الماركسية والمصطلح

2017-01-14 03:11:31

الماركسية والمصطلح

نعاني في الماركسية الرائجة من مسألة تشتت المصطلحات، حيث يظهر أن الذاتية فرضت أن يُفهم المصطلح من منظور شخصي، وأن يُحدَّد معناه دون التفات إلى معناه في اللغة وفي "القاموس السياسي". ويظهر كذلك أن الأيديولوجية تفرض ذاتها على المصطلح، بحيث يخضع لمعنى محدَّد تفرضه هذه الأيديولوجية.

كل ذلك يجعل الحوار مستحيلاً، ويؤسس لسوء الفهم، وإلى التناقض بين متوافقين، بالضبط لأن كل طرف يعطي للمصطلح معناه، وحتى حين يكرر الفكرة ذاتها لا يظهر التوافق بينها، بالضبط لأن كل طرف يفهم المصطلح وفق معناه هو وليس وفق المعنى الذي يقصده صاحب الفكرة. وهذا يؤسس لحوار طرشان، أو مكلمة بلا معنى، وربما صراع بلا أساس.

لهذا لا بد من "ضبط" المصطلحات، وتحديد معناها بدقة لكي تصبح الأفكار واضحة. فالمصطلح هو أولاً كلمة هي ترميز لشيء ما، مثل الإسم، أو اللون، أو التوصيف، أو الفعل، أو غيرها. يهدف هذا الترميز الذي هو من الاكتشافات هائلة الأهمية في التاريخ البشري إلى التوافق على شيء، على معنى شيء أو اسم شيء، أو صفة شيء. وبالتالي فإن وجودها في اللغة هو من أجل تسهيل لإيصال الأفكار، وتحقيق الفهم. فمثلاً حين نقول بحر يستدعي الأمر في الذهن صورة البحر، وبالتأكيد لا يستدعي صورة النهر الذي هو شيء آخر. وحين نشير إلى الكلب يكون واضحاً لنا عما يجري الحديث. أو عن سيارة أو مترو، أو أي شيء آخر. وتخضع معرفة ذلك لتعلُّم اللغة، ومعرفة الكلمات ومعانيها.

والمصطلح ثانياً هو كلمة تحددت لمعنى محدَّد، أي باتت ترمز لمعنى محدَّد جرى التوافق عليه لكي يسهّل توصيل الأفكار، أي لكي تكون هذه الكلمة مفهومة لدى الطرف المتلقي، وبالتالي يستطيع فهم الفكرة التي يطرحها المتكلم. لهذا فالمصطلح هنا "حيادي"، أي أنه رمز يهدف إلى تسهيل التفاهم. ومن ثم فإن أي تجاوز للمعنى المحدَّد له سيفضي بالضرورة إلى سوء فهم، حيث أن المتلقي تعرّف على المصطلح بالمعنى المتداول. ففي هذا الأمر ليس من تحديد ذاتي لمصطلح بات متعارفاً عليه، وأصبح جزءاً من القاموس.

بالتالي فإن المصطلح هو كلمة بات لها معنى في الفكر السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التاريخي أو الانثروبولوجي، أو الأيديولوجي. وهذا المعنى متوافق عليه لكي يكون ترميزاً لحالة أو شيء، من أجل أن يسهّل التفاهم والمعرفة. فمثلاً إن مصطلح الدولة يشير إلى البنية التي تظهر أنها فوق المجتمع لكي تحكمه، والتي تتحدد في وجود سلطة سياسية وأجهزة أمن وجيش وبيروقراطية تدير مصالح الشعب. لكن بعدئذن يمكن تفسير كيفية نشوء الدولة، وتخدم مَنْ من الطبقات، وطابعها القمعي. فهذا مصطلح تحدّد لكي يعطي هذا المعنى، بالتالي لا يمكن أن يستخدم خارج هذا الأمر في الخطاب السياسي. ومثلاً مصطلح الشعب الذي هو مجموع الأفراد المنتمين لدولة أو لأمة. أو مصطلح الأمة ذاته، أو مصطلح الوطن.

كل هذه مصطلحات جرى التعارف عليها في الفكر، وبالتالي لا بد من التعامل معها انطلاقاً من "حياديتها"، بالضبط كونها ترميز لشيء أو حالة. أي انطلاقاً من كونها لا تحمل معنى أيديولوجياً، أو خضوعاً للخلافات الطبقية، أو بين التيارات الفكرية.

وثالثاً لا بد من ملاحظة أن لكل أيديولوجية مصطلحاتها، بعضها متداول لكنه أعطي معنى أكثر تدقيقاً، أو نشأ معها وارتبط بها بالتحديد. فحين نشير إلى الطبقة أو نمط الإنتاج أو فائض القيمة أو الجدل المادي أو المادية، أو قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، أو الطبقات والصراع الطبقي، والاشتراكية، فنحن هنا في حقل الماركسية، حيث أن كل هذه هي مصطلحات ماركسية، رغم أن بعضها نشأ قبلها. وحين نشير إلى الاقتصاد الحر واللبرلة وحرية السوق فنحن هنا في حقل الرأسمالية، رغم أنها مصطلحات ترمز إلى حالة كذلك، وبالتالي يجري التعارف عليها بصفتها هذه. وحين نشير إلى الخلافة وحكم الشرع والعُشْر والجهاد والجزية فنحن هنا في حقل الأيديولوجية الإسلامية.

وهذه كلها مصطلحات ترمز إلى حالة أو شيء أيضاً، لكنها تخصّ تيار أيديولوجي محدَّد ولا يمكن تعميمها كونها تمثّل تعبيراً "حيادياً". وعادة ما يُطلق على هذه المصطلحات تعبير: مفهومات، أو مفاهيم، لتمييزها عن المصطلح "الحيادي" الذي يرتبط باللغة أكثر مما يرتبط بأيديولوجية معينة. فمثلاً إن كلمة أمة تعني مجموعة بشرية تنتمي لإثنية ما ولها لغة واحدة، لكن هذه الكلمة تعطى معنى خاصاً في الفكر البرجوازي فيما يتعلق بأسباب وجودها والمظهر الذي يحدِّد هذا الوجود، ومعنى خاصاً آخر في الماركسية التي تربط وجودها بصيرورة تاريخية لمجموعة بشرية من "إثنية" واحدة وتتكلم لغة واحدة. ليظهر هنا أن اختلاف المعنى يتعلق بفهم نشوء الظاهرة وليس بوجودها. ومثلاً فإن مصطلح اقتصاد السوق يظهر كأساس مبدئي في الفكر البرجوازي، ومصطلح سلبي من منظور الماركسية. لكن معنى المصطلح واحد لدى الأيديولوجيتين.

لكن يظهر في الماركسية الرائجة ميل إرادوي، أو "أيديولوجي"، حيث تحمّل المصطلح عبئاً أيديولوجياً، فتحوّل معناه بشكل لا يعود فيه مفهوماً، وبالتالي يشوش على الأفكار، ويُظهر تشوش تلك الماركسية. وأبرز ما شهدناه بعد الثورات هو مفهوم الثورة ذاته، حيث أصبحت تعني ما تقول به الماركسية حول كيف يمكن للثورة أن تنتصر؟ أي ما هي الشروط التي تفضي إلى انتصار الثورة؟ وهذه الشروط هي نتاج منظور الماركسية ذاته، وتحدِّد دور الماركسية ذاتها. لقد أصبح الحكم على ما يحدث بأنه ثورة يتأسس على وجود "الحزب الماركسي"، و"القطع مع الرأسمالية"، أي أن تكون الثورة اشتراكية بالتحديد. وبغير ذلك لا ثورة ممكنة في الواقع. هنا يظهر العبء الأيديولوجي، الذي فرض تحميل المصطلح المعنى الذي تقول به الماركسية. وهو الأمر الذي يعني أنه لا ثورة إلا الثورة الاشتراكية. بالتالي بات معنى الثورة هو فقط الثورة الاشتراكية.

الثورة مصطلح سابق للماركسية بالتأكيد، وهو كلمة تعني التمرُّد أو الانتفاض ضد، ويستخدم كمصطلح سياسي بمعنى التمرُّد على السلطة، الانتفاض عليها، ولم يجرِ الاشتراط بأي شرط على ذلك، سواء كان المطلب إسقاطها أو طرح مطلب ما، أو حتى تفجير عشوائي لاحتقان. النظم المُتَمَرَّد عليها تعتبر أن ذلك هو فوضى وتمرّد، والماركسية تعتبر أنه ثورة. وهي تميّز هنا بين ثورة عفوية تنفجر من قبل الطبقات المفقرة دون تخطيط أو توجيه، ودون رؤية، وبين الثورة التي ينخرط حزب ما فيها ويقودها نحو تغيير النظام. وفي هذه المسألة الأخيرة لا يشترط وجود "الحزب الماركسي". لكن أيضاً يمكن للحزب الماركسي أن يقود ثورة هي ليست اشتراكية بالضرورة.

ورغم أن اللغة تعتبر أن الثورة والانتفاضة والتمرّد هي تعبير عن الشيء ذاته: حراك شعبي عنيف، فقد بات لكل منها كمصطلح سياسي معنى محدَّد يتعلق إما بدرجة حدة التمرّد أو شكله. فالتمرّد بات يُعطى معنى سلبياً كفعل بعيد عن الشعب (مثل تمرّد الجيش، أو تمرّد فئة ما)، وأحياناً يشار إلى حراك محدود كتمرّد، وهنا بالمعنى الإيجابي. والانتفاضة باتت تعني الانفجار الشعبي الشامل أو الجزئي. لكن للثورة معنى الحرب المسلحة ضد النظام. وقد تعني التغيّر النوعي في قطاع ما، مثل الثورة العلمية، أو أيضاً تغيير النمط الاقتصادي بلا انفجار شعبي (لهذا أُسميت بعض الانقلابات العسكرية بأنها ثورة). وفي هذا السياق توصلت الماركسية إلى أن الانفجار الشعبي وحده هو ثورة عفوية، وأن انتصار الثورة يحتاج إلى حزب يقودها، وأن الثورة الاشتراكية هي من فعل الطبقة العاملة فقط.

المشكلة ذاتها تطال مصطلح الاستعمار، فقد باتت الإمبريالية تعني الاستعمار، وهنا انسحب مفهوم الاستعمار على الإمبريالية، لكن أيضاً انسحب مفهوم الإمبريالية على الاستعمار. ماذا يعني مصطلح الاستعمار؟ رغم أن المصطلح بالعربية مشتقّ من "التعمير" فقد عنى كمصطلح سياسي الاحتلال العسكري وإخضاع بلد ما لحكم بلد آخر. قبل الرأسمالية كان الأمر ذاته يسمى فتح أو ضم في سياق تشكيل الإمبراطوريات، لكن الرأسمالية التي قامت على بناء الدولة/ الأمة أسست لأن تصبح السيطرة العسكرية على بلد ما استعماراً. هذا هو المعنى المصطلحي لكلمة استعمار، ولقد بدأ في المرحلة السابقة لنشوء الرأسمالية بشكل جزئي، وتفاقمت مع نشوئها وانتصارها في عدد من البلدان الأوروبية، ثم اليابان وأميركا بعد استقلالها. وحين تشكلت الرأسمالية كإمبريالية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان العالم مقتسماً بين الرأسماليات تقريباً، وأصبح الصراع بينها على فرض تقاسم جديد بعد أن أصبحت ألمانيا واليابان إمبرياليتان.

هذه الحالة الأخيرة هي التي جرى اختزال الإمبريالية بها، حيث أصبحت تعني الاحتلال والسيطرة العسكرية، رغم أن الإمبريالية هي تكوين اقتصادي يقوم على نشوء الاحتكار وتبلور الرأسمال المالي، الذي كان يفرض التوسع للسيطرة على الأسواق لتصدير السلع والرأسمال. وفي هذا الأمر ظهر تجاهل التكوين الاقتصادي الداخلي في تشكّل الإمبريالية والتركيز على "دورها الخارجي". وبهذا باتت الإمبريالية تعني الاستعمار كما كتب كارل كاوتسكي، وتعمم مع تيار "ماركسي".

من طرف ثانٍ، أصبح تعبير استعمار يُطلق على دول مستقلة من منظور تبعيتها. لقد انتهى الاستعمار كاحتلال عسكري بعيد الحرب العالمية الثانية وتحقُّق الاستقلال السياسي للمستعمرات (سوى بعض تلك المستعمرات، مثل فلسطين). وبهذا لا يمكن أن نتحدث عن استعمار وفق معنى المصطلح. لكن ما تشكّل في الأطراف ظل مرتبطاً بالمراكز الرأسمالية، فقد عملت الرأسمالية خلال المرحلة الاستعمارية على "تكييف" البنية الاقتصادية الطبقية عبر الربط مع اقتصاد المراكز. وكان يعني ذلك تشكيل الاقتصاد المحلي في تكوين يكمل اقتصاد المراكز ويسمح بتحقيق الريع الإمبريالي، أي نهب الأطراف، الذي تمثّل في منع نشوء صناعة، وتكييف الزراعة بما يحقق طلبات الرأسمالية ذاتها (الحاجة إلى القن والحرير، أو القمح، وغيرها)، ومن ثم توسيع قطاع التجارة والبنوك، وتشكيل برجوازية تنشط في "القطاع الثالث"، وبالتالي تترابط مع رأسمالية المراكز، بالضبط لأن مصالحها باتت في هذا الربط وليس لأنها خاضعة، ويظهر الميل للإخضاع فقط حين تتمرّد فئة برجوازية لسبب ما، وهذا استثناء في التكوين الاقتصادي الطبقي الذي تشكّل في الأطراف.

لهذا حين انسحب الاستعمار ظل التكوين الاقتصادي في ترابط تبعي مع المراكز، وظلت البرجوازية المحلية، التي هي برجوازية زراعية عقارية تجارية، معنية بالربط، بالضبط لأن ربحها يتحقق عبره. هنا بات التكوين الداخلي، في حال تُرك دون تدخلات، يعمل على استمرار الارتباط بالمراكز، وباتت الدور الإمبريالي هو تقوية الدولة لكي تكون قادرة على سحق الشعب. وضمن هذه العملية تتحقق مصالح رأسمالية المراكز والأطراف، رغم بعض الاختلاف في لحظات ضيقة يحسم من خلال دور المراكز. هذا النمط المكرَّس في الأطراف تعرّض للسقوط مع نهوض الاشتراكية في بعض البلدان، ودور الفئات الوسطى (الريفية في الغالب) في بلدان أخرى. وظهرت المواجهة كمواجهة مع الرأسمالية ذاتها، وليس مع شكلها الطرفي فقط. حيث جرت تصفية التكوين الذي تشكّل إبان المرحلة الاستعمارية، الذي كان زراعياً محكوماً لكبار ملاّك الأرض، وتجارياً بنكياً، وبتداخل هذه وتلك. وجرت محاولة بناء اقتصاد صناعي "متمحور على الذات"، لكن المحاولات فشلت، وأعيد تشكيل الأطراف كجزء من النمط الرأسمالي، عبر الربط الذي قامت به برجوازية محلية نهبت "القطاع العام"، وعادت للنشاط في التجارة والعقارات والسياحة والبنوك والاستيراد.

وبهذا أُعيد الربط في المستوى الاقتصادي، وباتت الرأسمالية المحلية جزءاً من تكوين عالمي، تنشط في "القطاع الثالث"، وهذا هو الأمر الذي يؤسس لتبعيتها، حيث أنها غير منتجة وتعمل كوسيط. ولهذا تكون دولتها تابعة للدول الرأسمالية، في ظل علاقة غير متكافئة، سواء على المستوى الاقتصادي أو المستوى السياسي. هنا بات اللا تكافؤ هو الذي يفرض هيمنة المراكز وسطوتها وليس الاحتلال المباشر. وأصبح دورها هو مواجهة التغيير في الأطراف، ومنع تمرّدها، في عالم بات موحداً تحت سيطرتها. وبالتالي اتخذ فرض "القوانين الاقتصادية" الأولوية لديها، عبر الضغط والتهديد والتخويف والتدخل عند الضرورة، لأنها تسيطر عبر القوانين هذه، المتمثلة في "حرية السوق".

هنا لم يعد للاستعمار معنى، رغم أن منظري الاتحاد السوفيتي حاولوا تسمية الأمر بـ :الاستعمار الجديد، القائم على أساس الهيمنة الاقتصادية. وهي تسمية تفتقد إلى العلمية بالتأكيد، بالضبط لأنها تخلط بين الاحتلال العسكري المباشر والربط الاقتصادي نتيجة اللا تكافؤ وهيمنة مصالح طبقة محلية تشكلت في ظل اللا تكافؤ هذا، وتشابكت مع الرأسمالية "الأم".

هذا التكوين أطلق مهدي عامل عليه اسم "نمط الإنتاج الكولونيالي"، والكولونيالي يعني الاستعماري. أي نمط الإنتاج كما صاغه الاستعمار. لكن ما يحدِّد نمط الإنتاج ماركسياً هو قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج التي تنشأ عنها، وليس من صاغ هذا النمط، أو أثّر في صياغته. خصوصاً وأن التكوين الاقتصادي اختلف بين مرحلة الاستعمار، وما بعدها، ومن ثم مرحلة ما بعد سبعينات القرن العشرين. فقد كان النمط الاقتصادي زراعياً في مرحلة الاستعمار يتشابك مع نشاط اقتصادي جديد تنامى على ضوء السيطرة الاستعمارية، هو النشاط التجاري الذي بات يأخذ أهمية متصاعدة، والنشاط البنكي والخدماتي في المدن. وبالتالي فإن اعتماد الاقتصاد على الزراعة أساساً، مع ميل تجاري متصاعد، وسيطرة كبار الملاّك، المتحوّل بعضهم (أو أبناءهم) إلى التجارة والخدمات والبنوك، يعني أن التشكيل هو تشكيل إقطاعي أُخضع لمصالح الرأسمالي الاستعماري. وربما كان توصيف ماو تسي تونغ المشابه هو الذي جعله يطلق تعبير "شبه إقطاعي، شبه مستعمّر" على نمط الإنتاج في الصين حينها. لكن التأثير الرأسمالي لم يغيّر من قوى الإنتاج، وعزَّز "القطاع الثالث" في الاقتصاد فقط، بعد منع النشاط في الصناعة. بالتالي كان النمط زراعياً مخضعاً لمصلحة رأسمال استعماري، حيث يجري تحقيق الريع الإمبريالي.

في المرحلة التالية لـ "عصر التحرر" تكيف الاقتصاد على ضوء تطور الرأسمالية ذاتها، بعد أن انتهى الإقطاع وتراجع دور الزراعة في التكوين الاقتصادي، وعاد وتراجع دور الصناعة، مع نمو كبير لقطاع التجارة (الاستيراد خصوصاً) والخدمات والعقارات والبنوك، ثم البورصة. وبالتالي سادت علاقات الإنتاج الرأسمالية دون وجود قوى إنتاج رأسمالية، بالضبط نتيجة الرابط مع المركز الرأسمالي، الذي كان يحتكر الإنتاج (حتى في الزراعة في هذه المرحلة). هنا لم يعد من موقع للاستعمار بل بات الاقتصادي هو المتحكم، وليكون دور السياسي (الدول الإمبريالية) هو الضغط والتهديد، عكس ما كان سابقاً حينما كان السياسي هو المحدِّد من خلال الاستعمار. لكن في الحالين إن تحديد النمط ينطلق من تحليل آخر.

هذا يقودنا إلى مسألة فهم نمط الإنتاج، فهو كمفهوم يخضع لسوء فهم وتشوش. ولقد أشرت قبلاً كيف ينتقل التحديد من المستوى الاقتصادي إلى المستوى السياسي رغم أن تحديد النمط خاضع للمستوى الاقتصادي الذي على أساسه يقوم "البناء الفوقي". لهذا أُطلق مصطلح كولونيالي أو مستعمر على النمط من قبل ماركسيين. فالسياسي يؤثر في الاقتصاد، وبالتالي في النمط، لكنه ليس المحدِّد له، بل الاقتصادي هو هذا المحدِّد. وهنا تنطلق الماركسية من قوى الإنتاج، أي وسائل الإنتاج وقوة العمل، ومن العلاقات التي تؤسسها، وبالتالي من "البناء الفوقي" الذي يطابق هذه العلاقات. سنلاحظ هنا أن الاستعمار هو الذي كان يشكّل السلطة السياسية التي تحكم كواجهة له على أرضية البنى الاقتصادية الطبقية القديمة، وكان مصمماً على بقائها مع التعديلات التي جرت الإشارة إليها قبلاً. بينما بعد الاستقلال تصبح الطبقة التي ترابطت مع الرأسمال الإمبريالي هي التي تحكم، وبالتالي تكون التعبير المباشر للبنية التحتية، أي لقوى وعلاقات الإنتاج. وفي ذلك التحوّل تغيّر في "التناقض الرئيسي"، وفي أولويات الصراع.

إذن، لا يمكن تحديد نمط الإنتاج إلا من خلال البنية الداخلية، انطلاقاً من قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. فهذا هو معنى نمط الإنتاج.

ربما هناك العديد من المصطلحات التي خضعت لـ "تأويل"، أو استخدام في غير مكانها، بالتالي ليس من الممكن ضبط الأفكار والتصورات دون ضبط المصطلحات.