ضمير أيقظته علبة لحمة، وضمير لا يكفيه لحم الشعب!

2017-02-01 10:53:44

ضمير أيقظته علبة لحمة، وضمير لا يكفيه لحم الشعب!
للفلسطيني إياد صباح . غزة

كانت تلزم الشاب الخلوق إسلام المقوسي، علبة لحمة واحدة ليشعر بالذنب، ويصب على نفسه البنزين داخل إحدى جمعيات تأهيل المعاقين، وسط قطاع غزة، صارخاً: سامحوني، بعد أن مارس عليه مدير الجمعية "ع.ش" بمعاونة صديقه من جهاز المباحث "س.أ" ابتزازاً ليعيد علب اللحمة التي أخذها من المساعدات في الجمعية حيث يعمل المقوسي "منظفاً" هناك.

يؤكد أقارب المقوسي وهو من ذوي الإعاقة، أنه اعترف بأخذ علب اللحمة، لكنه لم يتحمل التقريع والتهديد، فصب على نفسه البنزين في 16 من يناير الماضي، ولفظ أنفاسه الأخيرة في 30 من الشهر ذاته.

إنه الشريف المُعدم، الذي لم يشتكِ الفقر يوماً، وعمل بيأس وصمت ليتغلب على أوضاعه ومن أجل علب لحمة، تتشوه سمعته للأبد في منطقته، فآثر الخلاص.

 كم من فقير لم يذق طعم اللحمة منذ زمن، ويعاني شظف العيش وسط غلاء للمعيشة في قطاع غزة، يُقدّر شهرياً متوسط ارتفاعه بـ 0.77%، وبطالة اعتبرها البنك الدولي عام 2015 الأعلى عالمياً وقدرت وقتها بـ60%.

يوضح معارف إسلام وأصدقاؤه أن عمره لم يصل إلى العشرين بعد، وقد كان من المتفوقين في المدرسة، قبل أن تدهسه سيارة تابعة للقوة التنفيذية التي شكلتها حركة حماس عام 2006، ما سبب لديه إعاقة حركية، وتراجعاً عاماً في وظائف الدماغ، فلم يكمل تعليمه، وحاول قدر إمكانياته الجسدية مساعدة والده وعائلته عبر تنظيف المكاتب والجمعيات.

قرأتُ ذات مرة: "الأخلاق مبينة على الخيال"، أن تتخيل نفسك تقوم بالذنب أو الأذى، فتخاف منه وتبتعد فوراً عنه، كما أن الخيال ذاته يجعلك رحيماً بالآخرين، لأنك تضع نفسك مكانهم، فهل مَن سارعوا إلى إطلاق الأحكام على الشاب إسلام من وراء شاشات أجهزتهم لأنه انتحر معدومي الخيال؟ هل يكرهون الفن والتأمل وما ينمي خيالهم، فضمر لديهم ما يقربهم من الإيمان، ولم يقدروا أن يضعوا أنفسهم مكان إسلام ولو للحظات!

كان كل ما يملك إسلام هي سمعته الجيدة في حارته، وطيبته وشرف عائلته، جاء بعض المدّعين بأنهم نخبة المجتمع من أصحاب المؤسسات، وسلبوا آخر ما لديه.

 نعم لقد أخطأ إسلام، الحياة أضعفته، كل هذا الطعام للفقراء وهو الفقير لا يحصل على شيء، أخذ بعضه، كشفوه، فاعترف بذنبه، "إن الله غفور رحيم" " ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة"، لكنهم قذفوه، وزاودوا على أخلاقه.

هل توقف ظلم الشاب إسلام عند هذا الحد؟ لا، إن محاكمة إسلام مستمرة، لم يشعر أحدنا بحساسية ضميره، والجحيم الذي عاش به لذنب اقترفه، فنجد عبارات مكتوبة بكل صلف وغرور "في جهنم وبئس المصير".

لم أرَ شعباً بقسوتنا، قد نقاطع عائلته وعزاءه لأنه انتحر، إن الانتحار وصمة عار أبدية، دون أن نفكر أو نشعر بالرحمة، إنه ما وصفه أستاذنا ذات مرة "التدين الذي يحجب الدين"، فهل وصلنا إلى هذه المرحلة؟، أن نلعن شاباً لأنه سكب البنزين على نفسه بعد أن فقد كل شيء؛ جسده وماله وأحلامه وأخيراً سمعته!

حيرتي ليس حول إذا ما كان الشاب إسلام سيدخل النار أم الجنة؟ فهذا أمر الله، فهو يقول في كتابه العزيز "إن الحكم إلا لله" فهو أدرى بعباده، وإن شاء رحمه وإن شاء عذبه.

حيرتي هي كيف يسارع كل هؤلاء وجلهم من الشباب والشابات لإطلاق الأحكام الدينية في كل مرة ينتحر فيها شاب من قطاع غزة، وأغلبهم لا ينبسون بحرف إزاء من سرق شبابهم وسنواتهم وجعلهم في أشد الظروف حلكة، من حصار وفقر وغلاء معيشة وحرمان من السفر.

 يصبون جام غضبهم على شاب مثلهم، ولا يرون قادةَ شقّي الوطن ينعمون بعذاباتهم، ويتاجرون بها؛ كم من الأراضي سُرقت، ومن الأعمار ومن الأموال ومن المناصب بحجة الوطن؟ ونركض لنحاسب جميعنا هذا الشريف لأنه أخطأ وأخذ علب لحمة.

هذا العجز عن محاسبة الكبار، يجعلنا نتلذذ في تعذيب من يشبهوننا بالمعاناة، ربما هكذا ننتقم من ذواتنا، إنها إسقاطات نفسية صغيرة غدت جارفة لأنها تتكرر كل يوم آلاف المرات ولا تترك سوى السقوط المجتمعي المتكرر كأحجار الدومينو، لذلك نصبح كلنا متعاونين على الشر، ظالمين للفقراء، ومصفقين لأصحاب الياقات البيضاء؛ المتمسّحين بالوطن والدين.

أحياناً يجب الصراخ عالياً قبل أن نغرق ونصبح كجلادينا، إننا نغدو نماذج عنهم دون أن ندري. نتشوه، وربما هم صنيعتنا. حين يتحول المجتمع لنسخة مصغرة عن فساد حكامه. يجب أن يصرخ أحد ما، وربما كانت هذه هي صرخة إسلام المتبددة.

مجايلو إسلام من أصدقائه، والفقراء أمثاله، المطحونين، ممن يتحكم بهم مطحونون آخرون، كرجل الأمن ومسؤول الجمعية، هؤلاء يجب أن يتحركوا، يجب أن ينظروا إلى بعضهم البعض بعين الرحمة والتعاطف، والدعم، وقول الحقيقة، ورفض الظلم. إنه آخر جدار لأولويات القيم والأخلاق. ضمير العامة من الشعب، الذي يشبه ضمير إسلام.

ولكن كم علبة لحمة يلزمه ضمير القادة كي يستيقظ؟ كي يشعر بالذنب؟ مئات الآلاف؟ الملايين؟، إن لحم الشعب كله لم يكفِهم، إن هؤلاء الشباب هم علب اللحم الحي.. مسروق الأعمار والأرزاق والأفراح، والأحلام.

قيادات لم تقل يوماً الحقيقة، تأخذ ولا تعطي، لا تخجل من موت الشاب إسلام وغيره ممن عاش في الانقسام، وانطفأت فيه زهرة شبابه، ممن كان عنده حلم قبل أن يلفظ أنفاسه.

 إن من مات خياله منذ زمن، لن يعرف الرحمة، ولن يكون إلا قائداً أو جلاداً من خلف الحاسوب.