قبل يومين أعلن كل من مهرجان كان السينمائي ومهرجان رام الله للرقص المعاصر عن الملصق الخاص بالدورة القادمة لكل منهما، وكأي عمل فني يُطرح للرأي العام، طال الملصقين آراء متفاوتة، الآراء المستنكِرة منها تأتي من منطق واحد يجمع بين المزاودة في الوطنية/النسوية والقطيعة مع الفن.
في الملصق الفرنسي، قام المصمّم بلمسات فنية على موضوع الصورة، وهي الجميلة الإيطالية كلوديا كاردينالي، إذ جعل وجهها أكثر نقاء وخصرها أرفع وفخذها أنحف… ففزع البعض لذلك.
أحببت الملصق، فيه عناصر ثلاثة تدعوني لذلك: اللون الأحمر الورديّ، كلوديا الجميلة ترقص فرحة، والأناقة التي أُدخل بها إلى الملصق اسمُ المهرجان بلون ذهبيّ. لكن لنرجع خطوة إلى الخلف فنتحدث عن الصورة.
قبلها، سأذكّر بالفنان البلجيكي رينيه ماغريت ولوحته «خيانة الصوّر»: رسمة لغليون مكتوب أسفلها "ليس هذا غليوناً". المقصود أن هذه صورة لغليون وليست غليوناً نمسكه وندخّنه. من هنا نستطيع القول أن صورة كلوديا وهي ترقص على أحد سطوح روما، أنها ليست كلوديا، بل صورة لها. والغاية من استدعاء ماغريت هو حديثي عن الملصق، للقول أن الإمرأة على الملصق، كعمل فني مكتمل بذاته، ليست كلوديا، بل ليست حتى صورة كلوديا، بل هي مادة تم استعمالها في عمل فني هو الملصق، ومن الطبيعي أن تتغير بعض ملامح المادة في تفاعلها مع باقي عناصر الصورة، ليخرج الملصق بشكله الأخير قبل يومين محتوياً صورة كلوديا مع لمسات فوتوشوبيّة وجد المصمم أنها ضرورية ليخرج الملصق كما هو أراده، ونحكي هنا عن عمل فني وفنان يتسخدم وسائط متعددة لإنجاز عمله.
الحالة ذاتها نجدها في الملصق الفلسطيني، وهو ما يهمنا، إلا أنها هنا إمرأة التُقطت لها صورة أثناء الانتفاضة الأولى وهي ترمي الحجارة على جنود الاحتلال، وصارت الصورة أحد الرموز لواحدة من أجمل التمثيلات الفلسطينية، وهي الانتفاضة الأولى. الآراء المستنكرة تعلّقت بذلك تحديداً، أي "اللعب" على صورة هي رمز ضمن ملصق للرقص المعاصر.
قبل العودة إلى ماغريت وغليونه، من الجيّد الإشارة إلى أن تنفيذ الملصق فنياً كان بديعاً، وقبله اختيار الصورة ذاتها لمهرجان رقص تحديداً، ثم الإضاءة على اللون الأصفر في سواد وبهوت الصورة الأصلية، وأخيراً تراكم الأحذية الصفراء، وهي هنا رمز لحجارة الانتفاضة، فتبدو الإمرأة كأنها تتناول حذاء من يسارها لترميه بيمينها، لتمتلئ السماء بالأحذية الصفراء، ليصير الأصفر سماءً وأفقاً تطير فيه حمامات بيضاء، فلا تطير الحمامات هنا إلا في أفق من الحجارة. ألم يقل شاعرنا في «مديح الظل العالي»: "اقرأ باسم الفدائي الذي خلق من جزمة أفقاً". أليس هذا الأصفر أفقاً، وأليست صورة هذه السيدة ظلاً عالياً في ثقافتنا الفلسطينية؟ وأليس هذا الملصق مديحاً لها؟
قلت "أليست صورة هذه السيدة" ولم أقل "أليست هذه السيدة"، فلا نعرفها بل نعرف صورتها وهذا ما جعلها فعلاً رمزاً للانتفاضة، بتجريد الصورة من شخصية صاحبها. فلا اعتداء في الملصق على الإمرأة، ولا حتى على صورتها، أخذاً برأي صاحبنا رينيه ماغريت، فالصورة وقد صارت رمزاً، هي ملك جماعي للشعب، يمكن لأحدنا استخدامها بالشكل الفني الذي يريده، على أن يتوقّع آراءً متفاوتة وعديدة ومزاوِدة.
هذا ملصق لصورة وليس الصورة ذاتها، فيتوجّب تلقّيه كملصق، أما الصورة فهي إحدى عناصر الملصق التي جعلته، بشكله الأخير، عملاً فنياً بديعاً يتخطى الغاية الإعلانية للملصق.
في كل من الملصقين امرأة، قوية وحرّة ومستقلّة (وجميلة في حالة كلوديا)، وفي كل منهما ترقص، في الملصق الفلسطيني تحديداً، وقد رأيتها فيه ترقص كأنّها ترمي حجراً، في وقت كانت في الصورة ترمي حجراً كأنها ترقص. أليس الفن انزياحاً عن العادي والمألوف، أو حتى قلباً له؟
لنصنع ملصقات بمثابة الأعمال الفنية، كما كنّا دائماً وكانت ثورتنا (هل نسينا مارك رودين/جهاد منصور؟)، لنصنعها بعد التدهور المريع في ملصقاتنا السياسية والفنية التي سادت خلال الانتفاضة الثانية، وأساساً لنصنع مهرجاناتنا الفنية، بدءاً من الرقص.
هذا نقاش فنّي فلسطيني، أما نقاش المزاودات "النسوية" في الملصق الفرنسي و"الوطنية" في الملصق الفلسطيني فهو هواية لأصحابه أستصعب مجاراتهم فيها.