الجدل والصيرورة

2017-04-03 06:00:00

الجدل والصيرورة
"تركيب ٨" . للفنان السوفييتي كندينسكي

مصطلحاً، الجدل والصيرورة يتكرران في الماركسية، وخصوصاً في منهجيتها: الجدل المادي. لكن ما الرابط بينهما؟ هل يعنيان الشيء ذاته؟ أو أنهما مختلفان ولا علاقة تربط بينهما؟

نشير إلى الجدل حين الإشارة إلى المنهجية، أي الجدل المادي، لكننا نشير إلى الصيرورة حين الإشارة إلى الواقع، بالتالي ما العلاقة الممكنة بين الجدل والصيرورة؟

لا شك في أن مصطلح الجدل يشير إلى الفكر، أي إلى قوانين فكرية، أو تجريدات فلسفية هي قوانين (أو مبادئ)، جرى استخلاصها من تاريخ تطور الفلسفة، وهذا ما قام به هيغل. حيث توصّل وهو يبحث في تطور الفلسفة إلى "مبادئ تطور الفكر"، فاعتبر أنها هي قوانين فعل العقل، العقل الذي يفرض تطور الواقع وفق الفكرة التي هي نتاجه. ولخّصها في ثلاثة قوانين جوهرية هي: الفريضة – النفي – ونفي النفي، التناقض، التراكم الكمي والتغيّر النوعي. هذا هو الجدل الهيغلي، الذي يرى أن تطور الفكر يسير في شكل جدلي. ولأن الفكرة هي صانعة الواقع فإن الواقع ذاته يتطور في شكل جدلي. وهذا يعني أن مصطلح الجدل هو تجريد فلسفي جرى التوصّل إليه من خلال دراسة تاريخ الفلسفة بالتحديد. وبالتالي بات يرتبط بما هو فكري، وأصبح مسمى منهج تفكير صاغه هيغل وضمنه ماركس منهجيته.

ولقد أشرت إلى أن ماركس كسر "الطابع الصوفي" (أو بالتحديد المثالي) لجدل هيغل عبر قلب الأمر المتعلق بعلاقة الفكر بالواقع، بحيث أن الواقع هو الذي يتطور في شكل جدلي، وأن مسار الفكر هو انعكاس لذلك، وبالتالي فإن جدلية تطور الفكر هي نتاج جدلية تطور الواقع ذاته. ولقد ظل المصطلح يخصّ الفكر، أي المنهجية التي باتت مادية: أي الجدل المادي. نحن هنا في مستوى الفكر، مستوى الفلسفة، حيث قاد التجريد الذي هو اختصاص الفلسفة إلى تبلور قوانين (أو عناصر) تتعلق بآليات الحركة في الفكر والمجتمع. بالتالي فإن الجدل هو تجريد لآليات ذهنية ترسم طبيعة الحركة.

هذا يعني أن التوصّل إلى الجدل على المستوى الفلسفي ومن خلال تطور الفلسفة أوصل إلى نتيجة حاسمة تتمثل في "اكتشاف" منهجية جديدة نتيجة تلخيص آليات تطور الفلسفة، هذا التطور الذي كان انعكاساً لتطور الواقع. بالتالي بات لدينا منهجية هي "القوانين العامة للحركة" كما أسماها إنجلز (الذي هو الذي اختصَّ بمحاولة صياغة قوانين الجدل المادي مستنداً إلى هيغل، خصوصاً في كتب ثلاثة هي: "ديالكتيك الطبيعة"، "ضد دوهرنغ"، و"لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية"، وكما أشرت سابقاً بمعرفة ماركس بالتحديد في كتاب "ضد دوهرنغ"). لهذا فإن الجدل هو المنهجية التي توجِّه العقل وهو يبحث في الواقع. هذا هو استخلاص التاريخ الطويل للفلسفة، وأهمية الفلسفة الحاسمة.

هنا نحن في مستوى الفكر، والجدل المادي هو "مبحث فلسفي"، هو تجريد فلسفي صيغت عبره القوانين (أو العناصر) التي تشكل الحركة "المجرَّدة". والتي تصبح "مؤشرات" توجه العقل وهو يبحث. الجدل هو القوانين العامة للحركة في الطبيعة والمجتمع، هو التجريد العام لهذه الحركة على شكل قوانين. وهي قونين (أو عناصر) تشكِّل آليات لنشاط الذهن وهو يبحث في الواقع. وهي تساعد على تناول مستويات الواقع، والعلاقة فيما بينها، وتناقضاتها التي تقود إلى التقدم، كما أشرت قبلاً. إذن الجدل المادي هو نشاط ذهني يتجاوز المنطق الصوري الذي هو نشاط ذهني متوارث (قام أرسطو بصياغته)، لا زال يوجّه المحاكمات الذهنية بشكل "خفي"، ربما لا يلمسها من لا يتمعَّن في الخطاب المتداول. حيث أنه يحكم "الوعي العام"، ويتغلغل في مختلف فروع البحث "الأكاديمي"، والفكري الذي لا يعتمد الماركسية، وحتى البحث المسمى ماركسي دون أن يعتمد الجدل المادي كمنهجية. ومن ثم فإن الجدل هو المنطق الجديد الذي يتجاوز هذا المنطق، ويحقق نقلة نوعية في تطور منطق التفكير، أوصل إلى العلمية. فالجدل المادي هو منهج علمي، بالضبط لأنه ينطلق من البحث في الواقع وفق القانونيات التي يسير فيها. إنه لا يُلقي على الواقع ما ليس فيه، بل ينطلق من بنيته بالذات.

أما الصيرورة فهي "الترميز" للواقع في حركيته، هي الحياة الواقعية، كلية المجتمع في تناقضاته وعلاقاته وحركيته. هنا نحن إزاء الوجود، الواقع، حيث يتعلق الأمر بالاقتصاد والطبقات والأيديولوجية والدولة، في مسار كل منها، وتشابك مسارها، وكل التناقضات التي تحكم كل منها وفيما بينها. الصيرورة هنا تشير إلى الواقع، إلى الوجود، إلى ما هو مادي. هي حركة الواقع التي هي ليست "مستقيمة" أو سلسة، بل هي تناقضية. وهي تسير وفق مبدأ الفريضة/ النفي/ ونفي النفي. وتتخذ شكلاً تراكمياً لتحقيق ذلك. هنا نحن نتحدث عن الاقتصاد والطبقات والدولة والأيديولوجية، عما هو في الواقع، وكيف يتحرَّك. 

 بالتالي نحن إزاء قوانين الجدل متمظهرة في الواقع في كل تلك المستويات وفيما بينها. هذا هو المعنى لكون قوانين الجدل هي مؤشّر فهم الواقع. فهذه الصيرورة هي جدلية، وتنحكم لقوانين الجدل، أي: التناقض، التراكم الكمي والتغيّر النوعي، ونفي النفي. ولقد كان انعكاس تطور الواقع بما هو تطور تناقضي وتراكمي ويفضي إلى نفي النفي، على المستوى الفلسفي هو الذي جعل مسار تطور الفلسفة تناقضياً وتراكمياً ويفضي إلى نفي النفي. هذا ما اكتشفه هيغل في مسار تطور الفلسفة كما أشرت، وصاغه في منهج جديد هو الجدل. والآن نعود عبر هذا الاكتشاف، بعد أن أوقفه ماركس على قدميه، لفهم صيرورة الواقع ذاته، كما حدث في الماضي، وكما هو قائم، وإلى ما يمكن أن يفضي إليه.

لهذا يمكن تعريف الجدل المادي بأنه هو الصيرورة الواقعية مصاغة في الذهن على شكل تجريدي، هو الصيرورة الواقعية مجرَّدة على شكل قوانين أكثر عمومية تمثّل آليات مسار حركة الواقع. وهنا يكمن الربط الحتمي بين القوانين المجرَّدة والواقع، حيث أن هذه القوانين هي التجريد الأعلى لصيرورة الواقع، وحيث يساعد الشكل التجريدي هذا، بعد اكتشافه، على فهم الواقع، فهم صيرورة الواقع في تاريخيته. فهم التاريخ وصولاً إلى الحاضر، وفهم الصيرورة الممكنة في المستقبل.

إننا هنا إزاء التجريد النظري المبلور في منهجية بحث وتحليل وفهم، وهو يبحث في الواقع لفهم صيرورته. هذه هي القيمة الكبرى للجدل المادي. هنا الجدل هو تجريد صيرورة الواقع، والصيرورة هي الجدل كما يحدث في الواقع.