الخامسة إلا خمس دقائق

2017-03-13 06:00:00

الخامسة إلا خمس دقائق
بلا عنوان . ١٩٦٢ . السوري فاتح المدرس

إنها الخامسة إلا خمس دقائق... ستمر هذه الدقائق الخمس الأصعب في هذا الانتظار.. لكنه هذا الشوق المجنون الذي لا يسمح باحتمال ضياع دقيقة واحدة معاً، دفعني هذه المرة أيضاً لأن أعيشها قبل كل لقاء.

اليوم.. سأنتظره هنا داخل محطة الترام.

 

جلست غالية على المقعد الخشبي في المحطة وراحت عيناها تراقبان الركاب الهابطين من المترو، وكعادتها بدأت تنسج قصصاً لكل وجه من وجوههم: امرأة ستينية تطلب مساعدة شابة لتهبط درجة "الترام" الوحيدة، لا بد أنها امرأة وحيدة بلا أنيس جاءت إلى هذه المحطة لتستلم مالاً أرسله ابنها من بلد اوروبي يعيش فيه، فجارتي السورية عادة ما تستلم حوالاتها من هنا. تسارع الشابة لمساعدتها بوجه ودود لكنه متعب، شابةٌ ..في الثلاثين.. لا بد أنها قادمة من عملها إلى المطبعة القريبة لتصور أوراقاً تحملها بيدها.

شاب طويل القامة بشعرٍ يصل إلى كتفيه يمر مسرعاً دون أن يلتفت إلى أي من الموجودين في المحطة، يبدو أنه على موعد غرامي.. سيلتقي بحبيبته في إحدى الكافيتيريات الكثيرة في هذه المنطقة.

يعبر الجميع البوابة الصغيرة للمحطة لتغدو فارغةً كرأسٍ ملأه سرب أفكارٍ ثم طار دفعة واحدة. وحدها الريح تراقص الفراغ المباغت وتكسره بجريدة مهملة تلاعبها وتتلاعب بها فتسوقها إلى الطرف الآخر من المحطة لتنشغل بها أعين الواقفين هناك..

تلاعبت الريح بذكريات غالية التي أغمضت عينيها كي تعيد ترتيب ما تبعثر:

لم يأتِ بعد.. إنها الخامسة وهو لم يأتِ بعد.. كعادته منذ أشهر وربما سيعتادها هنا أكثر..

في بداية علاقتنا، كثيراً ما تشاجرنا بسبب التأخير عن الموعد. لم يكن التأخير بحد ذاته هو المشكلة، ففي دمشق لم يكن هناك مكانٌ مناسبٌ للانتظار. عندما كنت أنتظره عند مواقف باصات النقل الداخلي كانت الدقائق تمر بصعوبة كابوس.. لا مكان للجلوس أو الاختباء من نظرات المارة الفضوليين الحادة لامرأة تنتظر في الشارع.

هو يعرف أن الوضع هنا يختلف كلياً، فبعد أن حدثنا أحد أصدقائنا عن تجربته في هذه المدينة التركية، وشوش خالد في أذني: 

"يجب أن نذهب إلى تلك المدينة.. هناك سأرتاح من تأنيبك لي على التأخير لأنك ستجدين أماكن مريحة للانتظار.." 

ضحكتُ يومها من حلوله المقلوبة للأشياء ومددت يدي لأقرص رجله تحت الطاولة، فتأوه ممثلاً الألم الممزوج بالضحك.

لقد تحقق جزءٌ من نبوءتكَ.. وها أنا ذي لاجئة في هذه المدينة وأنتظرك في إحدى محطاتها الكثيرة.

انطلق صوت المذياع محذراً من التدخين في المحطة ومنبهاً غالية إلى رغبتها بإشعال سيجارة. نظرتْ إلى الساعة لتجدها قد تجاوزت الخامسة بخمس دقائق.. تلفتت حولها لتجد المحطة - الخالية تماماً قبل عشر دقائق – قد امتلأت من جديد، ليتوقف "الترام" بعد ثوانٍ فيفرغ بعض ما في جوفه من ركاب ويأخذ رفاق انتظارها ويمضي تاركاً المحطة خاويةً كبيتٍ هُجر تواً..

سأنتظره خمس دقائق أخرى.. لقد اعتدت على ذلك ولن يفاجأني تأخره هذه المرة أيضاً.. أربعة أشهر وأنا على هذي الحال. منذ ذلك المساء الصيفي في دمشق عندما تواعدنا على اللقاء عند الخامسة أمام مشفى المجتهد. أي بعد ثلاث ساعات من موعد مظاهرة قرر المشاركة فيها في حي الميدان. لم تكن تلك مشاركته الأولى، فقد خرج في عشرات المظاهرات سابقاً وفي أماكن مختلفة، وكان دائماً ينجح بالهروب من عناصر الأمن عندما يهاجمونهم حتى في المناطق التي لم يكن يعرف تفاصيل حاراتها وطرقاتها الفرعية.. ولا خوف عليه هذه المرة في الميدان فهو يعرف كل شبر في هذه المنطقة.

وكالعادة، حضرتُ قبل موعدي بخمس دقائق. مرَّت الدقائق العشر ولم يأتِ، قررت انتظاره مدة أطول. كانت الشوارع خاويةً إلا من أناس يمرون مسرعين كأن أحداً ما يطاردهم. يتلفتون في كل الاتجاهات، ونادراً ما تستقر عين أحدهم عليّ لتمطرني بأسئلةٍ مبهمةٍ مليئةٍ بالاستغراب من وقوفي وحيدةً في هذا المكان وفي هذا الوقت.. لكنه يعود سريعاً إلى قلقه المفضوح ويمضي..

مرت نصف ساعة بعد الخامسة.. لكنه لم يأتِ.. لم يفعلها من قبل، كان يتأخر دائماً! لكنه كان يحضر قبل هذا الوقت.

حاولت الاتصال بهاتفه الجوال.. لم يرد. أعدت الاتصال أكثر من عشرين مرة ولم يرد. خمّنت أن هاتفه قد سقط منه في مكان ما أثناء هروبه من المظاهرة.

مرت ساعة كاملة وبعدها ساعة أخرى وأنا متسمرة في مكاني، وازدادت نظرات المارة حدةً واستغراباً، وبدأت سيارة تابعة للأمن تتقصد المرور من أمامي كل عشر دقائق، وفي المرة الرابعة أو الخامسة شتمني أحد ركابها وأطلق سيلاً من الكلمات البذيئة، أنقذني منها قدوم سيارة أجرة استقليتها فوراً إلى البيت.

لم ألقِ التحية على أحد.. دخلت غرفتي وتوجهت فوراً إلى كمبيوتري لأقلب صفحات الأخبار في الفيس بوك. فجأة، توقف المؤشر على قائمة بأسماء شهداء اليوم في الميدان.. توقف الزمن.. توقف دمي عن الدوران.. فراغٌ بحجم كون كامل داهمني.. فراغ مطلق...

وكأول وآخر رد فعلٍ قمت به، أطفأت الكمبيوتر.. لملمت ما تبقى من جسدي .. حملته إلى السرير.. دفنته تحت شرشفٍ بلا لون.. ونمت.

بعد أيام قليلة.. أصرّ والدي على ضرورة مغادرتي للبلاد بناءً على تحذير من اعتقالي وصله سراً من صديق قديم مازال يعمل كعنصرٍ مهمل في المخابرات. لم أقاوم رغبته عندما عرفت أن هذه المدينة هي وجهتي.. ولم يأخذ الأمر أكثر من بضعة أيامٍ لأكون هنا.

نظرت غالية إلى الساعة ببرود وعادت تحدّث نفسها من جديد: الساعة الآن الخامسة والربع.. أعلم أنك لن تأتِ اليوم.. سأغيّر المحطة غداً.. وسأكون، كما كل يوم، عند الخامسة إلا خمس دقائق، بانتظارك..