هل للموسيقي أن يكتب في التاريخ؟ (تجربة توماس سواريز في تأليف كتاب "دولة الإرهاب")

2017-03-11 03:00:00

هل للموسيقي أن يكتب في التاريخ؟ (تجربة توماس سواريز في تأليف كتاب

تُوماس سوارِيز عازِف كَمان وموسيقي أمريكي مِن خِرِّيجي كونسِيرڤاتوار "مدرسة جُوليارْد" للرقص والدراما والموسيقى الشّهير (1). وهو مِن مواليد مدينة نيويورك عام 1951 حيث ينحدر مِن أصول أسپانية مِن طرف الأب وإيطالية مِن طرف الأُم. عَزَف في السابق ضِمن فِرَق أُوركِسترا لامِعة مِثل الأُوركِسترا السِّيمفُونِية الأمريكية وأُوركِسترا "بالتِيمُور" السِّيمفُونِية وفِرَق مُتعددة لِموسيقى الحُجرَة في نيويورك. (2) 

يَنحدر سوارِيز مِن عائلة معروفة بالتزامها السياسي، حدثَنا عنها في مقابلةٍ أجرَتها معه "رُمّان" في لندن، حيث خبرنا عن تأثير والِده على رؤيته السياسية (ترجمة): 

"كان والدي رجلًا ذا مبادئ بِلا أدنى مساوَمَة. شارَكَ في الحرب العالمية الثانية، ولم يكُن على ارتياح البَتّة بخصوص قيام دولةٍ إسرائيلية كناتِجٍ لتلك ’الحرب الحَسَنَة‘. ازداد استياءُ والدي بعد حرب 1967، وازداد استيائي بعد انتهاء حرب ڤِيِتنام. حينها، وجدتُ بأن إسرائيل وقَفَت كاستثناءٍ نِيُو–كُولُونيالِيّ (كُولُونيالِيّ جديد) نتيجة حربٍ كانت بلادي – الولايات المتحدة الأمريكية – مِن المسؤولين الرئيسيين عنها. بعد سنوات، عُدتُ وقابَلتُ صديقة الطفولة (شَريكة حياتي الآن) الموسيقية نانسِي إِيلان، وكِلانا عَزّزَ اهتمامَ الآخَر بالقضية الفلسطينية."

تَعَرفَت كاتِبةُ المقالة على تُوماس سواريِز عن طريق معرِفَتها المُسبقة بِشَريكته نانسِي إِيلان، وهي عازِفة كَمان أمريكية وناشِطة سياسية تَمّت معاقبتها عام 2011 مِن قِبل "أُوركِسترا لندن الفِيلهارمُونِيَّة" التي تعزفُ ضِمن موسيقييها منذ عام 1997. كان ذلك بعد توقيع إِيلان لِبَيان استِنكار جَماعيّ ضِدّ دعوة هيئة الإذاعة البريطانية لفِرقَة "أُوركِسترا إسرائيل الفِيلهارمُونِية" للعَزف في لندن. (3)

في طبعته البريطانية المُتناوَلَة هنا، يقعُ كِتاب تُوماس سوارِيز "دولةُ الإرهاب – كيف تَمَكن الإرهاب مِن بِناء إسرائيل الحديثة" في 417 صفحة، مُوَزّعٌ ثمان وثمانون مِنها على قائمة المَراجِع الأكاديمية ومُلاحظات الحَواشِي المُتعددة وبَيان الفِهرِس المُفَصّل. قد لا يُفاجَئ القارِئ عند معرفة مدَى الصعوبات التي واجَهها الكاتب لإيجاد دار نشر تَقبلُ بطباعة الكِتاب. يُخَبّرنا سوارِيز أثناء المقابَلة اللندنية:

"أحَد الناشرين أصرّ على أن يشاركني الكتابة مؤرخٌ أكاديمي لإعطاء الكِتاب نوعًا مِن  'المِصداقيةَ'. بعد ذلك، أبدَت إحدى دُور النشر الأكاديمية اهتمامًا بالكِتاب، بشرط أن تكون الرواية 'متوازِنةَ' بخصوص العُنف الصهيوني مُقابِل العُنف الفلسطيني في الفترة ما بين عامي 1940– 1947،  لكي يبدو الكتاب 'عادِلًا' (على الرغم مِن أنه لم يكن هناك أي عُنف يُذكَر مِن قِبل الفلسطينيين خلال تلك الفترة بالتحديد!). ثمّ  قُمتُ بتوقيع عقدٍ مع دار نَشر ثالثه كانت قد وافَقَت في السابق على مُسودَة الكتاب بأكمله. إلا أنهم  فقدوا شجاعتَهم بعد آن، وأبدوا رغبتَهم في أن أكتبَ 'قصةً' تدور أحداثُها حول بِضعٍ من الحوادث التاريخية، مَشددين على  تَفادِي استِخدام مُصطلح "إرهاب' فيما يخُصّ الحركة الصهيونية." 

بَعد عَناءٍ طويل، نجحَ سوارِيز في الحصول على اهتمام النّاشِر والمُنتِج الوثائقي الفلسطيني–البريطاني كارل صَبّاغ، صاحِب دار "سكاي سكرِيپَر" للنّشر في بريطانيا (4) . وعلى الجانب الآخر ﻟ "البُحيرة"، سُرعان ما حَذا حَذو صَبّاغ النّاشِر والموسيقي الفلسطيني–الأمريكي ميشيل مُشَبك، صاحِب دار "إنتَرلِينك" للنّشر في أمريكا (5). الجدير بالذكر أن كِلتا دارَي النشر لها مُصَنفات زاخِرَة بالمطبوعات المَعنِية بالشؤون الفلسطينية والعربية والعالَمية.

حال صدور الكتاب في شهر نوڤمبر مِن العام المُنصَرِم تلقى سوارِيز دَعوة من "جمعية فلسطين" التابعة لكلية "سُواس" للدراسات الشّرقية والأفريقية في جامعة لندن لإلقاء محاضَرة عن بَحثه. لهذه الجمعية سِجِلٌ حافِل في تنظيم المِهرجانات والمؤتمَرات التّضامنية والثقافية لسنين عديدة، فكان من الطبيعي أن تأتي دعوة سوارِيز مِن جِهة معروفة بتاريخها النّاجِح في النشاط السياسي (6). ولكن وَقَعَ في المُحاضَرة ما لم يكن في الحُسبان، إذ تقدمَ مِن الحُضور ناشِط صهيوني معروف بِعُنفه بإسم جُوناثان هُوفمان (7). 

علَى ذِمّة الرّواي في شخص سوارِيز، جاءت مفاجأة المُتَضامِنين في الحُضور عندما سَمَحَ مُنَظمُوا المُحاضَرة مِن "جمعية فلسطين" لِهُوفمان في إلقاء السؤال الأول دُون غيره من الحُضور! فكانت هذه الخطوة مناسَبةً لاختطاف المُحاضَرة ولِرَمي التّهم جزافًا على سوارِيز. زيادةً في السوء، قام أصدقاء هُوفمان، وهم كُثُر ليلتها، بتصوير مَقاطِع مِن المُحاضَرة أثناء تَعطيل وصَرِيخ هُوفمان، ثُم نشرها خارج سياقِها على الإنترنت (8)، مِمّا حَدا بالسفارة الإسرائيلية بالهجوم المُباشِر على سوارِيز. واستَغَلّت الصحافة البريطانية الصفراء الحَدَث حيث قامَت بِتَصعيد العُدوان الذي ما زال قائِمًا حتى لحظات كتابة هذه السطور ونشرها. (9)

يُخَبرُنا سوارِيز، بِحَسرةٍ وصَبرٍ على وَشْك النّفاذ، بأنه مازال في انتظار الحُصول على الڤيديو الكامِل الذي سَجلَتهُ "جمعية فلسطين" لكي يتمكن من تبرِئة نفسه من الإتهامات الصهيونية الباطِلة. ونحن بهذه المناسَبة نُناشِد الجمعية بالتحرك السريع لإنقاذ ما يُمكِن إنقاذُه، أو على الأقل، لحِماية من يُضَحون بِفَنهم ووقتهم ومواردهم مِن أجل قضية هي قضيتنا أولًا قبل أن تكون قضيتهم هُم!

تأتي هذه المُناشَدة خلال أيام ما بعد قَرار آلية "برِيكزِيت" لانفِصال بريطانيا عن الإتحاد الأوروپي، وأيام ما بعد فوز دُونالد ترامپ في انتخابات الرئاسة الأمريكية. إذ تَمُر الأوساط التّضامُنية في بريطانيا بأوقات حالِكَة يتم مِن خلالها تضييق الخِناق على كُلّ مَظهر من مَظاهر المقاوَمة الثقافية كحَملة المُقاطَعة "بِي دِي إِس" وفاعِلِيّة "أسبوع الفَصل العُنصُري الإسرائيلي" التي ساهَمَت في السابق في تَجنيد العديد من الطُّلاب الجامعيين للمقَولة الفلسطينية. 

لَولا مَحدُوية الكلمات المَسمُوح بها في هذه المقالة، والتي تجاوَزناها مُنذ فقرات (!) لأسهَبنا في نشاط تُوماس سوارِيز في فلسطين، حيث قام بعدة جولات موسيقية على نفقته الخاصة للعَزف في مخيمات اللاجئين ("عايدة"  و"الأمعري"  و"عَناتا/شُعفاط")، بالإضافة إلى مشاركته في العزف في كل من جامعة الخليل وجامعة أبو ديس. كما تتلمَذَ على يديه العديد مِن الفلسطينين اليافِعين أثناء تدريسه في "معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى" لمدة مُوَزعة على أربع سنوات. وكعادته، يلجأ سوارِيز إلى القلم ليكتب لنا عن أوركسترا "فِيلهارمُونِي فلسطين" في مدينة بيت لحم، جاعِلًا هدفه تعليم الشباب الفلسطيني المقاوَمة في الموقف وفي الفَنّ. (10)

وعلى النَّقيض، نُشاهِد هُوفمان وهو يُوَلوِلُ في الڤيديو أعلاه بأن سوارِيز "كَمَنجاتِي أمريكي وليس بِمُؤَرخ" لِنَزع أي مِصداقية عن بحثِه المُضنِي في إنجاز كتاب "دولةُ الإرهاب". نقتَبِسُ إذًا كلام المُؤرِّخ الإسرائيلي "إِيلان پاپِيه" في افتتاحية الكتاب ليَرى القارِئ دَحضًا أكاديميًا لهذه المُهاتَرات (ترجمة): "عَمَلٌ بارع، مَبنيّ على بحثٍ جاد للأرشيفات التاريخية، ينظرُ بِجَسارة في أثر الحركة الصهيونية على أرض فلسطين وسُكانِها بدايات القرن العشرين. يُقدمُ هذا الكتاب أولَ تحليلٍ شاملٍ ومُنظم للعُنف والإرهاب اللذين تم استخدامهما مِن قِبل الحركة الصهيونية، ومن بعدها دولة إسرائيل، ضِدّ الشعب الفلسطيني. بإمكاننا أن نُعلل الكثير مِن المُعاناة التي نشهدُ اليوم، وأن نربطها بتلك الفترة التأسيسية التي تمّت تغطيتها بالتفصيل في هذا الكتاب."

وفي خِتام الكتاب، يتركنا سوارِيز مع أفكارٍ تأملية غير مُساوِمَة بِلا هَوادَة: "في اللحظة التي تَوَجّهَت الحركة الصهيونية الإثنُو–قَومِية بأنظارِها إلى فلسطين لتأسيس دولةٍ مَبنِية على استيطانٍ يدعي الاستحقاقية الوراثية، لم يكن هناك أي مَغَبة متوقعة سوى هذه المأساة التي مازلنا نقرأ عناوينها في الأخبار كلّ يوم. فالإرهاب – أي العُنف السياسي المُوجه ضِدّ المدنيين – هو الأسلوب الأوحَد الذي مِن خلالِه يتمكّن المُحتَل مِن إذلال السُّكان الأصليين ومِن نَزع الأنسَنَةِ عنهم ومِن تهجيرهم. هذه هي، بكل بساطة، حقيقة ما يُسمى ﺑ  'الصراع' الإسرائيلي–الفلسطيني." 

تُوماس سوارِيز رجلٌ "ناهِضٌ" بمعنى الكلمة، اختار أن يُجَند كل مواهِبهُ التي حباها الله بها، ولديه مِنها الكثير، للدفاع عن مبادئة السياسية والإنسانية. نوَدُّ أن نُضيف بأن سوارِيز خبير في تاريخ "الخَرائِطِية" (عِلم رَسم الخَرائِط)، وله في هذا المجال عدة دراسات منشورة لقِيَت استقبالًا إيجابيًا مِن قِبل الأوساط الأكاديمية المُختَصة، لكي لا يَنبَح علينا هُوفمان وعصابته ﺑِِ "لا أكاديمية" الكاتِب. كما أنه مُصَورٌ مُتَمَكن، صَدَرَ له عام 2010 كتابٌ مُصَور عن فلسطين دَوّنَ مِن خلاله رحلاته التضامنية والتدريسية بمناسبة مُرور 60 عامًا على النكبة. 

باختِصارٍ ليس بمُختَصَر، نَعَم، للموسيقي الجاد والمُلتَزِم الحَقّ كُل الحَقّ أن يكتُب في التاريخ بكلماته وبألحانه، بل وأن يُصَور وقائِع الحاضِر وأن يَرسم خرائِط الأحداث قبل أن يَمحُوها زَمَنٌ يضجّ بِحَملات تَكمِيم الأفواه لكُلّ مَن وما له عَلاقة بالمَقُولةِ الفلسطينية.

فأيننا نحنُ كفلسطينيين مِن التضامُن مَع مَن يتضامَن مَعَنا؟  

المَراجع باللغة الإنجليزية:

Suárez, T., ‘The Palestine Philharmonie – an orchestra is born in Bethlehem’, Mondoweiss, Detroit, MI, 2017.

State of Terror: How terrorism created modern Israel. Oxon: Skyscraper Publications, 2016. 

‘Early Portuguese Mapping of Siam’, 500 Years of Thai–Portuguese Relations. Ed. Michael Smithies. Bangkok: Thai Ministry of Foreign Affairs, 2011.

 Palestine Sixty Years Later. New York: Americans for Middle East Understanding, 2010.

Early Mapping of the Pacific. Vermont: Charles E. Tuttle, 2004.

‘Genesis of the American West: The Cortes Map’, Mapping the West. Ed. Paul Cohen. New York: Rizzoli, 2002

Early Mapping of Southeast Asia. Vermont: Charles E. Tuttle, 1999.

Shedding the Veil: Mapping the European Discovery of America and the World. Singapore: World Scientific, 1992. 

المَراجِع باللغة العربية:

الكيلاني، ريم. ’أُوركِسترا لندن الفِيلهارمُونِيَّة... المَكارثِيَّة الجَديدة!‘، جريدة الأخبار، بيروت: 21 سبتمبر، 2011.

بِلا إسم. ’كِتابٌ جديد عن فلسطين بَعد ستين عامًا من النكبة: تُوماس سوارِيز‘، الفَجر نيُوز، مُحَرِّك البَحث الإخباري "تُورِس"، 2010. 

الطبعة البريطانية للكتاب: 

Skyscraper Publications 

الموقع الإلكتروني:

http://www.skyscraperpublications.com/new-releases

الطبعة الأمريكية للكتاب: 

Interlink Publishing

الموقع الإلكتروني: http://www.interlinkbooks.com/product_info.php?products_id=3402

الروابط:

1 الموقع الإلكتروني ل "مدرسة جُوليارْد":

http://www.juilliard.ed

2 الموقع الإلكتروني للموسيقي تُوماس سوارِيز:

http://thomassuarez.com/palestine.html

3 مقالة ريم الكيلاني في جريدة الأخبار:

http://www.al-akhbar.com/node/21792

4 عن كارل صباغ:

https://en.wikipedia.org/wiki/Karl_Sabbagh

5 دار "إنتَرلِينك" للنشر في أمريكا:

http://www.interlinkbooks.com

6 "جمعية فلسطين" التابعة لكلية "سُواس" في جامعة لندن

https://www.facebook.com/SOASPalSoc/

7 مدونة الناشط الصهيوني جُوناثان هُوفمان

http://blogs.timesofisrael.com/author/jonathan-hoffman/

8 الڤيديو مِن تصوير أصدقاء الصهيوني هُوفمان وهو يتهجم على تُوماس سوارِيز:

https://www.youtube.com/watch?v=XXw9kkYLsR8

9 الصحافة البريطانية الصفراء وهجومها على تُوماس سوارِيز:

http://www.dailymail.co.uk/news/article-3918000/Zionism-racist-fascist-cult-Israeli-embassy-s-fury-anti-Semitic-hate-speaker-gives-talk-London-university.html

10 مقالة تُوماس سوارِيز عن "فيلهارموني فلسطين" في مدينة بيت لحم:

http://mondoweiss.net/2017/02/palestine-philharmonie/