، تفاصيل حياةٍ في هاويةِ خرابٍ وقلاقل، ويوميات شاباتٍ يواجهن، بفنّ وحماسة ووعي وتطلّعات وآمالٍ، آلة قتلٍ تبغي كسر إرادة أناسٍ، وإحالة عيشهم إلى جحيم دائم.

اللحظتان أساسيتان. لكنّ المدى -الإنساني والثقافي والنفسي والاجتماعي والمعرفي والنضالي- الممتد بينهما، مساحةٌ تختارها المصري لولوج سينمائيّ إلى هوامش متفرّقة، تتراكم في تشكيلها متن حكايةِ مدينةٍ وأفراد، وفي رسمها الوثائقي ملامح زمنٍ وانقلابات. التوثيق، معها، يترافق واشتغالٍ تفكيكيّ لجوانب ترتبط بالنواة الأساسية (يوميات الشابات بين لحظتي الانتفاضة والانفجار) بشكلٍ غير مباشر، فالجوانب جزءٌ من النصّ العام لبلدٍ واجتماع وشعب.

في جديد المصري هذا، تتمثّل النواة الأساسية في قراءة تجارب أربع شابات (ثلاث لبنانيات، وشابّة عراقية مُقيمة في بيروت) في تلك المساحة، الزمنية والنفسية، الفاصلة بين اللحظتين. لكنّ القراءة غير ملتزمةٍ الفعل المباشر للتجارب واللحظتين معاً فقط، فالمصري تنبش جوانب، تراها أساسية في سيرة كلّ شابّة، أي في حكاية موروثاتٍ وقناعات وعلاقات أسَريّة، تصنع وعياً فردياً يُحرّض كلّ شابّة على ابتكار أساليب تصرّف وأدوات اختبار في تلك الفترة اللبنانية (وفي خارجها أيضاً)، التي (الفترة) ستُكون إحدى “أسوأ” اللحظات في تاريخ البلد وناسه: أزمة اقتصادية ـ اجتماعية خانقة، غير مسبوقة لبنانياً منذ نشأة “دولة لبنان الكبير” (1 سبتمبر/أيلول 1920) على الأقلّ؛ سوء إدارة “وطنيّة” في مواجهة تفشّي وباء كورونا (الإعلان عن أول إصابة في لبنان بهذا الوباء حاصلٌ في 21 فبراير/شباط 2020)، ما يؤدّي إلى مزيدٍ من المصائب والأعطاب والإصابات؛ الانفجار المزدوج، الذي به يُختَم الوثائقيّ.

تُرافق مي المصري الشابات الأربع، الشقيقتين نويل وميشيل كسرواني وحنين رباح والعراقية لُجين ج، في يوميات اختبارهنّ انتفاضة (في تقديم الوثائقيّ، تكتب المصري مفردة “انتفاضة” لوصف الحاصل بدءاً من “17 أكتوبر”، بينما تختار الشابات تعبير “ثورة”)، ستتعطّل أولاً بسبب عنف الردّ عليها من أحزابٍ وطوائف مُمسكة بالبلد وناسه، ورافضة أي خروج للبلد وناسه عليها، وثانياً بسبب كورونا. لكنّ المصري ـ بعينها الوثائقية الثاقبة، وخبرتها في التعامل مع مسائل حيّة في وجدانٍ وتفكيرٍ وانفعال وتأمّلات ـ تريد إخراج ما في نفوس الشابات وعقولهنّ ومشاعرهنّ إزاء مسائل حياتية، تبدأ في العلاقات الأولى لكلّ واحدةٍ منهنّ مع محيطها، أي العائلة. فالعائلة أول إطلالة للفرد على الذات والعالم، وما يحصل في العائلة ومعها (بسببها أو بفضلها)، يتكوّن وعي الفرد وانفعالاته.

هذا غير عابر. هذا تفصيلٌ يُفيد بكشف بعض معالم التكوين، الحياتي والنفسي والثقافي والاجتماعي على الأقل، لكلّ شابّة، وضمناً لواقعٍ لبناني ـ عربي، يستمرّ في فرض شروطه القاهِرة على المرأة أساساً، رغم محاولات جمّة لمناهضة هذا الفرض، لقناعةٍ بحريةٍ شخصية تمنح المرء صُنع وعيه ومعرفته وسلوكه. هذا جانب تأسيسيّ للفرد، تضعه مي المصري في واجهة المشهد، كوضعها مسائل أخرى أيضاً في الواجهة نفسها، فالمنطلق معقودٌ على انتفاضةٍ، لن تكون ضد نظامٍ فاسد وناهِب وقاتل فقط، بل ترجمة لتأثيرات هذا التكوين العائليّ أيضاً، الذي يُساهم في تحصين كلّ شابة منهنّ في مواجهة نظامٍ اجتماعي ـ ثقافي ـ تربوي، يكاد يتساوى في عفنه وعنفه مع نظامٍ فاسد وناهب وقاتل.

كلّ كلام تقوله كلّ شابّة يجمع، في نبرته ومضمونه وحيويته وصدقه وانفعاله، بين تربية وواقع ورغبات واختبار، وإنْ تكن نتائج “الانتفاضة” مُخيّبة، إلاّ أنّها تبقى تجربة مفيدة لمزيدٍ من وعي ومعرفة ونضج. سردهنّ لوقائع تربية منفتحة يتساوى ورواياتهنّ عن سِيَر واهتمامات ومشاغل فردية، تلتقي في الانتفاضة، وتنفتح على الذاتيّ في الوقت نفسه. البوح بحكايات فردية يترافق وعودة دائمة إلى ذلك التكوين النفسي والمعرفي والانفعالي في العائلة. النزول إلى الشارع، في “انتفاضة 17 أكتوبر”، مُرتبط بهذا الماضي الفرديّ أيضاً، لذا تذهب الكاميرا (تصوير جوسلين أبي جبرايل وباسم فياض ولُجين ج.) إلى المنازل العائلية، حيث التكوين ينكشف في سردٍ مُكثَّف لعلاقات قائمة بين الشابات اللبنانيات والأهل/العائلة، بينما لُجين تحاول إيجاد مشتركات بين بيروت وبلدها، فتتكامل الحكايات بينهنّ.

هذا غير منفصل عن حيّز فلسطيني. فالمصري مُدركةٌ، في سيرتها الحياتية والسينمائية والثقافية، أنّ التداخل عميقٌ وأساسيّ بين الفلسطيني واللبناني، وحنين رباح، ابنة البقاع، تحمل آلة تصوير فوتوغرافي في جولاتها في مخيمات فلسطينية، فهمومٌ عدّة تجمع عرباً في حيّز واحد، وفضاء واحد.

ترتكز مواجهات الشابات على فنونٍ، إلى جانب المشاركة الميدانية في “انتفاضة 17 أكتوبر”. الشقيقتان نويل وميشيل تصنعان أغنيات (كتابة وتلحينا وغناء)، وحنين تختار التصوير، كلُجين أيضاً. الفنون غير محصورة بالانتفاضة، والمشاركة الميدانية تحتاج إلى توثيق، يُصنَع في صورةٍ وأغنية وابتكارات تؤكّد حرص الشابات على إيجاد متنفّس إضافي في مواجهة خراب (الذهاب إلى الانتفاضة مع جَمَلٍ، وتصوير فيديو كليب لأغنيةٍ للشقيقتين كسرواني، مثلاً). التفاصيل الصغيرة منعكسةٌ في اكتشاف الشابات بعض بيروت غير المعروفة لهنّ. تجوّل في أنقاض صالة سينمائية، أو في شوارع متفرّقة، غير مختلف عن تجوّل في ذاكرة مدينة واجتماع، وعن رغبةٍ في أنْ تكون الانتفاضة، بجزء منها، استكمال لمعرفةٍ واطّلاع.

في توليف (كارين ضومط) “بيروت في عين العاصفة”، المعروض للمرّة الأولى عالمياً في الدورة الـ34 (17 ـ 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2021) لـ”مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا)”، والمعروض أخيراً في الدورة الـ8 (21 مايو/أيار ـ 5 يونيو/حزيران 2022) لـ”مهرجان السينما الفلسطينية في باريس (وبين 7 و9 يونيو/حزيران 2022 في مرسيليا، للمرّة الأولى)، تمزج مي المصري صخب انتفاضة بهدوء عاصفةٍ تهبّ على المدينة وناسها (تخلو الشوارع كلّياً في لقطاتٍ عدّة، فالوباء قاتل، وفصل الشتاء يبدو، في لقطات قليلة، كأنّه يصنع عاصفةً لن ترحم. لذا، أتكون العاصفةُ تلك انفجاراً مزدوجاً، بكلّ ما يطرحه الانفجار من خراب وأسئلة وأعطاب؟)، كما تمزج حيوية راهنٍ بماضٍ ذاتي (العائلة) وعام (بيروت والعالم).

أنْ يكون الفيلم الوثائقي شهادة سينمائية عن لحظةٍ ومسارٍ وانفعال وانشغال وتأمّلات ومناكفات ومواجهات وتحدّيات، فهذا أساسيّ في صناعة هذا النوع، الذي تستمرّ مي المصري في إنجازه. هذا ما يصنعه “بيروت في عين العاصفة”: شهادةٌ عن سيرة بلدٍ واجتماعٍ وأناسٍ، بأصوات شابات وحيويتهنّ ورغباتهنّ وعشقهنّ لحياةٍ، وبإصرارهنّ على عيش تلك الحياة وفقاً لقناعات مكوَّنة من تربيةٍ منفتحة، تناقض إرثاً منغلقاً، وتصبو إلى مزيدٍ من “انتفاضات”، بالفنّ والعيش والسلوك.

The post “بيروت في عين العاصفة”: توثيقُ انتفاضةٍ ورواية سِيَرٍ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
هل يغلب المضمون على الشكل في الاختيارات العربية لـ”كانّ” السينمائي؟ https://rommanmag.com/archives/20877 Sun, 22 May 2022 18:56:28 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%87%d9%84-%d9%8a%d8%ba%d9%84%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b6%d9%85%d9%88%d9%86-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%83%d9%84-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ae%d8%aa%d9%8a%d8%a7%d8%b1%d8%a7/ يُثير اختيار أفلامٍ عربيّة في مهرجان “كانّ” السينمائي، في مسابقته الرسمية ومسابقات/تظاهرات أخرى، أسئلة عدّة: النظرة الغربيّة إزاء أفلامٍ ومخرجين/مخرجات عربٍ، يُقيمون في بلدانهم أو يعيشون في المهجر؛ أسباب الاختيار ومعانيه، ثقافياً وفكرياً واجتماعياً؛ مدى الموازنة بين مضمون مهمّ وشكلٍ سينمائيّ، يُفترض به أنْ يستوفي شرطه السينمائيّ البحت. طرح تساؤلات كهذه، بمناسبة الدورة الـ75 (17 […]

The post هل يغلب المضمون على الشكل في الاختيارات العربية لـ”كانّ” السينمائي؟ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
يُثير اختيار أفلامٍ عربيّة في مهرجان “كانّ” السينمائي، في مسابقته الرسمية ومسابقات/تظاهرات أخرى، أسئلة عدّة: النظرة الغربيّة إزاء أفلامٍ ومخرجين/مخرجات عربٍ، يُقيمون في بلدانهم أو يعيشون في المهجر؛ أسباب الاختيار ومعانيه، ثقافياً وفكرياً واجتماعياً؛ مدى الموازنة بين مضمون مهمّ وشكلٍ سينمائيّ، يُفترض به أنْ يستوفي شرطه السينمائيّ البحت.

طرح تساؤلات كهذه، بمناسبة الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) للمهرجان، غير متأتٍ من موقفٍ ثقافي ـ إيديولوجي، يقول باستعلاء غربي، أو بتنازلات عربية. طرحٌ كهذا يسعى إلى فهم حالةٍ، لا إلى مناقشة ما يتردّد عن “علاقات مشبوهة” بين عربٍ وأجانب، تتطلّب من الأوّلين “خضوعاً” للغرب كي يُوافق الغرب على إشراكهم في محافله الثقافية والفنية المختلفة، أو عن “إحساسٍ عربيّ بالمؤامرة”، تلك التي يصفها البعض بأنّها “بطاقة دخول” عربيّ إلى الغرب.

هذا كلّه غير مُفيد (ولعلّه غير صحيح أيضاً، أقلّه بشكل عام) في نقاشٍ، يجهد في فهم آليات اختيار الأفلام كلّها في مهرجانات سينمائية، بعضها مُصنّف “فئة أولى”، كالـ”برليناله” (مهرجان برلين) و”كانّ” و”لا موسترا” (مهرجان فينيسيا). تجارب سابقة تكشف أنّ بعض الاختيار غير متوافق مع أبرز شرطٍ له (الاختيار): الجودة الفنية والدرامية والجمالية والبصرية، التي يجب أنْ تكون غالبة، بل أساسية، في إتاحة مجالٍ أمام فيلمٍ، لعرضه في مهرجان دولي.

آخر مثلٍ على ذلك: اختيار “مفاتيح مُكسَّرة” (2020)، للّبناني جيمي كيروز، لعرضه في برنامج “أفلام أولى”، في الدورة الـ73 لمهرجان “كانّ”، غير المنعقدة في موعدها المحدّد (12 ـ 23 مايو/أيار 2020)، بسبب تفشّي وباء كورونا (نسخة مُصغّرة منها تُقام في 3 أيام فقط، بين 27 و29 أكتوبر/تشرين الأول 2020).

الحجّة، التي يُمكنها أنْ تُبرِّر الاختيار من دون قبولها بالضرورة، كامنةٌ في أنّ البرنامج المذكور معنيٌّ بتقديم أفلام أولى لمخرجين/مخرجات جدد. هذا حاصلٌ أيضاً في تظاهرتين مهمّتين في المهرجان نفسه: “نصف شهر المخرجين” و”نظرة ما”، المهمومتين باكتشاف الجديد (أول و/أو ثاني فيلم). غير أنّ الحجّة تواجه سؤال كيفية الاختيار، فالنتاجات السينمائية السنوية في العالم، الموسومة بكونها أول/ثاني تجربة لصانعيها، كثيرةٌ، والاختيار صعبٌ، والمعاينة النقدية تُفيد بأنّ أفلاماً عدّة منها متمكّنةٌ من شرطها السينمائيّ في مقارباتها المختلفة. أمّا “مفاتيح مُكسّرة”، فمحتاجٌ إلى تأهيل سينمائيّ جذريّ، لخلله ـ الدرامي والفني والجمالي والتمثيلي ـ في قراءة مشهدٍ، إنسانيّ أولاً، يتمثّل بعيشٍ في حيّز جغرافي خاضع لإرهابٍ دينيّ مُسلّح. حكاية الموسيقيّ الشاب كريم (طارق يعقوب)، الذي يُمنع من العزف على البيانو في بلدته (عراقية/سورية !)، بعد سيطرة تنظيم “داعش” عليها. يوميات أناسٍ يعانون قهراً وخوفاً وارتباكات عيشٍ، فيُحاول بعضهم تدبير خروج آمن إلى مهجر أو منفى، للخلاص من الجحيم.

الاشتغالات السينمائية معطّلة، خاصة في مسألتي المعالجة الدرامية، بكلّ ما فيها من حكايات وحالات وتفاصيل مرتبطة بأفرادٍ كهؤلاء، أو بعيشٍ في بيئة “داعشية”؛ والفنّيات المختلفة، خاصة الأداء، فكيروز يختار ممثلين وممثلات لبنانيين لتأدية شخصياتٍ عراقية/سورية، من دون تدريبٍ على نُطقٍ سليم للهجة العراقية/السورية، بالإضافة إلى تمثيلٍ عاديّ (ومتصنّع أو مُبالغٍ فيه أحياناً)، رغم أنّ لبعضهم إمكانيات تمثيلية هائلة.

هذا لن يكون تفصيلاً عابراً، في قراءة سؤال اختيار مهرجانات سينمائية أفلاماً مختلفة. فالخلل، متنوّع الجوانب، في أول روائي طويل لجيمي كيروز، واضحٌ تماماً، ورغم هذا يُتاح له الحصول على وسم “الاختيار الرسمي” من أبرز مهرجان دولي في العالم. ألن يُحرِّض فعلٌ كهذا على التساؤل عن كيفية اختيار الأفلام كلّها، رغم أنّ أفلاماً كثيرة تُعرض في مهرجانات دولية، ويكون بعضُها أوّل فيلمٍ، تمتلك جماليات صناعة بصرية، تمتّع العين والقلب، وتحثّ العقل على تفكيرٍ ونقاشٍ؟

“كفرناحوم”، للّبنانية نادين لبكي، مثلٌ آخر: اختياره في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/أيار 2018) لمهرجان “كانّ” نفسه، يؤدّي إلى فوزه بـ3 جوائز، إحداها مهمّة، لكونها تحمل اسم “جائزة لجنة التحكيم”. مُشاهدته تُثير سؤال الاختيار والفوز، خاصّة أنّ في المسابقة الرسمية أفلاماً أهمّ وأعمق وأقوى، سينمائياً ودرامياً وسردياً وفنّياً، كـ”كتاب الصورة” للفرنسي السويسري جان ـ لوك غودار، الممنوح “سعفة ذهبية خاصّة”، و”يوم الدين” للمصري أبو بكر شوقي، و”شجرة الكمثرى البرّية” للتركي نوري بيلجي سيلان، و”ليتو” للروسي كيريل سِرِبْرنيكوف، مثلاً.

تضافر عوامل عدّة في لحظةٍ واحدة تُساهم في الاختيار والفوز. وضع المرأة، السينمائية خاصة، في العالم، بعد فضيحة المنتج الهوليوودي المستقلّ هارفي وينستين: لـ”كفرناحوم” مُخرجةٌ، لها دعمٌ إنتاجيّ فرنسي فاعل، بفضل مُنتجة تُدعى آن ـ دومينيك توسّان، رغم أنّ في المسابقة نفسها فيلمين لمخرجتين، الايطالية أليس رورفتشر الحاصلة على جائزة السيناريو مناصفة مع الإيراني جعفر بناهي (3 وجوه) عن “لعازر السعيد”، رائعتها الأهمّ من “كفرناحوم”؛ والفرنسية إيفا أوسّون عن “فتيات الشمس”؛ تأثيرات الفضيحة نفسها، والجدل الحاصل بخصوصها في تلك الفترة (“النيويورك تايمز” و”النيويوركر” تكشفان الفضيحة في أكتوبر/تشرين الأول 2017)؛ اختيار كايت بلانشيت رئيسةً للجنة تحكيم المسابقة الرسمية، ولبلانشيت مواقف سلبية من وينستين. هذا كلّه لا علاقة له بـ”كفرناحوم”، فالفيلم غير سويّ سينمائياً، ونظرته إلى وقائع وحقائق لبنانية متعالية وغير واقعية وغير صحيحة، وبعضها يُحسِّن الصورة السيئة لأجهزة أمنية وقضائية. رغم هذا، يتمّ اختياره، ويُمنح إحدى أبرز جوائز المسابقة الرسمية، بالإضافة إلى جائزتي لجنة التحكيم المسكوني لـ”كانّ” (لجنة مستقلّة مؤلّفة من مسيحيين يعملون في مهن لها علاقة بالسينما، كالصحافة والإخراج والتدريس)، و”المواطنيّة”.

أفلامٌ عربيّة جديدة (إنتاج 2022)، مختارة لعرضٍ دولي أول لها في مهرجان “كانّ الـ75” (مسابقة رسمية ومسابقات/تظاهرات أخرى)، غالبيتها لمخرجين/مخرجات مُقيمين خارج بلدانهم العربية، وبعضها القليل يحمل جنسية بلد إقامة المخرج/المخرجة، أي بلد الإنتاج أيضاً: فيلمٌ واحدٌ بينها، “صبيّ من الجنّة” للمصري السويدي طارق صالح، يُعرض في المسابقة الرسمية باسم السويد. في “نظرة ما”، هناك “حمى البحر المتوسّط” للفلسطينية مها الحاج (ثاني فيلم روائي طويل لها بعد رائعتها الأولى “أمور شخصية”)، و”حرقة” للتونسي لطفي ناثان (المُقيم في الولايات المتحدة الأميركية)، و”القفطان الأزرق” للمغربية مريم التوزاني (الفيلمان الأخيران مُشاركان في “مسابقة الكاميرا الذهبية”). 3 أفلام عربية أخرى مُختارة لـ”نصف شهر المخرجين” (أو “أسبوعا المخرجين”)، اثنان منها يُشاركان في “مسابقة الكاميرا الذهبية”: “تحت شجرة التين” للتونسية أريج السحيري، و”السدّ” للّبناني علي شري، بالإضافة إلى “أشكال” للتونسي يوسف الشابي.

تستحيل كلّ قراءة نقدية لتلك الأفلام قبل مشاهدتها. لكنّ مشاركتها في مهرجانٍ دولي كهذا تُشير إلى حيوية الإنتاجات العربية وغزارتها، وبعض جديدها، المُنتج في الأعوام الثلاثة الأخيرة على الأقلّ (بينها عامان موسومان بوباء كورونا)، يشي بتكاملٍ بين تلك الحيوية وجماليات سينمائية، تروي وقائع وحكايات، وتُصوّر حالاتٍ وانفعالاتٍ، بلغة مُثيرة للمتعة والتفكير والتأمّل، لما في نصوصها من أسئلةٍ منبثقة من أحوالٍ فردية (بغالبيتها) وجماعية، في راهنٍ عربيّ مرتبك وممزّق وخائبٍ ومنهار. الأفلام الجديدة تُكمِل، بحسب المتداول عن مواضيعها/حكاياتها/حالات أفرادها، ما يُصنَع في السينما العربية الجديدة، بانتظار المُشاهدة، التي ستكشف، من أمور أخرى، مدى التزامها الشرط السينمائي في قراءة راهن وذاكرة وتاريخ، ومدى صوابية/عدم صوابية اختيارها في “كانّ الـ75”. أفلامٌ سابقة لبعض هؤلاء المخرجين/المخرجات تقول إنّ لدى هذا البعض أساليب اشتغال ترتكز على مفرداتٍ سينمائية تتكامل، في صوغها النصّ السينمائيّ كلّه، مع مضامين تمسّ جوهر الفرد وجماعته، في زمنٍ عربيّ آنيّ.

إلى ذلك، هناك تشكيل لجان التحكيم، الذي يمنح عرباً مواقع لهم فيها. هذا يطرح، أحيانا، سؤال الاختيار، إذْ أنّ أسماء عربية عدّة أقلّ أهمية من أسماء أخرى، ومع هذا يتمّ اختيارها، أحياناً، في تلك اللجان. الدورة الـ75 لمهرجان “كانّ” تؤكّد أنّ للمهنيّة والحِرفيّة حضوراً وأولوية، أقلّه في هذا الإطار: المخرج المصري يُسري نصرالله رئيساً للجنة تحكيم “سينيفونداسيون” والأفلام القصيرة، والمخرجة التونسية كوثر بن هنيّة رئيسةً للجنة تحكيم مسابقة “أسبوع النقّاد”، وهذا برنامج/مسابقة له أهميّة فنية وثقافية، لكونه حيّزاً للنقّاد السينمائيين، يُتيح لهم اختيارات ونقاشات تؤدّي بهم إلى منح جوائز لأفلامٍ جديدة. هذا لن يحول دون اختيار من لا علاقة له بالنقد في لجان التحكيم.

هناك أيضاً المغربي هشام فلاح، المدير العام لـ”مهرجان الفيلم الوثائقي في أغادير”، المختار لعضوية لجنة تحكيم “العين الذهبية”.

رغم هذا كلّه، ورغم أخطاء وخلل في دورته الـ75 (أعطال تقنية تحول دون تمكّن نقاد وصحافيين سينمائيين من حجز مقاعد لهم لمشاهدة أفلام المسابقات المختلفة؛ فرض إدارة المهرجان على نقاد وصحافيين سينمائيين الاطّلاع على نصوص الحوارات التي تُجرى مع مسؤولين فيها قبل نشرها، ما يؤدّي إلى تدخّلها في الحذف والتصحيح والمنع؛ إلخ.)، يبقى مهرجان “كانّ” قُبلة السينما والسينمائيين/السينمائيات، ومرجعاً ـ أبرز وأهمّ ـ في الاكتشاف والتقديم والدعم.

The post هل يغلب المضمون على الشكل في الاختيارات العربية لـ”كانّ” السينمائي؟ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
السينما اللبنانية في “بقعة ضوء”: سيرة بلدٍ مكتوبة بالصُور https://rommanmag.com/archives/20847 Thu, 21 Apr 2022 06:52:11 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d9%86%d9%85%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a8%d9%82%d8%b9%d8%a9-%d8%b6%d9%88%d8%a1-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%a8%d9%84/ كلاكيت:

The post السينما اللبنانية في “بقعة ضوء”: سيرة بلدٍ مكتوبة بالصُور appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
اختيار لبنان في برنامج “بقعة ضوء”، في الدورة الـ13 (20 ـ 26 أبريل/نيسان 2022) لـ”مهرجان الفيلم العربي في برلين“، متأتٍ من كشف السينما اللبنانية “مُقدّمات الأزمة المعاصرة” للبلد، و”سوء إدارتها وطرائق التعامل معها”. بيان إدارة المهرجان يذكر أنّ المخرجين اللبنانيين قادرون، في عقود متواصلة، على “تحويل صدماتهم وخبراتهم إلى سرديات سينمائية مُبدعة”، تساهم “في تشكيل مسارات المقاومة”، وتتجلّى فيها “مساعيهم إلى مواجهة أقدارهم بشجاعة”.  

البيان المقتضب، الذي يُعرّف المهتمّين والمشاهدين على أسباب اختيار هذه السينما في ذاك البرنامج، غير منفضٍّ عن الأزمة الخانقة التي يُعانيها اللبنانيون واللبنانيات، خاصة منذ “انتفاضة 17 أكتوبر” (2019)؛ وغير متغاضٍ عن “جذور” تلك الأزمة، فالحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) أحد تلك الجذور، وسبب “انشقاقات مجتمعية طائفية عنيفة”. يستعيد البيان مرحلة ما بعد النهاية المزعومة للحرب، ذاكراً أنّ قادة الحرب ـ “روؤساء الأحزاب الطائفية، وقادة الميليشيات العسكرية المنخرطة في الحرب” ـ ينتقلون، في السلم الأهلي الهشّ والناقص، إلى السلطة، ويتعاقبون على حكم البلد إلى اليوم: “يحاول المخرجون والمخرجات في لبنان، في ظلّ الفساد الاقتصادي والسياسي للطبقة الحاكمة، مواجهة الخطاب السياسي السائد، من خلال التعرّض بالنقد للأوضاع السياسية والاجتماعية، وطرح تصوّرات بديلة” في أفلامهم. يُشير البيان إلى أنّ المهرجان، في دورته الجديدة هذه، يُكرّم “تلك السينما المُقاومة”.

تعكس الأفلام اللبنانية المختارة لـ”بقعة ضوء” تنوّعاً متعدّد الاتجاهات:

ـ تواريخ الإنتاج تُشير إلى مسارٍ غير مُنقطعٍ لتلك السينما، ما يؤكّد تواصلاً في سيرةٍ، تمزج الثقافيّ بالسياسي والاجتماعي، والجمالي بالفني والتقني.

ـ “أجيال” عدّة، يحاول البرنامج تقديم شيءٍ من نتاجاتها، ما يُثبِّتُ واقعاً مفاده أنّ اختلاف أزمنة الاشتغالات غير متناقضٍ مع الأساسيّ: غلبة اشتغال سينمائيّ، في معاينة أحوال بلدٍ واجتماع وأناس وعلاقات وانفعالات وتفكير.

ـ التوثيق غير مأسورٍ في نمطٍ واحد، لأنّ كل فيلمٍ من الأفلام الوثائقية يمتلك خصوصية وحميمية ذاتيّتين، تُحركّان الإخراج في تبيان مواجع فردية، منفتحة على العام. المشترك بينها كامنٌ في تحرير النوع الوثائقي من تقليديته، بالاستعانة بأنواع فنية عدّة، كالتحريك والمتخيّل في صلب البناء السينمائي لكلّ فيلمٍ.

ـ الحرب الأهلية اللبنانية غير المنتهية، والسلم الهشّ والناقص، مرحلتان تحرّضان على تفكيك مسائل وحكايات وأحوال، بحثاً في مكامن خللٍ، أو في أسئلة معلّقة، أو في إجابات مبهمة. إنّهما هاجسٌ يحثّان سينمائيين وسينمائيات لبنانيين على الحفر في الذاكرة والراهن، لتوثيق تلك الذاكرة وذاك الراهن، روائياً ووثائقياً، بلغة بصرية متماسكةٍ ومتآلفةٍ مع أمزجة صانعيها وخياراتهم ومشاعرهم.

***

مخرج ومخرجتان لبنانيون ينتمون إلى مرحلة التأسيس الفعلي لسينما لبنانية جديدة ومختلفة، تبدأ عشية اندلاع الحرب الأهلية، وتجهد في إكمال سيرتها الصادِمة والمتفلّتة من مفهوم تجاري استهلاكي للأفلام. “السينما البديلة”، بحسب المتّفق عليه تأريخياً، تنبثق من لحظة تحوّلٍ، تعيشها بيروت نهاية ستينيات القرن الـ20 والنصف الأول من سبعينياته، وترتبط بهموم الناس، وبمسائل عيشٍ وعلاقاتٍ وغليانٍ، نابعٍ (الغليان) من أسئلة عدّة، في الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة.

برهان علوية يحضر في “بقعة ضوء” مع “بيروت اللقاء” (1981)، بنسخة مُرمّمة يُحتَفَلُ بها لبنانياً قبل وقتٍ قليل على عرضها في “مهرجان الفيلم العربي في برلين”، الذي يستعيد روائياً لجوسلين صعب بعنوان “كان يا ما كان بيروت، حكاية نجمة” (1995)، ووثائقياً لرنده الشهّال بعنوان “حروبنا الطائشة” (1995). الروائي الثاني لعلوية (بيروت اللقاء)، بعد كفرقاسم” (1974)، يلتقط شيئاً قاسياً وحادّاً في بنية العلاقات بين الناس، في بدايات حربٍ تمزّق بيروت، وتعطب علاقة حبّ بين مسيحية ومسلم، وتشوِّه معالم حياة وانفعالات. الفيلم مُحمَّل بصُوَر مُكثّفة، تُعرض بسلاسة تتناقض وعنف حربٍ وأفراد، وتكشف بشاعاتٍ تُصيب مدينة وناسها. صعب تستعيد تاريخ بلدٍ وسينما عبر صُور كثيرة، ولقطات من أفلامٍ، تشاهدها صديقتان عائدتان إلى مدينتهما للتعرّف عليها، عبر عدسات كاميرات سينمائية، وعينيّ جامِع أفلامٍ، وعبر صوت طالعٍ من أزمنة عنف وخراب، إلى لحظة تُنبئ بسلمٍ مرغوب فيه، قبل أنْ يُصبح السلمُ حرباً من نوعٍ آخر. أما الشهّال، فتضع أفراد عائلتها أمام كاميرا توثيقية، لتروي معهم وعبرهم فصولاً من أهوال تلك الـ”حروب” الـ”طائشة”، جاعلةً (الشهّال) فيلمها هذا شهادة سينمائية عن تاريخٍ وذاكرة وحكايات، يتداخل فيها كلّها الذاتي بالعام.

***

8 أفلام وثائقية لمخرجين ومخرجات ينتمون إلى مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، وبعضهم/بعضهنّ يبدأ اشتغالاته منذ أعوامٍ قليلة. يغلب على تلك الأفلام الطابع الفردي: حكايات تُروى على ألسنة أفرادٍ، بلغة سينمائية متماسكة، وباشتغال فنيّ يٌلغي غالباً الخطّ الفاصل بين التوثيق والمتخيّل، ويستفيد من أدواتٍ غنيّة بما يصنع شهاداتٍ ذاتيّة، تنفتح على العام. أفلامٌ تكشف أحوال أناسٍ، تتحوّل حكاياتهم إلى مرايا، تُعرّي بلداً واجتماعاً وعلاقاتٍ ونفوساً وتفكيراً. وهذا غير لاغٍ حفراً في هموم جماعات، مُصابة بخرابٍ يمتدّ من الجسد إلى الروح، ومن المرء إلى المدينة، ومن الماضي إلى الراهن.

الاختيار يعني أنّ الاشتغال الوثائقيّ السينمائي اللبناني مهمومٌ بسيرة، ترتكز أساساً على عيشٍ وأعطابٍ وأسئلة معلّقة، تريد رسم معالم حالةٍ، وتوثيق شهاداتٍ، وبعض هذا التوثيق بصريٌّ، أي أنّه معنيّ أولاً ببلورة معادلةٍ سينمائية بين النصّ والصورة.

مثلٌ أول: “طرس، رحلة الصعود إلى المرئي” (2018) لغسان حلواني. التنقيب في مسألة المفقودين والمغيّبين قسراً (نحو 17 ألف فردٍ)، انطلاقاً من تجربة شخصية (والد المخرج أحد المفقودين في الحرب الأهلية اللبنانية، غير المعروفة مصائرهم إلى الآن)، تُتيح (التجربة) إمكانية الغوص في السؤال المعقّد، الذي تتشابك فيه أسئلة الحرب والهوية والفقدان والتغييب والذاكرة، والذي يُصنَع بمزيجٍ فني بين مشاهد واقعية، وأخرى مشغولة بتقنية التحريك.

مثلٌ ثانٍ: “أبي لا يزال شيوعياً، أسرار حميمة للجميع” (2013) لأحمد غصين. استخدام سينمائي لأشرطة “كاسيت” قديمة، تُسجّل عليها رسائل أمٍ إلى زوجها المسافر، أيام الحرب الأهلية نفسها، يجعلها (الاستخدام) فيلماً يكشف شيئاً من يوميات عائلة في زمنٍ مليءٍ بالعنف والخوف والرغبات المعطّلة، والتمزّق الأليم الذي تفرضه الحرب على العائلة.

مثلٌ ثالث: “إضطراب” لسارة قصقص و”إعلان حرب” لإيلي داغر (مشروع مؤلَّف من 5 أفلام قصيرة، بعنوان “بيروت… آب 2021”. المنتجة: نرمين حداد. إدارة الإنتاج: أنطوني زوين، مع “بيروت دي سي” وDanish – Arab Partnership Programme  وIMS، بالشراكة مع “المفكرة القانونية”): انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020) لحظة تحوّل جذري في مسارات أناسٍ، مُصابين بصدمة القتل، والباقون أحياءً يحملون جراحاً في النفس والروح، ويبحثون بين الغبار والركام والأنقاض عن أنفسهم وأجسادهم وانفعالاتهم، ويروون مخاوف وارتباكات وإحباطات وخيبات.

هذا حاضرٌ في “إعادة تدمير” (2021)، لكنْ خارج الاختبار الذاتي الفردي. سيمون الهبر يتجوّل بكاميراه في أزقّة وأبنيةٍ وذواتٍ، تحيط بجغرافيا المرفأ، وتلتقط أهوالاً تعود جذورٌ لها إلى ما قبل الانفجار، أي إلى مرحلة السلم الأهلي الهشّ والناقص، وإلى حربٍ وما قبلها أيضاً. شيءٌ من تاريخ البلد مشغولٌ في “مارسيدس” (2011) لهادي زكّاك، الذي يكتبه بصُور خالية من الحوار، مكتفياً بسيرة السيارة الألمانية “مرسيدس”، التي تُشكِّل جزءاً أساسياً من سيرة لبنان وناسه، منذ خمسينيات القرن الـ20.

***

أمثلةٌ غير لاغيةٍ أفلاماً روائية، بعضها معنيٌّ مباشرة بالحرب وإفرازاتها ونتائجها وتأثيراتها، كـ”أرض مجهولة” (2002) لغسان سهلب، و”دفاتر مايا” (2021) لجوانا حاجي توما وخليل جريج، بينما يُعاين “كوستا برافا” (2021) لمنية عقل راهناً غارقاً في مأزق نفاياتٍ، يعانيه البلد منذ أعوام، لتبيان أزمة اجتماعٍ وسياسةٍ وعيشٍ.

أفلامٌ لبنانية أخرى مختارة لبرنامج “بقعة ضوء”، إلى جانب نقاشاتٍ نظرية تتناول “السينما في وقت الأزمات” و”الأدوار المختلفة للأرشيف في بناء خطاب سينمائي بديل: من الشخصي إلى العام”، يُفترض بها قراءة موقع السينما اللبنانية، باشتغالاتها المتنوّعة، في ارتباطها ببلدٍ وناسه، وبهموم بلدٍ وناسه.

The post السينما اللبنانية في “بقعة ضوء”: سيرة بلدٍ مكتوبة بالصُور appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“فرحة” لدارين سلاّم: حِرفية أداء عن لحظة تاريخية https://rommanmag.com/archives/20748 Mon, 10 Jan 2022 09:21:55 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%81%d8%b1%d8%ad%d8%a9-%d9%84%d8%af%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d9%86-%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%91%d9%85-%d8%ad%d9%90%d8%b1%d9%81%d9%8a%d8%a9-%d8%a3%d8%af%d8%a7%d8%a1-%d8%b9%d9%86-%d9%84%d8%ad%d8%b8%d8%a9/ استناداً إلى “أحداثٍ حقيقية”، تروي الأردنية دارين ج. سلاّم (1987) حكاية مُراهِقَةٍ فلسطينية تُدعى فرحة (14 عاماً)، في لحظة تاريخية، تشهد انقلاباً جذرياً في الحياة والوعي والسلوك. يتّخذ الفيلم اسم المُراهِقَة، التي تؤدّي دورها كرم طاهر، عنواناً له. ابنة المختار (أشرف برهوم)، المتمرّدة على تقاليد ذكورية في بلدة ريفية، تجد نفسها فجأة وحيدة ومعزولة عن […]

The post “فرحة” لدارين سلاّم: حِرفية أداء عن لحظة تاريخية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

استناداً إلى “أحداثٍ حقيقية”، تروي الأردنية دارين ج. سلاّم (1987) حكاية مُراهِقَةٍ فلسطينية تُدعى فرحة (14 عاماً)، في لحظة تاريخية، تشهد انقلاباً جذرياً في الحياة والوعي والسلوك. يتّخذ الفيلم اسم المُراهِقَة، التي تؤدّي دورها كرم طاهر، عنواناً له. ابنة المختار (أشرف برهوم)، المتمرّدة على تقاليد ذكورية في بلدة ريفية، تجد نفسها فجأة وحيدة ومعزولة عن لحظة الانقلاب ذاك، الذي سيُعرف لاحقاً بـ”نكبة 1948”. يهجم جنود صهاينة على البلدة، فيُدخِل المختار ابنته الوحيدة إلى حُجرةٍ في باحة المنزل، حمايةً لها من بطش العدو، فهو ذاهبٌ إلى المعركة، لكنّه يعدها بعودة قريبة لإنقاذها.

هذا الاختزال الحكائيّ غير لاغٍ تفاصيل مختلفة، تتعلّق بالسينما والواقع واللحظة. تريد فرحة إكمال دراستها في المدينة، لكنّها تواجَه برفض والدها، الذي سيرضخ لمشيئتها قبل وقتٍ قليلٍ على نكبة البلدة، ونكبة فلسطين. لها عمٌّ (علي سليمان) يدعمها للغاية. حضوره في المشهد، سينمائياً بالنسبة إلى الفيلم وحياتياً بالنسبة إلى فرحة، عابرٌ وقليل، لكنّه يقول شيئاً أساسياً: هناك وعيٌ بأهمية علمٍ ومعرفة، وهناك ضرورة للعلم والمعرفة، للفتاة كما للفتى. النكبة تحول دون تحقيق حلم العلم والمعرفة، لكنّها تمنح فرحة (كما يبدو) شيئاً أهمّ وأعمق من العلم والمعرفة، من دون أنْ يُلغي هذا الشيء الحاجة إلى العلم والمعرفة: اختبارٌ حياتيّ يضع فرحة أمام ذاتها وروحها وجسدها، في لحظة خرابٍ يحلّ على بلدة وناسها، وعلى اجتماع وناسه.

اختبار حياتي يُصنع لفرحة في حجرةٍ مُعتمة، والأصوات الآتية إليها من الخارج تُضفي على العتمة مزيداً من وحدة وخوف وقلق، وتحريضاً ـ في الوقت نفسه ـ على مواجهةٍ، وعلى محاولةِ كسر الوحدة والخوف والقلق. مشاعر كهذه تساهم في تحويل فرحة من مُراهِقَةٍ إلى امرأة، تنظر بعينيها ـ من ثقب باب أو جدار ـ بعضَ ما يجري في باحة منزل الأهل، وتُعاين بانفعالاتها ملامح من الحياة، تنكشف أمامها في عتمة الحجرة، فتصنع منها إنساناً مختلفاً، يستمدّ من قوّة شخصية المُراهِقَة قبل النكبة إضافةً حيوية وعميقة إلى قوّة شخصية المرأة التي يُفترض بفرحة أنْ تُصبِحَها، مع خروجها من الحجرة وعتمتها إلى الحياة وعتمتها، التي يصنعها احتلالٌ صهيوني، بإنشائه كياناً محتلاًّ، اسمه إسرائيل.
 

الحجرة، إذْ تُصبح ملاذاً يحثّ فرحة على اختبار ملامح الحياة المقبلة، تُشكِّل مساحة تمرينٍ لكرم طاهر، تُتيح لها أنْ تكشف حِرفية أدائية لديها، تتلاءم ومُراهَقَتها أولاً، وتتوافق ومُراهَقَة فرحة أيضاً. الاشتغال السينمائي في الحجرة نواةٌ جوهرية للنصّ والتمثيل والتقنيات، المندرجة كلّها في سياقٍ يروي، من داخل الحجرة، شيئاً من لحظة الانقلاب العام، ويقول بعينيّ فرحة وانفعالاتها شيئاً كثيراً من تبدّلات ذاتٍ ونفسٍ وروح، تؤدّيها كرم طاهر بكلّ ما تملكه من حماسةٍ وانشغالٍ عميق بالبناء الدراميّ والإنساني والاجتماعي لفرحة، ولمحيطها، ولما يجري حولها وفيها.

منذ دخولها إليها، تُصبح الحجرة خشبة مسرحٍ، يُتيح (المسرح) لكرم طاهر اختبار التمثيل في فضائه المُغلِق، وتُترجِم فنيّات عدّة ـ التصوير (راشيل عون) والتوليف (بيار لوران) والصوت (رنا عيد وفلوران لافالّي) مثلاً ـ شدّة انغلاقه: عتمة، وظلال، ومساحة ضيّقة، وأشياء قليلة تُعين على عيشٍ غير معروفة مدّته فيها (الحجرة)، وصمتٌ شبه مطلق، مع أصواتٍ قليلةٍ تقول إنّ أحداثاً تجري في الخارج، وإنّ أناساً يُقتَلون  يُعذَّبون، ويحاولون نجاةً من موتٍ وتعذيب. اختبارٌ تُبدي طاهر تمكّنها منه، باستعانتها بذاتها، جسداً وحركة وتنهّداتٍ وانفعالاتٍ إزاء ما تسمع وما ترى، كأنّها تخترق العتمة بأداءٍ يُضيء تلك المساحة الضيّقة، ويُحطّم جدرانها، كاشفاً براعة تمثيلٍ يعكس وحدةَ مُراهِقَةٍ، يُفرَض عليها فجأة أنْ تتعامل مع أمورٍ، لن يكون سهلاً التعامل معها، لما فيها من تغيير جذري وفجائيّ في مسارٍ وإحساسٍ ومعايناتٍ وتحوّلات.

كرم طاهر، بتمرينها التمثيلي في الحجرة، تُتقن معنى الصمت كلغةِ قول وتعبير وتفاعل، وتُدرك أنّ الخارج ـ بعنفه وانهياره وخيباته (رغم عدم شعورها بهذا كلّه، إلاّ مع مرور وقتٍ وبعد خروجٍ من الحجرة) ـ لن يكون كعهدها به، إذْ تعكس عيناها قلقاً يتجاوز الخوف والارتباك إلى الأبعد والأعمق منهما: هناك مصيرٌ غامضٌ لها، وهناك انتظارٌ مُعلَّق لأبٍ، يعدها بالعودة.
 

في الحجرة نفسها ـ بالتزامن مع لحظات القلق والخوف والارتباك والغموض والانتظار ـ تغتسل فرحة، فالخروج ولادةٌ، رغم انعدام كلِّ فرحٍ، إزاء نكبةٍ تُصيب عائلةً صغيرة، فيختفي الأب، وتتمزّق الابنة قبل ولادتها الجديدة؛ وتُصيب بلداً، يهرب كثيرون منه خوفاً وارتباكاً، قبل أنْ تكون الولادة الجديدة عيشَ مصيرٍ آخر. هذا ينكشف بأداءٍ يقول إنّ العفوية أساسٌ، لكنّ تمريناً تمثيلياً قادرٌ على صقله، معطوفاً على حيوية شابّة صغيرة السنّ، وحماستها في اختبار كيفية إزالة كلّ فاصلٍ بين أداءٍ وعيشٍ.

لكنّ كرم طاهر لن تحصر جمالية أدائها في الحجرة فقط. قبل بدء الهجوم على البلدة، تعيش فرحة حياةً صعبةً، رغم تمكّنها من إشاعةِ مناخٍ من هدوء وفرح وصداقة وأحلام وطموحات. الارتباك حاضرٌ، فالرغبة في إكمال الدراسة في المدينة تُلحّ عليها بقوّة، والأب المختار يتريّث في الموافقة، فالتفكير الجمعيّ يقول بضرورة زواج الابنة، وهذا أهمّ، ما يوقع فرحة في قلقٍ دائمٍ. أخبار النزاعات المسلّحة تصل البلدة، ومسلّحون يُريدون من المختار دعماً، لكنّه يخشى على البلدة وناسها، قبل الهجوم الصهيوني عليها وعليهم. في هذا كلّه، تُعيد دارين ج. سلاّم (كاتبة السيناريو أيضاً) رسم مناخٍ وبيئة واجتماعٍ وعمارة، تقول كلّها إنّ ما يظهر على الشاشة الكبيرة يعكس شيئاً من فلسطين عشية نكبتها. وفي هذا كلّه أيضاً، تمهِّد كرم طاهر لأدائها في الحجرة، إذْ تُظهر كلّ التناقضات التي تعيشها مُراهِقَةٌ، تريد العلم والمعرفة، وتواجه سلوكاً ذكورياً بتمرّد وعدم انصياع لرغبات أفراد مختلفين، وتحتمي بصداقةٍ، وبعمٍّ يُدرك أهمية ما تريده فرحة وضرورته، فيدعمها.

تقول دارين ج. سلاّم، في تصريحاتٍ صحافية، إنّ تصوير “فرحة” ـ المشارك في قسم “اكتشافات”، في الدورة الـ46 (9 ـ 18 سبتمبر/ أيلول 2021) لـ”مهرجان تورنتو السينمائي الدولي”، والمُختار رسمياً في الدورة الـ16 (14 ـ 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لـ”مهرجان روما السينمائي الدولي”، إلى مهرجانات أخرى ـ حاصلٌ في “مواقع بكر في الأردن”، وإنّ المواقع مبنيةٌ بشكلٍ يسمح بـ”خلق فلسطين عام 1948 بمصداقية”، وهذ مُطبّق أيضاً في تصميم الملابس وتصفيف الشعر وتشييد الديكور (إنتاج ديمة عازار وآية جردانة وويليام جوهانسن كالِن). هذا يصنع “فرحة”، المحتاج إلى تكثيفٍ دراميّ أكبر وأعمق لجزءٍ من بدايته، يتعلّق تحديداً بتقديم الشخصيات وأحوالها ومسالكها وأنماط تفكيرها وانفعالاتها، وبتقديم البلدة ويومياتها وأساليب عيشها وعيش ناسها، وبتقديم أفرادٍ يُحيطون بفرحة، ويرتبطون معها بعلاقاتٍ مختلفة (أهل، أقارب، صديقة، زميلات دراسة في مدرسة البلدة، إلخ.).

رغم هذا، يُصبح “فرحة”، بما فيه من جماليات عدّة، شهادة سينمائية عن لحظة تاريخية مصيرية، وعن مصائر أناسٍ، وعن آلية اشتغال سينمائي.
 

The post “فرحة” لدارين سلاّم: حِرفية أداء عن لحظة تاريخية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>