مخيم اليرموك دائماً وأبداً

2016-12-17 07:14:02

مخيم اليرموك دائماً وأبداً
مخيم اليرموك

هُزمَت حلب.. كل قولٍ أمام مصابها الجلل مجرد ضرب من الحمق. ما زال جرحها طرياً، والحال أنه جرح غير قابل للشفاء. لننحني لعظيم مصابها ولنصمت في حضرة ألمها.. ولكن علينا اليوم أن لا ننسى ذكر مخيم اليرموك أيضاً. اليوم يكون قد مضى على نزوح أهله منه أربع سنوات، وما زال جرحه ينز، وسفر الخروج من حلب الآن يعيد إلى الأذهان سفر الخروج من اليرموك، ويؤكد أن خارطة البلاد ما زالت تُرسَم بحزِّ الرقاب وتقطيع الأوصال.

لا شك أن الفلسطينيين تعلموا في تغريبتهم الطويلة دروساً عديدة، كان واحداً منها أن الخطر لا يأتي من جانب الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل من جانب الحكومات والجيوش العربية أيضاً، ولعل هذا الخطر قد فاق في بعض المرات الخطر الإسرائيلي نفسه على مستقبل القضية الفلسطينية. عاش الفلسطينيون في مخيمات شتاتهم مآسي غير قابلة للنسيان، حُفرت في ذاكرتهم ووسمت وعيهم بطابع مأساوي. وكان لهم نصيب من القتل والدمار والتهجير في الثورة السورية.

يشكل مخيم اليرموك الذي أقامه الفلسطينيون منذ عام 1957 مركز التجمع الأكبر للفلسطينيين في سورية، فقد وصل عدد سكانه في العام 2011 إلى 800 ألف نسمة من بينهم 220 ألف فلسطيني. بذل المخيم الدماء في الثورة السورية بوصفه جزءاً من النسيج السوري، يحمل همومه وأفراحه ويقاسمه النزوع إلى الحرية. في تموز 2012  قتلت قوات النظام شباباً فلسطينيين في مظاهرة صغيرة في شارع فلسطين، تم دفنهم في اليوم نفسه، لكن أهالي اليرموك خرجوا في اليوم التالي لتشييعهم. تحول التشييع إلى مظاهرة ضخمة حشدت عشرات الآلاف، كانت أكبر مظاهرة تشهدها العاصمة السورية حينها. يومها ابتسم المخيم فعبست دمشق. دخل المخيم في طريق لا عودة فيه إلى الوراء، ولا يسمح بسياسة النأي بالنفس أكثر من أي وقت مضى، صار من الضروري لدى النظام بترِ يدِ الفلسطينيين وإخفاء أصواتهم أسوة بالمعارضين السوريين. وهذا ما تجلى في يوم 16/12/2012 المفصلي في تاريخ المخيم، إذ قامت طائرة الميغ بقصف قلب المخيم عصراً في منطقة جامع عبد القادر الحسيني، وانهمرت عليه بعدها قذائف الهاون مساءً. استشهد نحو 200 شخص في ذلك اليوم، وكان النظام في اليوم السابق قد ضرب المراكز الطبية. كانت مجزرةً تهدد بمجازر قادمة، وتتوعد الفلسطينيين بالمزيد من القتل والدمار.

أصبح الآن لما هو خارج فلسطين خارجاً أيضا، "داخل اليرموك/ خارج اليرموك". حتى أجيال الفلسطينيين الذين ولدوا في سورية وأصبحوا فلسطينيين سوريين، أدركوا القيمة المعنوية لمفاتيح بيوت أجدادهم في فلسطين أكثر من ذي قبل، فهم أيضا أخذوا مفاتيح بيوتهم معهم خارج المخيم

بعد ضربة الميغ القاسمة لقلب المخيم وانهمار قذائف الهاون، أصبح وجود كل فلسطيني في المخيم مرهوناً بحد السيف. البقاء تحت القصف أم التشرد في الشام التي تقدم فروض الطاعة للنظام كعادتها؟ الحياة أم الموت؟ كان الذعر سيد المشهد. لأن الجميع يعلم أن "الأسد أو نحرق البلد" هو نهج وشعار النظام، من جهة أخرى، لا تمثيل واضح من جهة المعارضة التي بدت أنها ستتخذ من المخيم جبهة طويلة الأمد لا ممراً كما ادعت. خرج أهالي اليرموك أفواجا بعد ضربة الميغ بيوم، فكان النزوح الكبير. يومها عبست دمشق مرة أخرى في وجه المخيم، بعد ذلك بأشهر دخل المخيم في حالة حصار وتجويع وكان عدد سكانه حينها يفوق المائة ألف.

أصبح الآن لما هو خارج فلسطين خارجاً أيضا، "داخل اليرموك/ خارج اليرموك". حتى أجيال الفلسطينيين الذين ولدوا في سورية وأصبحوا فلسطينيين سوريين، أدركوا القيمة المعنوية لمفاتيح بيوت أجدادهم في فلسطين أكثر من ذي قبل، فهم أيضا أخذوا مفاتيح بيوتهم معهم خارج المخيم. بدأ المكان هنا يزداد رسوخاً وتوسعاً في الوجدان والذاكرة، في الوقت الذي يدمّر وينهب فيه على أرض الواقع. أخذت آمال أهله بالعودة إليه بالانحسار أمام فشل المفاوضات السياسية واستمرار الحصار، بدى أن الأمل مجرد وهم فصار قتله ضرورة، صار المخيم "حاضراً/ غائباً" بصورة حادة. من بقي داخله عانى أشد الأوضاع الإنسانية ضراوة وبؤساً، وزاد من سوء حاله دخول الوباء الداعشي إلى المخيم عام 2015 ومن خرج منه عاش على الرمق القليل، ولم يسلم من الاعتقال والتهجير والقتل.

بدأ فلسطينيو اليرموك يؤرخون لحياتهم بما بعد النزوح وما قبله. دخلوا بعد النزوح في حال من الكآبة العميقة والحداد على مخيمهم، طال أثرها جميع أوجه نشاطهم، وكان من العسير عليهم تجاوزها، ولعلها غير قابلةٍ للتجاوز، فمصابهم جلل وشتاتهم يزداد توسعاً. كان المخيم وطناً آخر يُسلب من الفلسطينيين، أما في وجدان أهله فهو وطنٌ متجذرٌ دائم، يضاف إلى مجموع الأيقونات الفلسطينية، ولا يُقام الحداد عليه.