الشعر الفلسطيني وأوجه النقد

2016-11-19 05:46:33

الشعر الفلسطيني وأوجه النقد
محمود درويش

غالباً ما اقتصرت التناولات النقدية للقصيدة العربية الحديثة عموماً والفلسطينية منها بخاصة على تبسيط النصوص، ومطاردة معانيها، ضمن تقسيمات "مدرسية" تقوم على "ثنائيات شعرية"، تحيلنا إلى قراءة بائسة في فهم الشعر ونقده، مبنية على نزعات شكلانية في النظر إلى الفعالية الشعرية ضمن حدود ملامساتها الخارجية، ووظيفتها الاستعمالية. إذ يستغرقها البيان البلاغي القديم والقائم على النظر إلى الشعر كوصفٍ في الكلام لا التأسيس فيه، وبالتالي يصبح القول الشعري في تضاعيف هذه النزعات وقفاً على ثنائية الشكل والمضمون، حيث يعثر الشكل على قيمته من خلال ضبط أوزان الخليل وتفعيلاته، وزخرفة اللغة، وجزالة ألفاظها، ومتانة تراكيبها، ورصانة أسلوبها وعاطفة شاعرها، ويتعرف المضمون على صورته في تصديه "بانفعالات جياشة وفوارة" للقضايا الشمولية، فيتعكز التشكيل الشعري على تحديداته المسبقة هنا بدلاً من الحالة، وعلى المألوف والمعطى والنمط بدلاً من المبتكر والمدهش والمتفرد، فتغدو اللغة الشعرية مجرد وسيلة للإفصاح عن مشاغلات الحواس الخارجية، تقول أكثر مما تكشف، وتنظم أكثر مما تعبر، يلوكها غبار العموميات ويستغرقها الركض خلف الإيقاع الخارجي دون أن تتجاوزه، فتهيمن الذاكرة على حاسة التخييل، والفكرة المسبقة على الحالة الشعرية، وتبنى الصور الشعرية بعين العقل، وتخفت الإضاءات الداخلية للغة، ويعلو الصوت الخارجي على صمت الداخل وتأملاته، فلا يذهب النقد إلى جوهر البناء الشعري ونواظمه الجمالية، بل يكتفي بما هو منجز ليتناسب مع حدود معرفته للشعر ونقده.

كثرت الدراسات التي تناولت تجربة الشاعر الراحل محمود درويش على سبيل المثال بين توثيق وتصنيف ومتابعة، ويلاحظ في أغلب ما كتب وقيل، التركيز على تفسير النصوص وإحالتها إلى مصادرها الثقافية وسياقات مرجعيتها المعرفية، وتوظيفها، وإشكالية الآخر فيها، وتماهيها مع القضية الوطنية و.. الخ.

ولا أظن أن شعرية محمود تتأتى من خلال موضوعاتها على أهميتها، ولا من خلال ترسيم العلاقة مع الآخر، وانعكاساتها في شعره، بل أجد من الأهمية بمكان النظر العميق إلى تطور التجربة من حيث تشكيلها الشعري، وعدم الاكتفاء بالتوصيف والتصنيف للنواظم العامة الخارجية.

بل الدخول في مستويات الكيفية التي يشكل فيها الشاعر قصيدته، وهي التي تحدد خصوصية الشاعر وتميزه - إن وجد - وهي وظيفة النقد الحقيقي التي لا تضيء التجربة وحسب، بل وتساهم مساهمة كبرى في تطورها إن استطاعت، ذلك وهذا ما افتقده شعر محمود درويش، ولازال مركوناً باسم المقاوم حينا وباسم فلسطين في أحايين كثيرة داخل لوحة الشعر العربي .

وإذا كانت مثل هذه السمات لها ما يبررها في انطلاقة العمل الفلسطيني المسلح لإيصال صوت فلسطين إلى العالم، إلا أن استمرارها وإلى وقت غير قصير في المشهد الشعري الفلسطيني قد قلل كثيراً من جمالية هذا الشعر، وأهميته في خارطة الشعر العربي وإضافاته

فنحن أمام كتابة شعرية لعبت دوراً رئيسياً ومفارقاً في جماليته للسائد في الشعر الفلسطيني، واحتشاده العارم بمفردات الموضوعة، السياسية لا الرؤيا السياسية، فالمباشرة و"التعبوية" و"الإعلامية" و"التبشيرية" وهذه بعض سمات ذلك النمط المأسور بتناولاته، والمختزل عالمه ضمن حدود منظور إيديولوجي معطى مسبقاً، يعيد اجترار مقولات البيان السياسي، وفق ثنائية أحياها التكرار (الفلسطيني البطل والفلسطيني الضحية) غافلاً أو متغافلاً عن قارته الداخلية، ومكنوناتها الإنسانية العميقة، قافزاً عن كلّ المتغيرات التي حدثت وطالت أبجديات تحديداته الأولى، ومفردات واقعها… بدءاً من العلاقة مع مفهوم الوطن وليس انتهاءً بالنظر للفلسطيني ككائن بشري غير مجرد، يضعف ويحب ويضجر ويقرف و.. إلخ.

وإذا كانت مثل هذه السمات لها ما يبررها في انطلاقة العمل الفلسطيني المسلح لإيصال صوت فلسطين إلى العالم، إلا أن استمرارها وإلى وقت غير قصير في المشهد الشعري الفلسطيني قد قلل كثيراً من جمالية هذا الشعر، وأهميته في خارطة الشعر العربي وإضافاته. إذ يذهب النقد الشعري الراهن في غالبيته إلى ثنائية قلّما انحاز عنها - المديح الجاهل والهجاء الأعمى - محيلاً بذلك الرؤية والرؤيا إلى سياق ثقافي مسيطر في الذهنية العربية القائمة، بنته لغة خطاب إنشائي يبدأ من الآخر وينتهي إليه.

إذ لا تجد الذات حضورها إلا من خلال خارجها، لا من داخلها، متوضعة في شوائب الواقع وحسّيته، لا في مضمره أو تشكّله المتخيل الجديد..

ولذلك تُعيد ما قيل عنه، لا ما يعتمل فيه، فيبقى الكلام في حدود المتصوَّر المنجَز، والمُقال، أكثر من الممكن فيه.. ويغدو الناقد وسيطاً بين الشاعر والقارئ، مفسراً النصوص بقوالب جاهزة ومعطاة سلفاً، تصلح لكل النصوص، ولا تصلح لشيء بآن. تأتي أغلب القراءات النقدية التي تناولت تجربة الشاعر محمود درويش في هذا السياق، لتؤكد دوماً على بلاغة نقدية جاهزة (الانتماء للأرض والإنسان والدفاع عن القضية الوطنية، والغنائية العالية المدهشة والصور الحاذقة، والموسيقا العذبة و.. الخ. أو العكس تماماً كما يسعى البعض إلى مطاردة مواقف الشاعر السياسية والتباساتها، ليسقطها على النصوص مشككاً، ليس في جمالية النصوص الشعرية وحسب، بل وفي وطنيته أيضاً، وفي الحالتين تمارس هذه الكتابة بؤساً نقدياً مطبقاً، يجد مرجعيته في عقل إلغائي يتماهى مع تصورات ذاته، ولا يبصرها إلا من خلال ذوبانه في الآخر أو رجمه بكلِّ عداوة ممكنة، ناسياً أو متناسياً مساحة الاتفاق والاختلاف في القراءة، ونسبيتها الموضوعية.

لأن إعادة تشكيل النص نقدياً تستدعي القدرة على التقاط الغث من السمين فيه - إن صح القول - وإظهار ثقافته، وتبيان مستوياتها، وإدراك بنائيته الجمالية، دونما دعاء بالقول الفصل إذ غالباً ما نطيع الشعر أكثر مما نستطيعه مادام هو "الكشف عن عالم لا يكف عن الكشف" بتعبير "رينيه شار" نظراً لدينامية لغته، وسعة آفاقها، وتغير تناولاتها بتغير المعطيات حولها، فيقول الشعر تجلياته المتواصلة في صيرورتها الممكنة دون حدود قصوى ونهائية، وبالتالي لا يمكن القطع في الرأي النقدي، ومعياريته.

فلا تأخذنا غواية الامتلاك وتدفعنا إلى "أصول" في المحاكمة النقدية وممارسة استبداد على رؤية ومعالجة النص الجمالية للمعطيات، فأدوات الشاعر، وطريقة تعامله مع الموجودات حوله، ورؤيته "للحفر" في الكلام هي "مربط الفرس" ولها الأولوية في النقد الشعري كما أعتقد. ولا نجد غضاضة في الاعتراف بأن بعض التجارب الشعرية تملي على النقد غوايتها وتدفعها لقراءة مغايرة، بل وتدفعنا بقوة إلى المساءلة من داخلها، وهذا النقد لا يستحضر من الغائب أو المسبق المعلّب ضمن منهج قائم ومطمئن بل تفرضه بصيرة الشعر والناقد معاً، في التناغم والتواتر والاختلاف داخل فضاء النص الشعري النقدي، فالنقد هنا يتوغل في نسيج البناء ليقول كيفيته كوجود ووجوب، والاختيار النقدي لتجربة دون أخرى لا يعني بالطبع اختصار الحدائق بوردة واحدة مهما حملت من رائحة مشتهاة، إنما هو السعي لوصول مجرى نهر كبير لا التحديق في ضفة من ضفتيه.