«طُبع في بيروت».. المطبعة وبيروت كوجهي المكان

2017-01-11 06:48:20

«طُبع في بيروت».. المطبعة وبيروت كوجهي المكان
من غلاف الرواية الصادرة عن دار الساقي

في روايته الأحدث "طبع في بيروت" (دار الساقي 2016)، يتحرّك الروائي اللبناني جبور الدويهي على نحو أكثر أريحية في استحضاره للمكان من خلال شخوص تتناثر على مدى زمني يصل لمائة عام. 

وببروز العناية في السرد الحسّي للتفاصيل، نزعة السخرية، سلاسة اللغة على مستوى المفردة وتركيب الجملة، والميل لجعل الفصول قصيرة (36 فصلاً)، يصنع جبور شخوصه بمخاضاتها، متتبعاً تحولات ألقها حتى خفوت نجمها. 

يفعل هذا مع فضاءاته المتقاطعة بداية من الفضاء الإنساني الأكثر حضورًا، فريد أبو شَعر، مرورًا بالفضاء المكاني بكثافة مجرياته، مطبعة كرم إخوان، وصولًا إلى بيروت كفضاء أوسع يلف الشخوص والأمكنة.

فريد الذي ذهب إلى بيروت باحثًا عن دار تنشر مخطوطة شعرية "دوّن فيها عصارة كيانه"، كما يقول، يصطدم برفض متتالي من دور النشر حيث أصبح المكسب التجاري هاجسها الأكبر: 

"أربعة آلاف دولار أميركي وتأخذ مئتَي نسخة مجّاناً.

حرّك قسماته استنكاراً فأضافت:

طباعة وصفّ وتصحيح... 

حاول الاعتراض لكنّها وقفت، أسكتته وأمسكته من يده، مشت به إلى الباب الخارجي مواسية:

لا أحد يقرأ. إمّا نُقفل دكاكيننا وإمّا نتصرّف كبنات الهوى..."

هكذا أخبرته إحدى صاحبات دور النشر.

وحين يصل إلى مطبعة كرم إخوان، تسوقه مسارات الأحداث لأن يعمل مصححاً للغة العربية في المطبعة، ومن هنا تبدأ التداعيات التراجيدية في الظهور تدريجيًا، متلّمسين شيئًا ما بين الخواء والزيف الذي لم يصب فقط المطبعة التي طورت في تزوير العملة، بل يصيب بيروت ذاتها على نحو أكثر شمولًا.

يجعل جبور الدويهي من مطبعة "كرم إخوان" التي يعود تاريخ تأسيسها لعام 1908، مكانًا رمزيًا للمكان الأكبر، لبنان بما فيه من تشوّهات وأزمات تمسك بالواقع السياسي والاجتماعي والثقافي.

 فالمطبعة "التي نشرت في لحظات بروزها الأكبر كتباً أثارت جدلاً في الدين والتاريخ والسياسة، تعبّر عن بيروت الجريئة حين سميت في لحظة من تاريخها عاصمة الحداثة العربية.

 وفي قلب ذلك المكان الذي تخلّى عن ماضيه بصورة ما، يأتي فريد متشبِّثاً بمحاولة إيجاد قدم له. "أنا أريد كتابًا من ورق"، قالها لناشر إلكتروني. 

يحمل دفتره الأحمر المحتوي على مخطوطه، يقع في حب بيرسيفون زوجة صاحب المطبعة، يكسب قوته، يتحمّل الأعباء، يتخلّى عن حلم الكتابة ويكتفي بالوظيفة "قال في نفسه إنه لن يعتاد رائحة الحبر واعتادها"، وصولًا لسجنه. مصير غير متوقع، متناقض، يشبه واقعًا تتورّط فيه، لكن لا تتجلّى الأمور لك إلا حين تتفاقم في قبحها.

سلسة من الخسارات، ليس هنالك من نجاة. مطبعة تولد مع لبنان يحترق، وشخوص يعانون من وطأة المكان، ويزيدون المكان وطأة بمعاناتهم. لكننا نرى وسط هذا اهتماماً من الكاتب بتفاصيل الكاتب، فريد.

 كيف يكتب، "يكتب فريد أبو شَعر واقفاً. سمع يوماً أن الواقف يبقى متيقّظاً فوقف. لا يكتب من خمول بل من اتّقاد حواسه... لا يشطب، ينتظر أن تحضره الكلمات، يغربلها وينتقيها، يعيد الجملة في ذهنه ويعيد ثمّ يغمض عينيه ويغوص في أعماق نفسه، يلقيها عالياً قبل أن يدوّنها بتمهّل وانضباط. يتفادى الخطأ قدر الإمكان لكنه إذا ارتكب واحداً، أو سالت من "المون بلان" نقاط حبر زائدة بقّعت الورقة، كان يمزّقها ويعيد الكتابة."

يعتقد أنه يحمل الكلام وسلطة الكلام، إنما القضية في أنّ أحداً لا يقرأ ولا يسمع. إنها أزمة الخطاب الذي يقول بتغيير العالم بالكلام، وهذا ما يبرزه الدويهي من خلال أبو شعر.

قرن بأكمله، أربعة أجيال من عائلة كرم، ومطبعة واحدة، هنا بيروت حاضرة، كثيفة.

 فنرى تنقلات المطبعة  بين الأحياء والضواحي حسب المدينة التي أخذت تتغير مرّة بعد الأخرى منذ الحكم العثماني وحتى اللحظة.

وبيرسيفون، زوجة صاحب المطبعة، تأتي من جذور يونانيّة، وكأنه تماهيًا مع الأسطورة.

تتزوّج مَن لا يميل إليه قلبها، وتنجب منه طفلتيها، ويبرز جمالها حين يكسر روائح الحبر وأصوات ماكينات الطباعة وتيه الكلمات.

تظهر التنقلات إلى الأمام والخلف في الزمن على نحو لافت، فيعطي النص بعدًا مختلفًا. يستخدم جبور التقنية لاستجلاب التشويق، ومع الفصول القصيرة، يمكن للقارئ أن يلتقط أنفاسه، مبتسمًا في هنيهات متناثرة في نسيج النص.