إن اتفقنا أولاً على أن الحروب، الأهلية منها تحديداً، ظاهرة بشعة في هذا العالم، ومن ناحية أخرى أن الفنون، بشتى أشكالها، ظاهرة جميلة في العالم ذاته، قد نصل إلى نتيجة أن مقاربة الحروب من خلال الفنون -الموضوع البشع والوسيط الجميل- هي الأكثر كشفاً لفظاعات تلك الحروب وعنفها، وهذا الكتاب، «دم الأخوين» (رياض الريس للكتب والنشر - بيروت - ٢٠١٧) يقدّم دراسات متنوّعة عن تلك الفظاعات، من خلال قراءة أعمال وموضوعات فنية تناولت الحروب وأظهرتها، وهذا حالها، بشكلها الأكثر بشاعة.
لكنها، دراسات الكتاب، لم تقتصر على الفنون إذ امتد التنوع فيه إلى دراسات سوسيولوجية في الحروب، وأخرى تأريخية، وهي منفصلة عن بعضها، إذ كُتبت لمناسبات ومنشورات مختلفة، إلا أنها تمركزت حول موضوع أساسي هو الحرب، أو تحديداً الحرب الأهلية، مبتدئاً بدراسة «العنف في الحروب الأهلية: وظائف وطقوس» (أُخذ منه العنوان الفرعي للكتاب) الذي يروي فيه، باستثنائية تعلَق في الذاكرة، تحليلاً سوسيولوجياً، ممتداً إلى "السيكولوجيا الاجتماعية" لطقوس سادت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، ماراً بحالات فردية كان لأفعالها تأثيرات جماعية، وغير منتهياً بأدوار الطوائف والأحزاب والعائلات في تلك السلوكات الجماعية والفردية.
لذائقة طرابلسي الخاصة حضورٌ في انتقاء الأعمال الفنية التي من خلالها تحدّث، المؤرّخ، عن الحروب، فكان للحديث الموضوعي محفزات ذاتية، كأن يختار الحديث «عن الكاثار والشر وما يرسمون» إثر زيارة سابقة له إلى آثار معقل هذه المجموعة الدينية عند مدينة تولوز الفرنسية، أو عن الفنانَين كاثي كولفتس وكارافاجيو، أو لوحة غيرنيكا لبيكاسو، وقد أفرد لها صفحات واسعة، ولطرابلسي كتاب صدر عام ١٩٨٧ هو «غيرنيكا-بيروت.. الفن والحياة بين جدارية لبيكاسو وعاصمة عربية في الحرب»، يُعتبر «دم الأخوين» استمرارية له، لتشمل الدراسات أعمالاً فنية بأجناس مختلفة، فاختار مسرح هينر مولر ليكتب عنه، وقد أُهدي سيرة ذاتية له، وفيلماً بوسنياً هو «الدائرة الكاملة» ومسرحية «العصفور الأحدب» لمحمد الماغوط وقصائد له، وغيرها كالملصقات السياسية أثناء الحروب.
وإن كانت مواضيع الدراسات متفاوتة زمانياً ومكانياً وثقافياً وفنياً، إلا أنها أتت، هنا، مرتبطة بالراهن العربي، المشرقي تحديداً، فإضافة إلى الدراسات المكتوبة حديثاً (الأخيرة منها كانت افتتاحية العدد الأخير من مجلة بدايات التي يحررها طرابلسي، وأعدنا مؤخراً نشرها، عن المجلة، في رمّان) هنالك إضافات على تلك المكتوبة في أزمنتها، كالدراسة الأولى وهي ترجمة منقحة لفصل من أطروحته الفرنسية الصادرة عام ١٩٩٣.
بذلك، تخطى الكتاب احتمال أن يكون كتلة واحدة من دراسة قد يشعر القارئ بالاكتفاء منها في منتصفها فيفقد، وقد أُرهق، رغبته في مواصله القراءة، كما أنه تفادى أن يكون تجميعاً لمقالات قد تُعيي القارئ في محاولاته لإيجاد رابط بينها. وتذكّر طبيعةُ الكتاب بكتابَي الناقد الألماني ڤالتر بنيامين المترابطين: «إشراقات» (Illuminations) و«تأملات» (Reflections)، وهي دراسات ثقافية في شتى المواضيع الفنية والأدبية والاجتماعية والفلسفية وإن لم تكن مواضيعه مترابطة بالشكل الذي هي عليه هنا.
بالحديث عن الحروب، إن كان الكتاب، أي كتاب، المتضمّن دراسة واحدة بموضوع واحد يهجم على قارئه من محور واحد، فإن «دم الأخوين» و«إشراقات» والكتب المماثلة تهجم على قارئيها من عدّة محاور، لكل منها قراءته وموضوع قراءته الخاصين.
نقرأ في كتاب طرابلسي عن العنف والحرب وتمثيلاتها في أكثر من شكل فني وأدبي، ونعرف كم هو، العنف، سلوك "إنساني" أكثر منه حيوانياً، ننتبه إلى أفكار فرعية عديدة، لن أجعل هذه المقالة تعداداً سريعاً لها، فلن يفيها حقها غير قراءتها. وننتبه، كذلك، لأعمال فنية كانت، هنا، بمثابة اقتراحات الكاتب للقارئ كي يطّلع عليها، يشاهدها/يقرأها، ليفهم أكثر وحشية هذا العالم، وقد لخّص طرابلسي ذلك في الصفحة ١٧١ قائلاً:
"بوسع الواقع أن يتشبّه بالأدب قدر ما تريدون. يتغلّب الأدب على الواقع في جولات وجولات. لكن الواقع لا يلبث أن يبزّ الأدب عنفاً. يتوحّش تخييل الأدب لينافس الواقع. يزداد الواقع توحشاً لينتصر على الأدب. ليس الواقع أغرب من الخيال. الواقع أغرب من واقعه. الواقع أوحش من أوحش ما في الخيال."
ننشر قريباً مقابلة أجريتها مؤخراً مع طرابلسي تناولت مواضيع فلسطين وسوريا واليسار.