ننشر اليوميات كاملة اليوم، في الذكرى الواحدة والثمانين لميلاده

يوميات غسان كنفاني... (1959 ـ 1965) (1/2)

2017-04-08 00:00:00

يوميات غسان كنفاني... (1959 ـ 1965) (1/2)

نشرت مجلة «الكرمل» الفلسطينية، في عددها (الثاني) ـ ربيع 1981، مختارات من دفتر يوميات كتبه الشهيد غسان كنفاني بين عامي (1959ـ 1960) ، خلال عمله في الكويت. وهي لم تنشر في كتاب من قبل.

كما نشر الناقد والأديب اللبناني محمد دكروب في كتابه (مقالات فارس فارس ـ غسان كنفاني)، تحت عنوان «من يوميَّات أبو فايز»، وهي يوميات ساخرة، كما يشير الأستاذ دكروب في تقديمه لليوميات "كان غسان كنفاني ينشرها في جريدة «المحرر» اليومية، خلال العام 1965، تحت عنوان: «بإيجاز»، وبتوقيع «أ. ف»، أي: «أبو فايز» (وفايز هو اسم ابن غسان). الطَّابع العام لهذه اليوميات هو: التناول الساخر لجوانب من الحياة السياسية والاجتماعية، مع إطلالات نادرة وخفيفة على الحياة الثقافية. ولعل هذه اليوميات كانت بمثابة «بروفة» في الكتابة الساخرة مهدت لظهور فارس فارس ومقالاته النقدية، الأكثر تنوعًا وعمقًا ونضجًا"(ص236).

تعد هذه الأوراق الشخصية المنشورة في مجلة «الكرمل»، وفي كتاب «مقالات فارس فارس»، نوعًا أدبيًا نفتقده في حياتنا الأدبية العربية والمعاصرة، وهي تضيء كثيرًا من جوانب حياة وإبداع كنفاني في شبابه المبكر. ففي ثنايا هذه اليوميات، نعثر على دراما الحياة والموت، ويتبين لنا أحيانًا كثيرة أن غسان لا يتحدث عن الآخرين بقدر ما يتحدث عن نفسه، عما يجول في نفسه، وعمَّا يمور في روحه المتألقة والقلقة في آن.

أعدّه: أوس داوود يعقوب

31/12/1959

«... إن الضباب الأسود غير موجود في الطبيعة، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يؤكد أنه ليس أبعث على الراحة من الضباب الطبيعي الذي لا لون له؟؟».

1/1/1960

.. ليلة أمس قررت أن أبدأ من جديد..

هذه اليوميات عمل كريه، ولكنه ضروري كالحياة نفسها..

أتى القرار بسرعة وببساطة، كانت الساعة تمام الثانية عشرة، أي أننا كنا ننتقل من عام قديم إلى عام جديد.. كانت الغرفة صامتة، تعبق برائحة وحدة لا حد لها.. عميقة حتى العظم، موحشة كأنها العدم ذاته.. وبدا كل شيء تافهًا لا قيمة له، فقررت أن أكتب شيئًا.. لكنني فضلت، لحظتذاك، أن أبكي.. ومن الغريب أنني فعلت ذلك ببساطة، ودون حرج، وحين مسحت دمعة، أو دمعتين، كنت كمن يهيل التراب على جزء آخر من جسد ميت سلفًا ندعوه حياتنا..

وهأنذا أكتب من جديد... يوميات كريهة، لحياة كريهة تنتهي بموت كريه، مستشعرًا كم أنا مجبر على أن أكتب، كم أنا مجبر على أن أعيش، كما أنا مجبر على أن أموت..

4/1/1960

إنني مريض، نصف حي يكافح من أجل أن يتمتع بهذا النصف، كما يتمتع كل إنسان بحياته كاملة.. وكل المحاولات التي افتعلتها لكي أنسى هذه البديهية تقودني من جديد لكي أواجهها.. وبصورة أمر.

لقد توصلت الآن إلى أن أؤمن بأن عنصر المشاركة يكاد يكون معدومًا بين الناس.. إنهم يحسون أنك تتألم، ولكنهم لا يعرفون كم تتألم، وليسوا على استعداد أبدًا لأن ينسوا سعادتهم الخاصة من أجل أن يشاركوا الألم.. وعلى هذا فعلينا أن نتألم بيننا وبين أنفسنا.. وأن نواجه الموت كما يواجه واحد من الناس الآخرين نكتة يومية.. وهذا يجعل من الإنسان عالمًا بلا أبعاد، ولكنه في الآن ذاته، عالم مغلق على ذاته.

في الحقيقة، إن المخرج الوحيد في هذه الدوامة الموحلة، هو أن يؤمن المرء بأن العطاء هو المقبول، فقط لدى إنسان الحضارة.. وأن الأخذ عمل غير مرغوب فيه... أن يعيش الإنسان باذلًا نفسه هو المقابل، ولا مقابل سواه... إنني أحاول الآن أن أصل إلى هذا الإيمان بطريقة من الطرق، أو أن الحياة تصبح، بلا هذا الإيمان، شيئًا لا يحتمل على الإطلاق..

دفعني لأكتب هذا الكلام.. جرح سببته الحقنة اليومية هذا الصباح.. وأعتقد أنه مازال ينزف إلى الآن.. لو قلت لإنسان ما إنني أتألم منه لأعتبره شيئًا يشبه النكتة الطريفة.. ويرددها على هذا الأساس، متسائلًا: «كيف يستطيع إنسان أن يجرح نفسه؟ لاشك أنها تجربة طريفة!!» أو أنه على أحسن الاحتمالات سوف يقول: «إنه يتألم!» ويغير الموضوع.. أما بالنسبة لي فهي تعني، وسوف تبقى تعني كل يوم، أنني أريق جزءًا من احتمالي، وإنسانيتي، وسعادتي من أجل أن أعيش... وإنه لثمن باهظ حتمًا.. أن يشتري الإنسان حياته اليومية بالألم.. والقرف.. والنكتة.. إنه ثمن باهظ بلا شك.. أن يشتري حياته اليومية بموت يومي..

5/1/1960

أفكر في كتابة قصتين، الأولى قصة إنسان مخذول، خذلته القيمة التي اعتقد أنها مقياس الحياة الوحيد، وإذا هي قيم لا تعتبر في عالم الحضارة المعاصر... إنني لم أتوصل بعد إلى اصطياد الحادثة الملائمة.. ولكنني أحتاج أن أصل منها إلى التعبير عن الانخذال الكامل الذي يحسه إنسان صفع بشيء آمن به، فإذا به عند الآخرين لا يساوي شيئًا، وليس يهمني على الإطلاق أن يكون هذا الإيمان خطًا، أو صوابًا. يهمني فقط أنه إيمان يحمل على دعائمه كل طموح ذلك الإنسان، إيمان مبثوث في عروقه مع أمه. جنبًا إلى جنب.

أما القصة الثانية فتدور حول نفس المحور.. ولقد سمعتها اليوم من صديق رواها ببساطة حرقت محجري.. تُرى، هل أن أنقلها ببساطة إلى محاجر الآخرين؟ إنها قصة مثقف أضاع ذراعه في اعتداءٍ غادر... وحينما خرج من المستشفى (...) وجد نفسه مرفوضًا من قبل الحياة التي لا تعترف بالضعف.. إنني لم أصل بعد إلى صياغة جميع تفاصيل هذه القصة، ولكنني أشعر أنني أستطيع أن أفهمها بإخلاص وصدق.. بل وأن أعانيها.

لقد كتبت إلي إذن، تقول ببساطة، إنني أصبحت مركومًا في ماضي، لا علاقة لها به.. لقد نسيت كل الحب الذي وهبتها خلال عامين كاملين... ونسيت المستقبل الذي بنيناه في كل كلمة... مركومًا في ماض لا علاقة لها به.. أقف في وجه عاصفة أطمع في شيء كبير لن أناله على الإطلاق.. كتبت ذلك ببساطة... أيكون الغضب الذي أحسه انخذالًا يتملق معنى من معاني التحدي؟ أيكون النصف الباقي من حياتي مازال ينتفض بشيء من الكبرياء الذبيحة؟ أأكون مازلت أعتقد إنني كالآخرين؟

هذه هي المشكلة.. أن أستسلم.. أن أعترف.. أن أستسلم.. أستسلم.. هذا كل ما في المشكلة.. ولكنني مازلت أرفض هذه البديهية.. إذ يبدو لي صعبًا بعض الشيء أن أخرج من حياتي، وأراقبها من مقعد المتفرجين كأنني في سيرك؟؟ لوجدت أنه معمر متهدم..

في الفترة الأخيرة، أصبحت أتردد في رواية أية حادثة مخافة أن يرد فيبعث القرف في حلقي.. أما إذا كانت الحادثة طويلة فإنني لا أفكر في التكلم عنها على الإطلاق...

كل تصرف يقوم به له جذور، كل فكرة يقولها يحفظها منذ الأزل... ورأسه عبارة عن شبكة رادار تعكس كل ما في العالم، إلا نفسها... وأعتقد أن هذا هو السبب الأولي في أنني لا أستطيع أن أتخذ موقفًا منه.. إنه دائمًا ليس هو.

9/1/1960

مرة أخرى سمعت حفيف ريش الملائكة، كما يقول سكير واشنطن، حين رأيت الجبال تدور حول رأسي بصخب مخيف، ثم أحسست بالرمل ينسحق بين أسناني...

كيف حدث ذلك؟ إنني لا أذكر التفاصيل، أما الزملاء فكل واحد منهم عنده جانب من القصة... لقد ذهبت معهم إلى رحلة تقع خلف الحدود، وفي لحظة واحدة حوالي العاشرة، أحسست بقليل من الدوخان، ولكنني لم أبالِ.. كنت قد أعددت عدتي من الصباح، ولذلك فلقد استبعدت إطلاق أن يحدث لي أي اضطراب...

بعد هنيهة، قمت إلى زميل أداعبه بضربة، أو بضربتين، ولكنني حينما رفعت كفي عنه رأيت الجبال الصخرية التي كانت حولنا تدور برقصة مخيفة، وعبثًا حاولت أن أوقف رأسي عن اللف معها.. لقد كانت ثمة مطارق تهوي على مؤخرة عنقي، وكانت الفكرة الوحيدة التي سيطرت على رأسي هي أنني يجب ألا أقع في الوادي، فلو وقعت، فمن الحتمي ألا يستطيع الرفاق إيصالي إلى فوق حيث سيارتنا، إلا بعد مشقة هائلة ووقت طويل.. وعبثًا حاولت أن أسيطر على رأسي.. لقد انسحق كل شيء، إلا رغبتي في أن أصل إلى فوق، حيث السيارة، بأي ثمن...

ثم صحوت على السفح، كان الرفاق يتبعوني لاهثين، وكنت أطوي الصخور صاعدًا بكل ما في طاقتي من احتمال.. وحينما لامست عيوني سيارتنا هناك عاد إلي غثيان قاس، وصحوت مرة أخرى على طريق المستشفى...

إلا أن الذي حدث لم يكن هذا فحسب، لقد سبق صعودي الجبل إغماء استمر أكثر من ربع ساعة، قيل لي إنني دفنت رأسي في الرمل، وكانت يدي تشير إلى الجبال بحركة لولبية.. بينما أخذ جسدي ينتفض بحيث عجز ثلاثة من رفاقي عن مسكه وتثبيته في مكانه، كانت عيوني، أيضًا، مفتوحة حتى أقصاها، ولكنها عمياء... وكفاي ينبشان الأرض بجنون... لقد مكسوني هناك، بعيدًا عن كل شيء، وحشروا قطعًا من البسكويت في فمي ـ كنت أشكو نقصًا في السكر ـ ورشقوا وجهي بالماء... وقالوا إنني حينما صحوت قليلًا انطلقت أعدو فوق الصخور ميممًا شطر السيارة البعيدة، باذلًا جهدًا مسعورًا كيف أصل إلى هناك، في حين حسبوا هم أنني مازلت مشدودًا إلى إغماءة قاسية...

وفي المستشفى، كانت شفتي تنزف ولساني مجروحًا، لا أدري، أهو البسكوت الذي دفع إلى حلقي بقسوة سبب هذا، أم أنني كنت أعض على إرادتي كي أصل إلى فوق؟ أما في المستشفى فلقد اكتشفوا أن انخفاضًا حدث في القلب، وبذلوا جهدًا طيبًا من أجل إعادته إلى ما كان عليه..

حينما عدت منهوكًا إلى الأصدقاء كانوا ينظرون إلي بشفقة.. وكنت أنا أحس أنني أستحقها... لأنني أنا نفسي كنت أبكي في أعماقي... أبكي بكل ما في طاقتي...

10/1/1960

أمس، توفي الفيلسوف الوجودي ألبير كامو... صاحب فلسفة العبث، مات في موقف عبث، وأي رثاء له نوع من العبث ليس غير... لقد انتهى، وعليه أن يقنع بحياة عاشها عريضة، وإن لم يستطع أن يجعلها طويلة...

15/1/1960

رأيته بأم عيني... وحينما سرت القشعريرة في جسمي كان إلهًا ما صبَّ على رأسي قارًا مغليًا.. رفعت كفي لأغمض عيني حتى لا أرى أكثر... 

أكتب خائفًا من أن يصفع المنظر أعماقي فيودي بما تبقى من كبريائي؟.. أم أنني كنت لا أريد أن أرى كيف بذلك الإنسان نفسه من أجل أن يحتفظ بحياته؟.. كيف يناضل طفل بكل ما لديه من طاقة كي يصير كالآخرين؟؟ كيف يستحق كبرياءه بإرادته من أجل أن يعيش؟

كان، في رأيي كما يلي: ـ طفل صغير صغير، يتحدى إلهًا كبيرًا كبيرًا.. طفل قزم، يشد عنقه المتوتر إلى حضارة الخزي، ويبصق في وجهها.. طفل تجثم على صدره كل أخطاء الرب.. ولكنه يدفعها باذلًا جهده في أن يتغلب عليها...

لماذا يتعذب طفل دون أن يخطئ؟؟ إننا نعرف كيف؟، ولكننا لا نعرف لماذا؟ أليس هذا صحيحًا؟؟

بدأت القصة بأنني وقفت على شرفة غرفتي أراقب مباراة في كرة القدم بين فريقين من أطفال الحي... جمال المباراة كان في الجهد المبذول لا في مستوى اللعب... بدا لي، في لحظات، أن العالم كله، والله، والحضارة، لا معنى لها بالنسبة لهؤلاء الصغار سوى نتيجة هذه المباراة.. وهكذا كانت الدنيا كلها مخلوعة إلى خارج طموح هؤلاء الصبية، وكانت السعادة شيئًا يمكن أن ينال بواسطة بذلك الجهد فحسب...

وفجأة، برز بينهم، كان يلبس سروالًا أسود قصيرًا، وقد أرخى قميصه الطويل فوقه، شعره كان مشوشًا، ووجهه يبتسم بعناد رجولي لا يتناسب وعمره. كان صدره عريضًا، لا يتناسب على الإطلاق مع تلك الساق التي كانت تشبه خيطًا من القنب، والتي كان ينقلها إلى جوار ساق سليمة، ينقلها مشوهة، مرتخية، نحيلة، لينة، مشلولة...

وكان يركض بكل جهده، عناد رجولي في وجه طفل، كان يخجل، نعم، هذا أصح: رافعًا ساقًا سليمة، متريثًا على ساق كريهة، مشلولة، نحيفة كأنها ليست لهذا الجسد المتفجر بالحياة والجهد، وكان وجهه، إلى ذلك كله، جميلًا..

أكان جميلًا فعلًا؟؟؟... لماذا يتعذب الطفل بلا سبب؟؟ كانوا يلعبون هناك، صغارًا، باذلين جهدًا خارقًا، كأن الحياة كلها لا تعني لهم سوى أن يصلوا إلى نتيجة مشرفة، أو كانت كذلك فعلًا. وكان هو بينهم... وكانوا لا يعاملونه بشفقة، أو مجاملة، وبدا لي أنه كان سعيدًا بذلك إلى آخر حد، سعيدًا لأنه أقنع نفسه، للحظة، بأنه سعيد!! لماذا رفعت كفي إلى وجهي، وأخفيت هذا المنظر عن عيني؟.. ألأنني عرفت كم هو كبير، وكم أنا صغير؟.. ألأنني عرفت كم يناضل الإنسان من أجل أن يجعل حياته أكثر معنى، وأكثر جمالًا؟ أم لأنه لم يرق لي أن يبيع الإنسان كل حياته في سيبل لحظة كرامة واحدة؟..

لماذا؟

23/1/1960

قررت اليوم أن أبدأ بكتابة قصة طويلة، (سوف تكون أقل طموحًا من «كفر المنجم»، التي كتبتها في العام الفائت وفشلت)، لأنني سوف أحكي فيها قصة إنسان فرد... وأعتقد أنها لن تستغرق وقتًا طويلًا... وفكرتها في رأسي منذ زمن بعيد: الخذلان، سوف لن أستشير أحدًا فيها، إذ أنني وجدت أن أنسب مكان للآخرين يفرغون فيه أحمال عقدهم النفسية هو الثغرات المفتوحة في نفوس القلقين.

6/2/1960

بلادة وخمول، ولا شيء غير هذا على الإطلاق... هنا، في هذا البلد المصرور في الجمود والصمت نموت رويدًا رويدًا، دون أن نعرف كيف يعيش أي إنسان ناضل قرونًا طويلة في سبيل لحظة طمأنينة واحدة!.. صور الفتيان معلقة على الجدران تستذل رجولتنا، والموسيقى الحزينة تمتص أحاسيسنا، وكلمات المجاملة الكاذبة تهدهد طموحنا.. إلى أين؟ لسنا ندري... كل ما نعرفه هو أن غدًا لن يكون أفضل من اليوم.. وأننا ننتظر على الشاطئ، بلهفة، سفينة لن تأتي... وبأنه حكم علينا بأن نكون غرباء عن كل شيء... سوى عن ضياعنا...

إنني لست راغبًا في أي شيء... كل الأشياء التي اعتقدت أنني أحبها فقدت معناها تمامًا.... لست أحسن التصرف مع الأصدقاء... ولست راغبًا في الاستمرار أكثر داخل هذه الدوامة التي تدور كساقية مجنونة تفور في رمال صحراء عطشى منذ آلاف السنين..

أصحيح أن عمري خمسًا وعشرين سنة؟؟ إنني أتصور أحيانًا أنني عجوز متهدم ينتظر بصمت واستسلام دفة من الخشب ينقلونه فوقها إلى استقراره الأخير.. أو إلى استقراره الحقيقي...

21/2/1960

كتبت اليوم رسالة إلى (...) و(...) كانت قصة حب بلا شك.. أما الآن فهي مأساة.. إن رسائلها الأخيرة لي كانت تحمل طابعًا خاصًا.. كأنها كانت تريدني أن أقول موقفي بوضوح كي تعرف ماذا يتعين عليها أن تفعل.. وهذا حقها بلا أدنى شك. لقد كتبت لها رسالة اليوم، حاولت فيها أن أكون مخلصًا لها ولنفسي، وحينما قرأتها بعد كتابتها اكتشفت بوضوح أنني فعلًا أحبها... سوف أنقل إلى هنا بعض مقاطعها..

«... أنا مشوش جدًا... لذلك تبدو أفكاري مهزوزة.. والذي يشوشني خبر زفه الطبيب إلي ظهر أمس.. لقد بدأ هذا القلب المسكين يتعب... إنه يخفق بلا جدوى.. وحينما أنظر الآن إلى الأشياء أحس بأنني خارجها.. إنها مسحوبة من المعقول... إنني لا أخاف من الموت، ولكنني لا أريد أن أموت.. لقد عشت سنوات قليلة قاسية، وتبدو لي فكرة أن لا أعوض فكرة رهيبة.. إنني لم أعش قط... لذلك فأنا لم أوجد.. ولا أريد أن أغادر دون أن أكون، قبل المغادرة موجودًا... أتعرفين الذي أعنيه؟؟... إن شعوري غريب جدًا.. شعور إنسان كان ذاهبًا إلى مكان ما كي يتسلم عملًا ملائمًا، فمات ـ فجأة في الطريق..

إن شعوري الآن هو هذه «الفجأة» بالذات...

... لقد فكرت طويلًا طويلًا في رسائلك الأخيرة.. ووجدت أنك على مطلق الحق في موقفك.. ولكنني أنا الآخر أملك شيئًا منه.. لماذا لا نضع النقاط على الحروف جيدًا؟ لماذا لا نعترف بأننا «خطان متوازيان يسيران معًا ولكنهما لن يلتقيا..؟» لقد كتبت هذا الكلام لي منذ أول تعارفنا، وكنتُ وكنتِ في أعماقنا نرفضه على الإطلاق!

أيتها الغالية.. لماذا قدر للإنسان أن تكون أعمق جروحه تلك التي يحفرها بيده؟ تريدين أن أكتب لك بوضوح، أن أكفن سرابي بيدي، وأستمر بضياع بلا قاع؟ سألت في رسالتك الأخيرة: «هل مات الداتشمان؟». إنني أعتقد أنه مات منذ رأى باندورا لا يستطيع أن يأخذها معه عبر المحيط إلى السعادة.. وكل الذي كان بعد لقائهما هو محاولة مستميتة لنسيان هذا الموت.. بالاقتراب منه أكثر فأكثر...

أعرف أنك غضبى.. ولكن الغضب شيء يذهب.. أما الخذلان فيبقى.. أنا رجل مخذول. هل تستطيعين أن تحسي أعماق هذه الكلمة؟ كل الوحشة والغربة والضياع التي تعشش فيها؟ الخذلان لا يذهب... أما الخذلان الذي يصنعه الإنسان بيديه فإنه ينمو.. ينمو حتى يصبح غولًا..

لتحاولي أن تنسيني.. أنا لا أستحق ذكراك عني، كوني متأكدة من ذلك.. أنت تملكين الأمل والألوان والحياة والذكاء والجمال.. فلماذا تتمسكين بإنسان لا يملك سوى سواد قدره؟ حاولي أن تنسي.. أو حاولي أن تُصَّعدي ـ وأصر على هذه الكلمة ـ أن تُصَّعدي ذلك الحب إلى صداقة.. أنا لن أحاول شيئًا، سوف أرقبك وحينما أراك سعيدة.. سوف أشعر بأنني لست سببًا في تعاسة إنسان أحبه.. أحبه رغم كل شيء.. كوني متأكدة أنني لا أعتقد أنك سبب تعاستي.. لقد شغلت ثلاث سنوات من حياتي بأمل لم أذق مثله كل عمري.. وهذا يكفي في عالم لا يعطي المقابل..

آه يا عزيزتي لو استطعت فقط أن أمزق هذه الرسالة، وأكتب لك واحدة أخرى أكثر إشراقًا.. آه لو استطعت.. ولكنني أعرف أنني لا أستطيع.. إن الذي يستحق التمزيق هو حياتنا جميعًا..

«آه لو استطعت أيها الحب أن نتفق أنا وأنتَ والقدر

على تمزيق هذا الطابع الحزين للعالم

إلى قطع صغيرة صغيرة..

ثم نعيد بناءه... كما تشتهي قلوبنا!».

أتذكرين القصة؟ قصة «باقة ورد على ضريح الخيام»؟ لقد أوحيت إلي بها.. ولكنني أوحيت لنفسي نهايتها حينما كتبت:

«شعر بأن لم يخلق ليلي أبدًا.. بل إنها هي التي خلقته، وراوده إحساس طاغ بأنه لم يكن يستحقها على الإطلاق...». 

المخلص..»

لقد كانت رسالتها لي أمس فيها بعض الحياة.. ولهذا فأنا أتصور جيدًا كيف سيكون وقع هذه الرسالة على رأسها، وإلى أنني أتفاءل أن تجد طريقًا للخروج.. إنها مؤمنة بأن السعادة موجودة في مكان ما.. ولهذا فهي ستواصل البحث عنها...

وسوف تنساني.. لقد كتبت لي:

«إنني أفتقد رسائلك بشكل مخيف.. فأنت تكتب ببراعة وبعمق ـ حتى ما تؤلمني به.. ولقد آليت على نفسي ألا أجد في المستقبل سوى إنسان يكتب بمثل براعتك... عندما أنظر إلى صدر المسيح، في الصورة، أحس بك تلفح وجهي.. وأحس بنفسي تغرق في الإبحار من الحب مع الداتشمان.. ألا أخبرني بالله عليك هل مات؟ هل مات؟ هل تاه الداتشمان؟».

كتبت منذ يومين قصة «الخراف المصلوبة»، وهي الفكرة التي كانت في رأسي عن «الخذلان»... بدوي يقف في شمس الربع الخالي ينتظر من يعطيه ماء لأجل خرافه.. ولكن القافلة التي تمر من سيارات الحجاج ترفض إعطاءه ماء بسبب حاجة السيارات له، أما البدوي فلا يستطيع أن يفهم كيف تكون السيارة أثمن من الخراف ..

لقد قصدت إلى إبراز شعور الإنسان المخذول الذي تتهاوى قيمه العليا ومثله بسرعة وهدوء.. وحاولت أن أبرز مدى أهمية هذه القيم في نظر هذا الإنسان المتفرد بحوار هامشي على لسان طبيبين في القافلة:

«ـ انظر.. هانحن ذا أمام أسطورة إسبارطية من جديد.. الرجل والإله في مكان واحد.. ترى ماذا يفعل هنا؟؟

ـ يتعبد...».

وحاولت، أيضًا، أن أبرز المشابهة في الصورة: قافلة حجاج تحمل للإنسان الإله خذلانه..

وأعتقد أنها قصة ناجحة ..

22/2/1960

كتبت إلى صديقي فضل النقيب في ياكيما ـ واشنطن اليوم: «تأخرت في الكتابة لك، أنا أعترف، ولكن يشفع لي أن لا جديد عندنا هنا سوى استمرار هذه العجيبة: أن لا يكون أي جديد...».

ثم كتبت له أرد على لمحة استسلام شعرت بها بين سطور رسالته: «تريد أن تنسحب؟ لماذا؟ لأنك بعيد؟ إذا كان فضل يبعد عن القضية ألف ميل، فنصف شعبه يبعد عنها ألف سنة!.. المسافة لا قيمة لها لمن يعيش في لحظة الشروق.. تريد أن تنسحب؟ لا بأس، ولكن صدقني يا فضل أن الانسحاب أصعب بكثير جدًا من التحدي... لقد حكم علينا بأن لا ننسحب».

وكتبت إلى عدنان، صديقي السجين، الذي كتب إلي يقول إنه لا يعرف إذا ما كان قد تغير خلال مدة سجنه، فهو لا يملك مقياسًا، ولا يعرف كيف تغيرت الأشياء، وتغير الآخرون.. كتبت له: «أنت نفسك تعرف أنك تغيرت، لأنك تعيش من أجل ذلك.. إننا لا نحتاج للآخرين كي نعرف أننا تغيرنا.. نحتاجهم فقط كي نعرف كم هو ضروري تغيرنا...».

الواقع لم أكن أفكر بنشرها، ولا في جعلها قصة كاملة.. إن هذا كله دخل فيها، إلاَّ أني أعتقد أن شعوري تجاهها بالضبط قد تحدد خلال كل تلك الأحداث... وهو الشعور الذي عبرت عنه ـ قبيل أسطر ـ بكلمتين: «لست أدري!».

2/3/1960

«أن يسقط الإنسان من السماء بلا مظلة.. ثم يمضي طريقه إلى الأرض مفكرًا.. شيء لا يحتمل..».

17/1/1961

كتبت أمس قصة جديدة: «المجنون»... وأنا أعتقد أن بناء قصة من هذا الطراز عمل صعب للغاية.. لقد كانت فكرتها كاملة في رأسي تقريبًا.. ولكن المشكلة هي مشكلة الجمل العابرة، والمفروض أن تكون عابرة في السياق إلى حد عادي جدًا، والتي يترتب على قوتها كل ما يمكن أن تعطي القصة من تأثير مقصود.. والمشكلة كانت في أن هذه الجمل لا يمكن أن تكون شيئًا معدًا سلفًا، ولابد أن تكون من وحي أسلوب القصة نفسه، وطريقة أداء الحادثة .. وهكذا فإن جو كتابة القصة هو وحده المسؤول عن خلق تلك الجمل.

لقد كتبتها على دفعتين، ومعظم الجمل العابرة الموحية كانت من حظ الدفعة الثانية.. وأعتقد أنها ليست بحاجة لأن تكتب مرة ثالثة... إذ أن أهم ما فيها ـ في رأيي ـ هو سهولة السياق، وعفويته، وبساطة التفكير.

كتبت القصة من داخل المنطق الخاص المجنون هذا، وهو نموذج لم أقرأ عنه، ومن هنا كانت صعوبة قصور منطقه المتسق، بل إني أشك في أنه «مجنون واقعي، ولقد قصدت ذلك قصدًا.. لأن "خلق" مجنون أصعب، في رأيي، من "دراسة" مجنون».

أفكاره تعتمد على تداعي الأفكار العفوي.. وهي أفكار لا علاقة لها ببعضها إلا بمقدار ما توحي كل جملة بمطلع ما بعدها.. وهكذا فلقد كان من الضروري أن تكتب الجمل القصيرة، واضحة، وسخيفة من حيث التركيب الفكري.. واعتمدت، أيضًا، على نقطة هامة: المجنون هذا يفترض أنه كان سيئًا، وبائسًا، وغير موجود قبل أن يجن.. وإلى ذلك، فهو يعترف، دون أن يواجه اعترافه مباشرة، بالسبب الرئيسي الذي دفعه إلى الجنون.. وهو حينما يقترب في ذاكرته من حادثة يكرهها يحاول أن يتصور أنها حدثت مع آخرين، وربما حيوانات، ولكنها لم تحدث معه..

ووراء كل ذلك، كان لابد أن أضع الخلفية الباهتة، ولكن الضرورية، التي تتحكم هذه الأيام بكل ما أكتب، وهي: أين يوجد الصحيح؟ من هو الذي على صواب؟ ما الفائدة من كل شيء؟ والفكرة الهامة التالية، وهي أن القلب الإنساني، مجنونًا، أو وضيعًا، أو نبيلًا، لابد أن يحمل كل صفات الإنسان هذه، الجنون والضعة والنبل، معًا، والفرق في الكمية التي يحملها من تلك الصفات.

5/2/1961

يبدو لي كأنما الرحلة القصيرة على وشك أن تنتهي... وأحس نهايتها إحساسًا مباشرًا كريهًا.. عشت اليوم ساعات مقطعة.. أتصور الآن أن ساعات بعض هذا النهار كنت فيها ميتًا فعلًا.. إني أرتجف، لسبب لست أدريه، وفي الوقت نفسه، أفكاري ترتجف كما لو أنها جسد ينتفض باحتضار غريب.. أفكاري كانت اليوم شيئًا يشبه شريط تسجيل رطب ممسوح، عفوًا، في بعض نواحيه.. وهكذا، فإنه يمر فوق انقطاعات صامتة، قصيرة، ميتة.. ورغم كل ذلك، فهي موجودة بشكل ما..

أي شيء كريه أن يموت الإنسان! والأبشع أن يكون جسده هو السبب.. في الأسابيع الأخيرة كنت أفكر بصورة تثير ضحك بعض من أعرف.. ذلك أني كنت عائدًا إلى البيت في منتصف الليل، كان الشارع خاليًا إلا من إعلانات مضيئة: تنطفئ، وتشتعل برتابة.. حمراء، وخضراء، وبيضاء.. وفجأة فكرت:/ أن المأساة كلها، هو أنه عندما أموت سوف تبقى هذه الإعلانات تضيء وتنطفئ، وسوف يبقى مصعد بيتنا يلبي كلما ضغط أحدهم على الزر، وأشيائي كلها سوف تباع، لينام عليها، وليستعملها إنسان آخر.. والمجلة التي أعمل فيها سوف لن تكف عن الصدور... وسوف يرن جرس الهاتف، ويجيب أحدهم: «إنه مات»، ثم يضع الآلة السوداء، ويفكر في غدائه ..

لقد بدت لي الأفكار هذه مرعبة بصورة جارحة.. وأرهقتني فكرة أن أموت... أن أنتهي، ويستمر كل شيء...

الرحلة لن تطول كثيرًا.. هذا هو الشيء المؤكد لدي الآن... ما الذي يحدث في جسدي؟ أي شيطان يذيب بناء اسطورية كل جوفي؟

24/8/1962

قبل منتصف الليل بساعة ونصف ولد فائز...

وحين هتفت الممرضة تقول مبروك، أحسست به، فائز، يقع فوق كتفي... ولمدى لحظات أحسست بشيء يشبه الدوار. وفي صخب المشاعر التي كانت تجتاحني، أحسست بأنني مرتبط أكثر بهذه الأرض التي أمشي عليها، كأن وقوعه فوق كتفي قد غرسني عميقًا في التراب..

وفي الصبح، حملته الممرضة، وعرضته أمام عيني من وراء الزجاج، وبدا لي قطعة لحم حمراء غبية، مغلقة العينين، مفتوحة الفم، راعشة الكفين.. عينان أمامهما الكثير لترياه.. وفم عليه أن يمضغ طويلًا، وكفان لا يدري أحد أهما للعطاء، أم للأخذ، أم لكليهما؟

قال لي الطبيب الواقف إلى جانبي:

ـ ما هو شعورك؟

ـ لا شعور لدي..

ـ أبدًا؟

ـ أبدًا ..

كأنني كنت أقول لنفسي أن في الوقت متسع لملايين من المشاعر، متسع للغضب والفرح والمفاجأة والخيبة والسعادة والشقاء والضحك والأسى والحب والكره والانتظار والملل.. ملايين من اللحظات المترعة بغزارة كل ما في هذه الأرض من تناقض.

وفي الغرفة الأخرى، كانت أمه ملقاة فوق الفراش. لقد نسيت كل الآلام التي اجترعتها في سبيل أن يولد، نسيت كل الدموع التي أهرقتها في العشرين ساعة الماضية، نسيت كل شيء.. كأن الحب الجديد الذي ملأها فجأة، حين قالوا لها إنها وضعت، الحب الغزير الذي لا يمكن أن يحمله إنسان لإنسان إلا الأم لابنها.. كأن هذا الحب قد غسل كل شيء بيد اسطورية ..

وبينهما، هو بين يدي الممرضة وراء الزجاج، وهي في سريرها غير قادرة على أن تخطو لتراه معي، كنت أقف أنا مغسولًا بالحب والخوف، صافٍ كأنني من زجاج .. ليس ثمة أي شيء أفكر به، أو أهتم له، مجرد رجل يقف مثل ملايين الرجال الذين لا يعرفون حقيقة المستقبل، العاجز الضئيل الصغير أمام المجهول الذي يطوقه بزوجة يريد أن يعطيها ماء عينيه، وولد يريد أن يهبه نبض شرايينه.. واقف هناك كما لو أن المشاعر الجدير بأن يحملها أثقل من أن يحملها، فتركها تحوم حوله، كهواء له صوت، وله رائحة، وله ثقل، تمسه كما تمس الحجر، وتغوص في كيانه حتى ليجهل أهو الذي نفثها، أم هي التي نفثته ..

وحين أنامته الممرضة من جديد خطوت عائدًا إلى غرفة زوجتي.. ولكن ما إن سمعت صوت خطواتي حتى عدت إلى عالمي، عالم بعيد مطوق بشيء اسمه حب حقيقي.. حب لا إلزام فيه ولا جزاء.. حب لذاته، بلا تعويض، بلا ثمن، بلا خوف، حب صافٍ لم أحس به أبدًا من قبل، أبدًا أبدًا، حب لذلك الطفل الذي ولد مني، بسببي، ومن أجلي، وكان ثمنه حبي لها، وحبها لي، ليس غير.. حب لا غاية له، ولا هدف، حب مترع العطاء، يطوف في صدري حتى أحسه يسكب في جسدي، كما لو أنه ينضح ندى فيبعث فيَّ فرحة اللقاء الحقيقي الذي لم يلوث بعد بتعقيدات الحياة، بقانون خذ وهات، وقانون أنت وأنا، وقانون أين ولماذا وكيف.. مجرد عطاء محض غير مشوب بأي سؤال، أو طلب، أو انتظار، أو تلكؤ، أو تردد.. مثل ماذا؟ مثل لا شيء، مثل ذاته ليس غير.. لو قدر لنبعة الماء أن تحس، إذن لأحسَّت ذلك الشعور، العطاء المحض الذي يخلق من جديد كلما شرب عابر من مائها ..

وحين نظرت في عيني «آني» فهمتها، ولست أدري لماذا أوشكت أن أبكي، بل إنني أحسست بالدموع تطوف في حلقي مثل الغصة.. وبذلك كل طاقتي لأقول أي شيء، عبث .. لم يكن في لساني إلا ذلك التساؤل الغبي: إذا أعطيتم الطفل حق البكاء حين يولد، أفلا تعطوني هذا الحق حين أولد أنا بولادته؟ أليس كل الأيام التي خلفتها وراء ظهري ذابت الآن؟ ألا يحق لي أن أفعل كل الذي أشاء وقد عثرت على قطعة السكر في قاع الكأس الذي اجترعت مرارته كل شبابي؟؟

ولكنك كنت وراء الزجاج يا فائز، بيني وبين لمسك مثل ما بين اليوم واليوم.. نائم هناك في غطائك الأبيض، تعني للمستشفى رقمًا مربوطًا إلى زندك ليميزك من بين عشرات المواليد الذين يشاطرونك الغرفة.. أما بالنسبة لي فإنك تعني الحياة المزدوجة، حياتك، وحياتنا: أمك وأنا..

أو تدري متى بدأت أفكر بك؟ أقول أفكر بك، وقد أحسست بك كل الوقت؟

حدث ذلك حين دخلت الممرضة لتأخذ أمك إلى غرفة أخرى:

ـ لماذا؟

لأن هذه الغرف خاصة بالدرجة الثانية، وأريد أن آخذ زوجتك إلى غرفة الدرجة الأولى..

ـ ولكنها مسجلة في الدرجة الثالثة!

ـ الثالثة؟ أوه، عفوًا إذن، لقد حسبت أنها مسجلة في الدرجة الأولى..

عندها فقط جعلوني أحس بأنني فقير.. وبأنني لن أعطيك الحياة التي يستطيع غيري أن يعطوها لأبنائهم.. ولأن هذا كله قد يعني لديك ـ غدًا ـ شيئًا..

لا تحسب أنني أريدها أن لا تعني لديك أي شيء.. الأمر لا يتعلق بك، أنه يتعلق بي أنا فقط.. لست أريد أن يشوب عطائي أي ندم..

أنا، يا فائز، لا أطالبك بحق الأبوة في المستقبل.. هذا الذي لا قيمة له إذا طالب المرء به، إنما أطالب نفسي بحقك علي، وهذا هو كل شيء عندي الآن.. لقد اكتشفت الآن فقط أن كل شيء سيبدو تافهًا لو طالبتك بأن تعوض لي سعادتي بأبوتي لك.. ولكنني لن أغفر لنفسي تقصيري بالمضي في هذه السعادة حتى آخر الشوط، بلا مقابل، بلا تعويض، هذه قضيتي أنا... أتعرف معنى هذا؟

.. وأنا أخرج من غرفة أمك عرفت أيضًا معنى الهم.. ذلك العبء الذي يثقل أكتاف الرجال، لأنه ينبع من الداخل، عميقًا من الداخل، والذي يعطي الحياة ذلك الحافز النبيل الذي يفتقر إليه رجل لا يعرف معنى العبء الذي ينبع من الداخل..

لقراءة الجزء الثاني... هنا