قراءة نقديّة ثقافيّة لفيلم Birdman

بيردمان وأزمة الهويّة لدى البطل الخارق الأمريكيّ: مرثيّة الفردوس الأرضيّ

2016-08-19 05:45:21

بيردمان وأزمة الهويّة لدى البطل الخارق الأمريكيّ: مرثيّة الفردوس الأرضيّ
من الفيلم

يعطينا الإفتراضي فضاءً مزعومًا للوجود وللبطولة، فكل منّا في الفضاء الإفتراضيّ الأزرق له مِنبر برسم "حرية التعبير"، لم يفعل شيئًا ليستحقه، بل مُنح له، فبات عليه أن يملأه بأناه أيًا كانت (ماتحوَّل إلى ما يقرب المرض)، وأن يقول للعالم "ها أنا ذا" لا لذاتي لكن لصورتها!!

الحب

في فيلم Birdman للمخرج أليخاندرو جونزالي إيناريتو، والحائز على جائزة الأوسكار في 2015، وهو من بطولة مايكل كيتون في دور الشخصيّة الرئيسيّة "ريغان" و"بيردمان"، يتكرر التساؤل: "عندما نتحدث عن الحب، ما الذي نتحدث عنه فعلًا؟" في أكثر من موضع، سواءً في السرد والحوار بين الشخصيّات، أو في مشاهد –متكررةــ بعينها، ما يجعلها محفورةً في الذاكرة البصريّة النشطة للمتلقي/المشاهد على طول الفيلم (تلك الذاكرة المنتهكة في عصر الصورة والإتصال عمومًا، والشديدة التوتر في الفيلم نظرًا لاستخدام كاميرا واحدة متحركة على طول الفيلم دونما تغيير)، وبالذات إذا أمعنّا النظر في كل الشحنات الدرامية حيث يرد ذلك التساؤل في الحوار أو في الصورة/المشاهد، إذ أنها محتدمة ومكثفة؛ يستمر كل ذلك حتى وفاة "البطل" في آخر الفيلم و/أو إختفائه دون أي نجاح يُذكر في الإجابة عن هذا السؤال المُعلق والمُستحق (جدير بالذكر أن الأبطالَ الخارقون عمومًا لا يموتون ولا حتى يختفون، "هم دائمًا موجودون" في مكان ما، ينتظرون اللحظة المناسبة). بل إنّ تفاقم هذا السؤال على طول السرد، يزيد من حالة الوحدة التي يعانيها "البطل" "الخارق"، التي سرعان ما تزداد وطأة مع الوقت (على بيردمان والمشاهد حصرًا) وصولًا إلى محاولته الإنتحار، وحتى هذه يفشل فيها، وهو ذاته الذي تندر على "غبي، لا يمكنه حتى التصويب على رأسه"؛ كيف يمكن لبطل خارق أن يكون وحيدًا بائسًا لهذه الدرجة –من الغباء-؟ كيف لبطل خارق أن يموت وأن يختفي بعيداً عن مقولة نيتشه عن "السوبرمان" الذي لايموت؟

من هنا يأتي زخم إنهيار الرمز، لدى مناقشة حالة الوحدة و/أو التوحد التي أصابت البطل الخارق "بيردمان" بكل هذا الحمل الرمزي الذي يمثله، والذي تمثله الثقافة التي أنتجته، بل وأكثر من ذلك، أمام حجم الإستبداد الرمزي الذي يسقطه علينا "البطل الخارق"، وبالذات أمام سؤال بدائيّ جدًا وأساسيّ جدًا وهو "الحب".

"الحسب والنسب"

من وإلى المخيال الجمعيّ أنتجت الثقافات رموزها، لتبني من خلالها هويتها، من خلال "سياسات الهويّة"، وهو ما تحدث عنه بشأن الهوية الثقافية الأمريكية الباحث عبدالله الغذامي بـ"الحسب والنسب" في كتابه "القبيلة والقبائلية أو هويّات ما بعد الحداثة"؛ فـ"حَسب" الرجل الخارق كمثال سوبرمان وبيردمان وغيرهما (أي ما يُحسب له)  قوته الخارقة لإنقاذ "المظلومين"، أما وأنه أمريكيّ أبيض، صناعةً وفاعليةً ولغةً ووجودًا، فهذا هو "نَسب"ـه (ما يُنسب البطل إليه). أولم تقم الذات الأمريكية (النسب) سرديًا على فكرة البطل الخارق المحرر حامل شعلة الحضارة والتنوير، ذو الصفات الكاملة، والقوى الخارقة، والبنية التامة البهيّة، المحبوب من العالم/الكون، وتحديدًا المجتمع الأمريكي (الحسب)، في امتداد للسردية الإمبريالية الأوروبية (بحسب تعبير إدوارد سعيد)؟!

حينما يفقد بيردمان "حَسبه" يفقد "نَسبه" كذلك، وتعتريه غُربةٌ ووحشةٌ قاتلة؛ إذ يعاني بيردمان الوحدة والعزلة، والتجاهل من العالم المحيط به، فالعالم/أميركا الغنية البيضاء تحب أبطالها الخارقين لأنهم أبطالها، وليس لأنهم "أبطال"، بمعنى آخر لأنهم يحسبون لها، لذا هم ينتسبون إليها، (الحسب و النسب) وليس العكس. يمكننا القول، عندما فقد بيردمان تلك القدرة، أو لا تعود هناك حاجة إليها، يُنسى ويُهمل، تلك القدرة التي عبر عنها صوت مايكل كيتون/"بيردمان" الداخلي إذ قال له: "لولاي فلا وجود لك!"، وهو نفس ما قالته له الناقدة في المقهى وإبنته: "أنت بطل لحفنة من الأغنياء البيض"، تلك هي الشَرطيّة اللازمة: القوة/الوجود هي التي تجعل التساؤل المعلق عن الحب، وهو تساؤل في حالة "بيردمان" أقرب للاستجداء الذي عراه تمامًا في مشهد دخوله المسرح من باب الجماهير عاريًا إلا من ملابسه الداخليّة، وكأنه يقول لهم: "ها أنا منكم عاريًا عن قدراتي الخارقة، فلم لا تحبونني؟!، ثم يعترف "أنا غير موجود"!!، هذا الجمهور ابن هذا المجتمع الذي حماه هو بقدراته الخارقة؛ أوليس الحب حقًا إنسانيًا خالصًا ومشروعًا بل ومفهوم ضمنًا لا حاجة له للإستجداء أو لقدرة خارقة ليستحقه الإنسان؟!، من وجه المفارقة الآخر: ألا يستحق ريغان أن نحبه حتى لو لم يكن بيردمان؟ أولم يسرق بيردمان إرادتنا الحرة وحق ريغان المستقل في أن يُحب؟ هذا هو إستبداد الرمز/البطل الخارق بنا.

الأبطال الخارقون الذين أنتجتهم الثقافة الأمريكية –ونميل للقول بأنها تقوم عليهم كذلك- يحملون ما أسماه إدوارد سعيد في كتابه "الإستشراق" "حِمل الرجل الأبيض"، لكن في الحالة الأمريكية، فـ"حِمل" الرجل الأبيض الأمريكي ليس موجهًا –كما كان بالنسبة للأوروبي- تجاه الآخر الملوَّن فقط، ولكنه أيضًا موجه للمؤسسة/الدولة الأمريكية، فالبطل الأمريكي الخارق (فعليًا سوبرمان ليس حاملًا لجواز سفر أمريكي ولكنه أمريكي!!) دومًا يُتِم ما لم تستطع مؤسسة الدولة إتمامه، فهو ليس فقط متقدمًا على المجتمع بل على الدولة كذلك، وبطريقة لا يمكننا الإعتراض فيها على عنفها، لكن السؤال ماذا لو حدث فعلًا ما أراده البطل الخارق -أيًا يكن- وانتهى الشر والأشرار، ألن يدفع ذلك بالبطل الخارق إلى المكان الذي يوجد فيه الآن بيردمان؟ حيث يتمنى وجود الأشرار والوحوش؟ ألن يحمل ذلك الموقف كمًا من الإحباط والقهر معادلًا ومقابلًا لذلك الكم من الفرحة والنشوة التي يحملها المشهد الكليشيه في جميع أفلام الأبطال الخارقين حينما يأتي البطل فجأة من اللامكان لينقذ الموقف؟! ألن يجعل ذلك من طيران الرجل الخارق (سوبرمان) فجأة فوق رؤوس الناس، وتأرجح الرجل العنكبوت (سبايدرمان) بين البنايات مشهدًا لا معنى له ولا يحمل أي قيمة تدفع الناس لرفع رؤوسها لتنظر، تماما كما حدث مع بيردمان وهو يهبط أمام باب مسرحه دون أن ينتبه إليه أي أحد؟!.

أليس هذا في حد ذاته دافعًا لنا لنتأمل مديحًا لائقًا للأشرار، ولا أصدق من بيردمان وسوبرمان وغيرهما مدائح؟ أوليس من واجب البطل الخارق والثقافة التي أنتجته، أن ينحنيا احترامًا للشرير (ذو الضحكة العالية) لأن لولاه لمات البطل الخارق منسيًا، مهضومًا بين أنياب مدننا… مثلنا؟! ألم يكن الجوكر في سلسلة الرجل الوطواط صادقًا عندما قال له: "لن أقتلك فأنت تكملني"؟!.

لنفهم معاناة بيردمان، علينا أن نتأمل ليس فقط مبدأ "البطل الخارق"، ولكن كذلك سيرورة المجتمع الذي أنتجه. يصف الراحل عبد الوهاب المسيري الولايات المتحدة الأمريكية بـ"الفردوس الأرضي" بناءً على الإدعاء الذاتي الأمريكي -وليس إثباتًا له-، أو "أرض الأحلام" / "أرض الحلم الأمريكي"، وكما الأبطال الخارقين، حمل "الحلم الأمريكي" قيمته الأسطورية عن طريق إنتاجات ثقافية غذتها المركزيّة الأمريكية خصوصًا والأوروبية عمومًا في جسد العولمة وثقافة الإستهلاك، والقيمة الأسطورية في هذا النسق للبطل الأسطوري لا تتحدد من خلال قدرته الخارقة فقط، بل بمقدار ما يجابه من أعداء، ولعل ذلك زاد الحلم الأمريكي بريقًا في الفترات التي تلت الحرب العالمية الثانية وسقوط الإتحاد السوفيتي. إلا أن هذا المفهوم يأتي معه مفهوم آخر أكثر إمتدادًا منه وهو "البوتقة الصاهرة Boiling Pot" كوصف لدينامية العلاقة بين المجتمع والفرد، حيث تنصهر كل تكوينات المجتمع معًا في "حلم" أمريكي حصرًا، ولكن هذا –أيضًا- لم يُكتب له التحقق، فتوصل الباحثون لوصف "طبق السلطة"، وهو أشمل من الوصف السابق، حيث إنفصال الوحدات المكونة للمجتمع وعدم انصهارها هو ما يعطي للمجتمع الأمريكي صفته/نكهته المميزة له، تمامًا كطبق السلطة حيث لا تندمج المكونات، ولكنها مُجتمعةً تعطي لطبق السلطة طعمه الفريد. وبالتالي فالبطل الخارق وجب أن يكون متجاوزًا لذلك الإنفصال وممثلًا له في آن، وهو ما فشل فيه بيردمان، فهو شخص هامشي في مهنته وعمله وبالنسبة لابنته وزوجته وطاقم ممثليه والوسط المسرحي في نيويورك، هو منفي بشكل ما أو بآخر عن كل هؤلاء، وغارق في صَدفته حد الانتحار؛ ألا يذكرنا هذا بارتفاع نسبة الإنتحار بين الجنود الأمريكين "الأبطال" العائدين من العراق؟!

المسرح والواقع، أو مسرحة الواقع (وليس المسرح الواقعي): عن الفيسبوك:

ثمة فكرة عكسها الأبطال في الفيلم أكثر من مرة عما أسماه أوباما في أحد خطاباته بـ"الروح الوثّابة"، إذ أن كل أمريكي في الفيلم هو فاقد لهذه الروح الوثّابة بشكل جمعي، وروحه الوثابة هي بطولة فردية له مليئة بالهزائم والنكسات، بشكل ما أو بآخر بداية من الممثلين مع ريغان في مسرحيته حيث لكل معركته الفردية، وأغلبهم مهزومون فيها مرورًا بابنته وعلاجها من الإدمان، والناقدة الممتلئة بذاتها وبطل مسرحيّته وصولًا لريغان نفسه. 

يقول باراك أوباما في مؤتمر للحزب الديموقراطي عام 2008: "لدينا أكبر جيش في العالم، وهذا ليس سر قوتنا، لدينا أضخم اقتصاد في العالم، وهذا ليس سر ثرائنا، ولدينا جامعات وثقافة نحسد عليها، ولكن ما يميزنا ويجذب إلينا هو الحلم الأمريكي والروح الوثابة والوعد"، هذا المجتمع الذي يتحدث عنه أوباما بالحلم، ووصل به الباحثون وصفًا إلى "صحن السلطة" يقول عنه أحد الصحفيين: "لكي نفهم المجتمع الأمريكي علينا أن نقرأ سفر إشعيا جيدًا"، هذا السفر المبني على المُخلص والأمم الأخرى، فماذا لو انتحر المُخلص قبل أن يخلصنا إذ عاش مُهملًا منبوذًا فاشلًا كأب وزوج وممثل ومخرج وبطل؟!!

في أحد صدامات ريغان مع محيطه وذاته، تقول له إبنته وهي تحاول إنقاذه من أزمته الهوياتيّة: "أنت تحاول أن تستعيد شعورك بالأهمية، في وقت كنت فقط فيه مهمًا لمجموعة من الصبيّة البيض الأغنياء منذ 60 عامًا، حسنًا… فلتعلم أن الكثيرين غيرك يحاولون كل يوم جاهدين أن يكونوا مهمين!!"، وتكمل في موضع آخر مستغربة: "أنت حتى لا تملك صفحة على فيسبوك!!"، أتراها قصدت إمكانية أن يكون الفيسبوك وشبكات التواصل الإجتماعي واقعًا مسرحيًا بديلًا للبطولة؟! هل تلك هي فرصة ريغان، وأي من هؤلاء الذين يسعون أن يكونوا مهمين كل يوم، أن يكونوا حقًا مهمين من خلال الفيسبوك؟!! 

أوليس هذا ما يشهده العالم من إمتصاص الإفتراضي للواقعي وتحويله إلى سلعة بصريّة ذات بعد واحد يسهل تشكيلها وتداولها والإشتباك معها بـعواطف مقتضبة ومعلبة كـ"اللايك" وغيرها من وجوه صفراء تنميطيّة؟! أوليس هذا ما حدث لريغان عندما كان عاريًا تمامًا في شوارع نيويورك، وقالت له إبنته: "لقد تحولت إلى صرعة بفعلتك هذه، الآن هم يرونك!!".

الفيسبوك هو واقعنا الممسرح، حيث لنا أن نكون فيه أبطالًا دونما أي بطولة تذكر أو تستحق، وفي سيناريوهات مونودراميّة متهافتة، فلا قرب يُبرز وجود الفرد ولا بُعد يمحي وجوده.
وإذا كانت "مأساة السجن ليست فقط في الإغلاق، بل في استباحة الفتح"، فهل وجودنا الإفتراضيّ هو سجننا الإراديّ؟ فنصير "كالمغرور الذي يشبه واجهات المحلات كما يقول نيتشه: تُرتب باستمرار وتُغيّر حسب الطلب، تخفي بعض الصفات المزعومة التي يعطيك إيّاها الآخرون، وتظهر أخرى لجلبهم نحوك، فترضى عن نفسك رضىً مُخادعًا"، مجبرون على ملء فراغ الفيسبوك حتى ولو كنّا نعلم أن ما لدينا لقوله ليس ذا قيمة.

يعطينا الإفتراضي فضاءً مزعومًا للوجود وللبطولة، فكل منّا في الفضاء الإفتراضيّ الأزرق له مِنبر برسم "حرية التعبير"، لم يفعل شيئًا ليستحقه، بل مُنح له، فبات عليه أن يملأه بأناه أيًا كانت (ماتحوَّل إلى ما يقرب المرض)، وأن يقول للعالم "ها أنا ذا" لا لذاتي لكن لصورتها!!.

 يقول أمبرتو إيكو عن الفيسبوك بأنه "منح كثيرًا من الحمقى منبرًا ليقولوا لنا حماقتهم"، بات إذاً الفضاء الأزرق مسرحًا طيعًا لتشكيلاتنا الأنويّة (من "أنا") كيفما أردنا، وكيفما أُريد لنا. أصبح كل منا يسعى للتماهي مع صورته الإفتراضية، وليست الصورة التي يجب أن تعكسنا، كم من مثقف يسبح في هذا الفضاء الإفتراضي على اقتباس لإدوارد سعيد أو شاعر مرهف الحواس وهو "ينتظرها" مع محمود درويش، كم من أمريكي بات ثوريًا بأن وضع صورة لـ"غيرينمو" (قائد أحد قوات المقاومة الهندية ضد الأمريكان) بعد أن عاد من أداء خدمته العسكرية في العراق، لعل ريغان كان أصدق منّا جميعًا في إدعاءاتنا الفيسبوكية، فهو عارٍ تمامًا حتى من بيردمان، عارٍ عن أكاذيبنا وتهويماته، كم منّا يمكن أن يكون بعريه الصادق على الفيسبوك قبل أن يقتله ذاك العُري.