الملائكة لا تؤلف كتباً (حقنا في الخيال)

2017-02-15 02:00:00

الملائكة لا تؤلف كتباً (حقنا في الخيال)

في عام 2011، كنت أجري مقابلة مع وزير الثقافة الذي عينته حركة حماس حينها د.أسامة العيسوي برفقة صحافية أجنبية، وقدمت اعتراضي للوزير في نهاية الحوار حول قرار وزارة الثقافة منع روايتيّ "شيكاجو" لعلاء الأسواني و"وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، ومصادرة جميع النسخ من مكتبات غزة، حينها تدخل أحد المسؤولين بالوزارة بعنف، مانعاً الوزير من الرد، وقال "نعم سنمنع كل الروايات التي بها إسفاف وفجور"، فأجبته "لكن الروايات تتحدث عن الحياة، والحياة لا تعيشها الملائكة"، وهنا ازداد غضباً قائلاً "لا بل سنجعلها للملائكة"، ثم أشار بيده إلي "ومثلكم هم من يشجعون هكذا كتب".

شعرت بالصدمة والحرج حينها، فأنا في مكتب وزير مهذب، ولم أرد أن أغضب، وآخذ الأمر على محمل شخصي، فقد خبرت جيداً هكذا ذهنيات تقسم الحياة إلى قسمين فريقه والذي بالضرورة هو فريق "الصالحين"، وفريق يضم كل من خارجه "الفاسدون".

غادرت الوزارة، وأنا أشعر بالانقباض، وأيقنت لحظتها أن الانقسام ليس فقط في السياسة والمجتمع، بل حتى في رؤيتنا للحياة، وفخ التصنيفات الذي نصر عليه، ونجر إليه كل شيء من فن ودبكة وتراث وشعر.

لم يلقَ المنع حينها أبداً موجة الاعتراض التي نشهدها الآن رداً على مصادرة رواية "جريمة في رام الله"، ربما لأن المؤلفيّن ليسا من فلسطين، وربما لأن الموقف الأيديولوجي لحماس معروف مسبقاً، ومتوقع منه هذه المصادرة لما يطلقون عليه "أدب الفراش".

اليوم النائب العام ممثلاً السلطة الوطنية في الضفة الغربية، والتي تصف نفسها بالعلمانية تارة، وطوراً بالليبرالية، نجدها أيضاً تفرض الوصاية ذاتها على القارئ ليس باسم الأيديولوجيات هذه المرة، وتحويل الإنسان إلى ملاك، بل باسم القانون وخدش الحياء العام، إنه أمر خطير أن يقوم موظف أو نائب عام بتقييم الإبداع طبقاً للقانون وحدود وظيفته، فيصبح قَوّاماً على المبدع والمواطن ويحدد ما يتماشى مع القانون من عدمه، وهو ما قد يكون مقدمة لنصب محاكمات لأعمال فنية أو موسيقية أو سينمائية قادمة باسم القانون، فالنائب العام أصبح مفتشاً على الأخلاق، وهو أدرى بمصلحة الشعب، ومتحسس لما يمس فضيلته.

نعم قرأت رواية "جريمة في رام الله"، ولم تشدني، ووجدت بها مشاكل جمة سأتحدث عنها بالتفصيل في مقال لاحق، لكن السؤال المهم هو هل كان يجب أن تكون رواية عظيمة كي يتم منعها؟، وهل الروايات العظيمة تخلو من المشاهد الجنسية؟، أم لأنها رواية عادية تم منعها؟.

بالتأكيد لا، فحين تم المنع لم يأتِ ناقداً أدبياً كي يناقش أصحاب القرار حول درجة إبداع الرواية في الأدب، وهذا بالمناسبة مقياس حساس يلزمه ناقداً مخلصاً للإبداع، وليس لأيديولوجيا أو سلطة؛ فمثلاً إذا قلت أن رواية "فالس الوداع" لميلان كونديرا ليست على الإطلاق بمستوى روايته "كائن لا تحتمل خفته" أو روايته "الحياة في مكان آخر"، وأن رواية "على نهر بييدرا هناك جلست فبكيت" لباولو كويلو لا تقارن بروايته "الخيميائي" وأن "البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا رواية عظيمة، لكن "عالم بلا خرائط" التي كتبها مع الروائي عبد الرحمن منيف لم تكن كذلك… فعلى أي أساس أطلقتُ هذه الأحكام؟، وكيف نفاضل بين رواية وأخرى؟ هل هي الذائقة الأدبية؟ اللغة؟ الأفكار؟ أم أن هناك دليل لكتابة الرواية؟ وهل هذا الدليل تأليف السبعينيات أم التسعينيات أم أنه إصدار العام؟ الإجابة على هذه الأسئلة، يحتاج إلى ناقد مبدع أو قارئ مجتهد، ولا أعتقد أن أي منهما سيختار منع الرواية، وإلا ما كانت هناك روايات خالدة، وأخرى لا أحد يعرفها، والآن هناك نوع ثالث "الروايات المصادرة"، وهذا كله لا يتناقض مع إيماني بفردانية الذائقة الأدبية.

"وليمة لأعشاب البحر" حين صدرت في الثمانينيات كانت بالفعل ثورية بسرديتها، وشخصياتها، والنقاشات بين أبطالها في السياسة والدين والفكر الشيوعي، ومثلت أيقونة وقتها، لكنها بعد ذلك اختلفت باختلاف ذائقة الجيل الجديد، والتكنيك، والفكر، فهناك من يجدها الآن مملة وغير محبوكة الشخصيات، لكن منع الرواية جعلها متجددة وابنة كل زمان، وكانت أول مصادرة لها في مصر عام 2000 بقرار من مؤسسة الأزهر الدينية بدعوى أنها "مسيئة للإسلام".

بالتالي لم تكن أفضل الروايات، وكذلك الأمر مع رواية "شيكاجو" أضعف روايات المصري علاء الأسواني وأكثرها سطحية على مستوى الفكر والبناء، وشخصياتها غير النامية على الإطلاق، بل تدور جميعها في إطار جيوسياسي افتعله الأسواني ليقحم آراءه، إنها روايات واقعية عادية، يحولها المنع لروايات شعبية، إذا صح التعبير، أو دعوني أطلق عليه الأدب المتاح الذي يتماشى مع الذائقة العامة في القضايا المطروحة وسهولة التكنيك وواقعيته، وهكذا كانت رواية عباد يحيى واقعية شعبية، ليست نخبوية كما لا تطرح الأسئلة الكبرى، وهذه المصادفات في منع الأدب المتاح وإبقاء المتميز منه على الرفوف، لا تعبّر سوى عن جهل السلطات، التي تشكل توجهات القراء بقرار سياسي.

وربما ما هو أكثر إثارة للسخرية من قرار حوّل عملاً متواضعاً إلى الأكثر قراءة، أن الصفحات التي تحوي المشاهد الجنسية المرفوضة تم إرسالها إلى البريد الخاص في موقع "الفيسبوك" للمئات، ليدلل الغاضبون والغاضبات على غضبهم، إذن كيف لهم أن يشعروا بخدش الحياء حين يقرأون هذه الصفحات في الرواية، فيغضبون ولكن لا يرون غضاضة من تبادلها فيسبوكياً وأحيانا وضعها علناً في التعليقات والمنشورات؟!

ربما الأمر يتعلق بأقنومة الكتاب ذاته، أنهم لا يقبلون هذه العبارات أن تكون بين صفحات كتاب، وهذا يعيدنا إلى الحراس على الأدب والذائقة والثقافة باسم الأخلاق أو الدين أو السياسة وهو ذاته الجدل التاريخي الذي لا ينتهي، من له الحق بالوصاية على أخلاق الآخر؟، ومنذ متى كان المنع الآلي أجدى من المنع المعنوي ومسؤولية الفرد عن خياراته بشكل كامل؟

لقد لاحظت مواقف بعض من رفضوا مصادرة الرواية في البداية، ثم سرعان ما تراجعوا حين قرأوا تلك الصفحات التي يتم توزيعها همساً، ليعودوا ويصفوا الرواية بالإباحية أو الصبيانية، الحقيقة أنه أصابتني حيرة شديدة، ورغبت أن أسألهم إلى أين توقفوا في قراءة الروايات؟ ألم يقرأوا لرشيد الضعيف، وعلي المقري، ورؤوف مسعد، وحنا مينه، وحزامة حبايب وعلوية صبح، وسامر أبو هواش… وغيرهم؟

لست بصدد مقارنة رواية عباد يحيى بأي رواية أو حالة منع، كما لست بصدد مقارنة تلك المشاهد بأي مشهد مقابل، فبالتأكيد ليست القضية من كان أكثر جرأة أو "إباحية"! بيد أنني أطالب الموظفين الذين برروا قرارهم بحماية الأطفال والمراهقين أن يحصوا؛ كم إعلان إخباري مُسف من وكالات أنباء فلسطينية يظهر لهم على "التايم لاين" وهم يتصفحون "الفيسبوك"؟ ودعوني أذكر هنا بعض هذه العناوين من وكالات فلسطينية إخبارية، ولا يوجد متسع لأضع الصور المصاحبة لهذه الأخبار أو التفاصيل: "شاب اشترى دمية جنسية فقرر فحصها من الداخل وكانت الكارثة"، "صورة لطفلة سجنها والداها في الحمام ولا تخرج إلا لاغتصابها"، "فيديو للكبار…هذا ما فعلته سيدة تفاجأت بزوجها برفقة عشيقته على سريرها"، "انفصلت عنه، فنشر صورهما وهما يمارسان العلاقة الحميمة".

لماذا لم تركض وزارة الإعلام لوقف هذه الوكالات التي لديها مكاتب وحاصلة على ترخيص؟!، لماذا لم يعظهم أحد عن أخلاقيات الإعلام والصورة والخبر، ويحاكمهم بإثارة الغرائز، وإفساد الأطفال، خاصة أن الإنترنت أكثر استخداماً بينهم من روايات لا يسأل عنها أحد؟!

لماذا لم يشتكِ قارئ أو مثقف من هذه القصص والأخبار التي تحوي تفاصيل وصور لأناس حقيقيين في إصرار غير مسبوق لوكالات إخبارية محلية على الانحطاط في سبيل جمع أكبر عدد من "الهيتس"، أي النقرات على عناصر الموقع!؟ كلنا نعرف السبب، لأننا نسلّم أن الإنترنت سوق أفكار حرة، "نظرية الإعلام الليبرالي"، لا يمكن التحكم به، السيء فيه مواز للجيد. ولن أستطرد بالحديث عن سهولة الوصول إلى المواقع الإباحية التي يبدو أن النائب العام لم يسمع بها على الرغم من انتشارها بين عدد كبير من أبناء الجيل الذي يخاف عليه.

 لذلك فإن هذه المشاعية الإنترنتية لن تجعل أبداً واحداً من أسباب البحث المحموم عن الرواية الممنوعة "الفضول الجنسي"، بل لأن الناس لديها رغبة أكبر في كسر ما تحظره السلطات، إنه الرفض الأبدي للوصاية الأبوية والأخلاقية؛ سلطة النائب والحارس والجلاد ورجل الدين، وكل من يعتبر نفسه وصيا بالوكالة عن الشعب، وما يجب أن يقرأه أو يشاهده، إنه الفضول البدائي للبشرية، إنها الجماهير يا سادة، لا أحد يعرف ماذا تحب، وكيف تقودها التناقضات، فتصاب بحمى القراءة مرة واحدة هكذا. إنهم الصادقون وسط حملات النفاق والتهليل، أو الكراهية المعلنة والخبث المنظم، فقد تبيع روائية تبلغ من العمر 20 عاماً روايتها عن الحب والانكسار، وهي التي لا تزال هاوية للأدب، أضعاف ما يبيعه كاتب مخضرم نشر روايته العاشرة، الأمر عند المتلقين ليس متوقعاً، كما أنه ليس له علاقة بالنخبوية على الإطلاق.