عالم جديد: "صدام القوميات والشوفينيات"!

2017-01-08 16:20:12

عالم جديد:
تطريز على الخوذ . لفنانة ليتوانية

ينفتح مسرح الصراع العالمي مع السنة الجديدة على مشهد مُذهل قوامه الصعود المُتسارع للقوميات المُتشددة في معظم مناطق العالم، في مقدمتها الولايات المتحدة وأوروبا (الغربية والشرقية) وروسيا والصين. لم يشهد التاريخ المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية صعوداً مماثلاً لهذه القوميات التي تزداد حدة تطرفها وتتنافس بين بعضها في سباق لمن يصل إلى الشوفينية التامة أولاً. هناك جذور وأسباب عديدة لهذا الصعود منها فشل السرديات الكبرى لليبرالية ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والإرتدادات غير المتوقعة لتيارات العولمة الاقتصادية والتواصلية والهوياتية وما جلبته من هواجس الخوف على الثقافات والهويات المحلية، وكذا الأزمات المالية والاقتصادية التي عصفت بكثير من البلدان، إضافة إلى صعود الداعشية الدينية وما سبقها من إزدياد أعداد المهاجرين في الغرب. لا تنطبق كل هذه العوامل وغيرها بنفس الدرجة والقوة على كل حالات الصعود القومي الفاشي الذي نشهده اليوم، بل نشهد تنويعاً لحجم وأثر العوامل المختلفة بحسب الحالة والمعطيات. لكن ما يهم هنا على الأقل هو تلمس الخطوط العريضة للصعود شبه المفاجىء لعالم يطفح بالإدعاءات القومية والسياسات الحمائية وتتحفز فيه الحكومات التي تسيطر عليها تيارات يمينية شعارها الإنكفاء على الذات بدعوى الحفاظ على النقاء القومي، أو إغلاق الحدود أمام المهاجرين، أو عدم ملائمة دين ما (الإسلام في أغلب الحالات) للإندماج في الثقافة والمجتمع المضيف.

التأمل في فكرة القومية والقوميات أنهك كثيراً من المفكرين والفلاسفة ذاك أن القومية، وربما ككثير من الأفكار والبنيات الكبرى الأخرى، تحمل الشيء ونقيضه، وأهم ما تطرحه الفكرة القومية من ناحية عملية وبعيداً عن أساطيرها وحمولاتها الرمزية، خاصة في عالم ما بعد الإمبرطوريات، هو فكرة السيادة القومية واحترام الدول لسيادات بعضها البعض، وتجريم الحرب والاعتداء على السيادة (بخلاف ما كان عليه وضع العالم الإمبرطوري). وهذا السلام النسبي الذي حققته القومية على أرضية فكرة الاحترام المتبادل للسيادة ربما كان فضيلتها الوحيدة. على العموم، تعني القومية التقاء المجموعة البشرية على قواسم إثنية أو لغوية أو تاريخية أو سيادية مشتركة تعزز من التشابهات فيما بينهم والتمايزات عن غيرهم. في حالاتها الناعمة والتعايشية تصبح القوميات ثقافات تعددية تعزز العالم المتنوع والكوزموبوليتاني. أما في حالاتها الخشنة والفاشية فإن القوميات تتحول إلى وحوش ضارية لا تعرف إلا الحروب وكراهية الآخر، وإعلان تفوق الذات على الآخرين وأسطرتها بخرافات الماضي وأمجاده المنفوخ فيها دوماً.

مرة أخرى ليس التنويع الشوفيني المتعصب حكراً على الفكرة أو الإيديولوجية القومية، بل تنطبق احتمالية التطرف الشوفيني على كل فكرة كبرى تقترح حلولاً كلانية للبشر والمجتمعات والكون، بما فيها الأفكار الدينية والدنيوية. كل الأديان وبلا استثناء، طُرحت أوجه مختلفة لتفسيراتها وتطبيقات اتباعها، من التطبيق السلمي التعايشي التعارفي، إلى التطبيق الحربي الإقصائي الإنغلاقي. أتباع كل دين في كل زمان ومكان يروجون تفسيرات متناقضة تماماً، بعضها يقول أن الدين هو رسالة محبة لجميع البشر وليس مقصوراً على أتباعه، وبعضها يقول أن أتباع الدين هم المختارون والأفضل على بقية البشر، مُقدمين تفسيرات استعلاء الذات الدينية الجماعية وما يترتب عليها من سياسات وممارسات تجوز العنف وتشرعنه. داعش الإسلاموية اليوم ليست "بدعاً في الأديان" بل سبقتها داعش المسيحية وداعش اليهودية وتكمن بموازاتها اليوم دواعش أخرى هندوسية وبوذية (تستأصل بلا رحمة مسلمي مينيمار مثلاً). في الإيديولوجيات البشرية قدمت الماركسية نموذجاً آخر لتعدد التفسيرات، من الستالينية الدموية القاتلة إلى الاشتراكيات الأوروبية الاسكندنافية، وما بينهما من طيف عريض يمتد من جنوب شرق آسيا، إلى قلب إفريقيا وصولاً إلى طول وعرض أمريكا اللاينية؟  

عودة النزعة القومية الشوفينية في عالم اليوم تتصف بعدة ملامح: الملمح الأول، هو السمة العولمية إذ نحن اليوم أمام ما يمكن وصفه بـ "تعولم الشوفينيات"، بمعنى تعاضد الصعود المتسارع والمتوازي والمُدهش للقوميات المُتشددة في معظم، إن لم يكن كل، مناطق العالم. وكما هي الظاهرات المعولمة التي شهدها البشر في حقب مختلفة، يقف عالم اليوم على حافة الإنزلاق إلى حقبة معولمة جديدة محورها التقوقع القومي المتشدد على الذات وتبجيلها والإستعداد المرضي لخوض صراعات وحروب قومية تستبطن إدعاءات المجد والتفوق على الآخرين. المفارقة هنا ان لفظة "عولمة الشوفينية" تحمل تناقضا في المعنى ذاك أن العولمة تعني استبطاناً تجاوز ظاهرة ما للحدود القومية، بينما هنا نستخدمها لانتشار فكرة التشدد القومي والشوفينية في رقاع العالم العديدة.

الملمح الثاني: هو انطلاق نظرة القوميات المُتشددة لمصالح دولها وشعوبها من زاوية صارمة لا تقبل إلا الظفر والفوز بـ "الغنيمة كلها"، ولا تتعقل الصراعات والسياسة الدولية إلا بكونها معارك صفرية، لا يكون ظفر المنتصر بأي منها إلا عبر الخسارة الشاملة والمدمرة للآخرين. في كل صراع أو حتى تنافس مع الآخر ليس هناك حلول وسط يؤمن بها القومي المتشدد، بل الإجهاز على الآخر كلياً وهو الإجهاز الذي وحده يؤشر إلى النصر. الملمح الثالث يتمثل في الهوس بنوع مُحدد من القادة الشعبويين الذين لا يعترفون بالسياسة بكونها آلية لتطويق الخلاف وتسهيل المساومة والوصول إلى حلول ترضي الحد الأدنى للأطراف المتصارعة، بل ينزعون إلى الخطابية والشعاراتية وتبني سياسات قصوى تنتزع التصفيق والتأييد الغوغائي حتى لو لم تكن محسوبة وعقلانية. القاسم المشترك لهؤلاء القادة هو التغني بالهوية القومية المتمايزة تفوقاً عن غيرها من القوميات، والتحسر على المجد القومي الغابر الذي يعلن القائد المعني مهمته الرسولية بإعادة بعث ذلك المجد (بوتين وترامب وكل قادة اليمين الأوروبي، كما هم قادة الشوفينيات الدينية، ينهلون من نفس الأساطير التي تمجد الذات وتحط من قيمة الآخر).

الملمح الرابع، وليس الأخير، هو أن "العدة الفكرية" للقومية الشوفينية الجديدة مُتناقضة ومربكة إذ هي خليط من أفكار متناثرة وخلطة إيديولوجية غريبة فيها مكونات رأسمالية وماركسية، وعلى أرضيتها تلتقي تيارات وتوجهات كانت حتى وقت قريب تعادي بعضها. من جهة، هناك المدافعون عن الاقتصاد القومي المطالبون بحماية اقتصادية ضد العولمة الاقتصادية التي برأيهم أضرت بالاقتصاد القومي وأفقدته السيادة على السياسات النقدية والمالية، وعملت على تمييع الحدود والقدرة المحلية في السيطرة على القرار الاقتصادي، وهؤلاء رأسماليون شرسون. ومن جهة أخرى الماركسيون المعادون للعولمة الاقتصادية من منطلق تدميرها للطبقة العاملة في بلدانها وتعميق فقر الطبقات المسحوقة وزيادة البطالة، كما يتم التنظير. وبين هؤلاء وأولئك تنويعات مختلفة معادية للوضع القائم، أو عدمية، أو خائفة، فضلاً عن كل أعداء المهاجرين وأعداء التعددية الثقافية والدينية. كل هؤلاء يعتبر الانفتاح والاندماج في المحيط الأوسع هو جذر الخراب الذي يتعرض له "الوطن".

في مطلع العام الجديد تتمظهر عولمة القوميات الشوفينية في، وعبر التلاقي الغريب بين الرأسمالية القومية المتشددة وتنويعات من اليسار المرتبك، في بريطانيا حول الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي وفي فوز ترامب في الولايات المتحدة وفي الفوز المتوقع لأحزاب اليمين في أكثر من دولة أوروبية مثل فرنسا وهولندا والنمسا وربما المانيا، إلى جانب أوروبا الشرقية المحكومة أساسا باليمين. عام جديد وحقبة جديدة لا يبشران بالخير!