رشا سلطي: ركّزت تظاهرة مارسيليا على صانعي صور فلسطين وسردياتها

2017-04-17 06:00:00

رشا سلطي: ركّزت تظاهرة مارسيليا على صانعي صور فلسطين وسردياتها
Photo Credits: Christoph Terhechte

كانت فلسطين حاضرة في مارسيليا قبل أسابيع من خلال تظاهرة «تصوير فلسطين» الذي نظّمت له رشا سلطي، وهي قيّمة في الفنون والسينما وكاتبة مستقلة تقيم في بيروت. التقينا برشا وأجرينا معها هذه المقابلة عن التظاهرة.

كيف بدأت الفكرة، قبل تنفيذها؟ حسب متابعتي ليس هنالك الكثير من الفعاليات الشبيهة، بمعنى تنوع الوسائط الفنية، فمعظم المهرجانات تكون متخصصة: سينما، موسيقى، فنون…

بدأت الفكرة بأن المتحف اتصل بي، اتصلت بي المسؤولة عن عروض السينما وقالت أن المتحف سيقيم برنامجاً عن فلسطين، أو كان بدايةً عن فلسطين وإسرائيل معاً، فلديهم وهمٌ، كأوروبيين، بأن مشكلتنا هي أننا لا نعرف كيف نتصالح. أخبرتها بأن مشروعاً كهذا لا يهمني ولا أعتقد بأنه سيهمّ لا الفلسطينيين ولا الإسرائيليين، كانت هي شبه مقتنعة بذلك، هي وليس المتحف. أخبرت الإدارة بما قلته لها لكنهم أصروا، فطلبت هي منهم أن تسافر إلى فلسطين وتسأل هناك، فذهبتْ إلى مدن الضفة ومدن الداخل وسألت الطرفين ووجدت بأن الفلسطينيين والإسرائيليين لا يرغبون بمشروع مشترك، فعادت وكتبت تقريراً لإدارة المتحف التي قررت على إثره أن تقيم برنامجاً لفلسطين ليتم لاحقاً البحث في إمكانية قيام برنامج مخصص لإسرائيل. فعادت إلي لتسأل إن كان يهمني برنامجاً عن فلسطين فقط، فوافقت.

بدأتُ أفكر ببرنامج عن السينما الفلسطينية. لكن في السنوات العشر الأخيرة صارت السينما العربية تسافر وتقيم علاقات وتشارك في مهرجانات، فليست السينما الفلسطينية مقموعة بهذا المعنى، وفي مارسيليا مهرجان هام جداً هو "فيدمارسيي" والذي أعطى فرصاً للسينما التجريبية العالمية ومنها الفلسطينية ليتم عرضها. ففكرت بأن عرض أفلام فلسطينية لن يضيف الكثير والمميز في التظاهرة التي سأنظمها. خطر لي أن موضوع فلسطين اليوم مميز ومثير وذلك لأن الأفق السياسي مسدود بشكل غير عادي، والأفق الإسرائيلي كذلك مسدود ويتشدد عنفاً وسواداً، ووضع غزة كارثي، ووضع الضفة كارثي، وكذلك المخيمات في الأردن ولبنان، وفي سوريا حيث كانت المخيمات في حال أفضل من غيرها، صارت مع الحرب والتدمير الوحشي لمخيم اليرموك، في حال فظيعة. وعند تدمير هذا المخيم وحصاره، لم يؤثر ذلك على أحد. لكن رغم أن الأفق السياسي لدى القيادات مسدود ومعدوم، الملفت في الوضع الفلسطيني هو أن حالة الإبداع حيوية ومجازفة وقادرة على التفكير بمواضيع لا يمكن أن يعرف السياسيون كيف يبدؤون بالتفكير فيها.

بعدها، فكّرت بعناصر السينما، وهي الصورة والسرد، ومن هنا بدأت بحبك البرنامج، لم لا نقيم برنامجاً عن فلسطين يكون تحديداً عن تصوير فلسطين، عن صورة فلسطين وصانعي صور فلسطين، وصانعي السرد، سرديات فلسطين؟ من هنا دخلتُ إلى فكرة اللغة، فكما أن هنالك اللغة البصرية السينمائية، للغة المحكية في فلسطين قصتها، هناك يحكي الفلسطينيون العربية، وفي الداخل يضطرون لأن يتكلموا أحياناً بالعبرية، علاقتهم بالعبرية شائكة، وأهالي الضفة وغزة دخلت العبرية إلى عربيتهم بطريقة فظيعة، فهي تعبّر عن العنف، هي مفردات الاحتلال والتعامل مع قوى اضطهاد وقمع، فقد دخلت، مثلاً، كلمة "محسوم" العبرية القاموسَ الفلسطيني، نقول في لبنان وسوريا كلمة "حاجز"، لكن "محسوم" صارت تدل على حاجز الاحتلال، من هنا أتت فكرة التظاهرة.

فكرت كذلك بأن الموضوع الآخر الملفت لدي هو: كم هي فلسطين أرضاً متخيلة! صنع الفلسطينيون صوراً لفلسطين، والغريب أن ما صنعوه مرتبط بمكانهم، فمنظمة التحرير الفلسطينية أسسها لاجئون، وليس شعباً تحت الاحتلال، بل مَن هم خارج الأرض والاحتلال، وحين أرادوا تكوين صورة لفلسطين، كتمثيل بصري لها، لجأوا إلى الفنانين، فلم يكن هنالك إمكانية لإنتاج صور عن الحاضر الآني ولم يكن ممكناً أن يحمل فلسطيني في فلسطين كاميرا ويصوّر ويرسل الصور إلى بيروت أو عمّان أو دمشق، فلجأوا إلى الفنانين.

هنالك أجيال تربّت على صورة القدس كما رسمها حلمي التوني، وهذا أمر ملفت، ليس هنالك بلاد مرت بتجربة كهذه، فهذه الصورة تزامنت مع الفترة التي كانت منظمة التحرير تحكي فيها بـ "الثورة الفلسطينية". انتهت الثورة وصار اسمها "القضية الفلسطينية"، وقتها تزامن اندلاع الانتفاضة الأولى مع ظهور الستالايت والقنوات المتخصصة للأخبار والبث المتواصل، وأنا أول مرة رأيت فيها شيئاً اسمه الجليل كان على التلفزيون، مرافقاً لأحداث الانتفاضة. وهنا بدأت تتشكل صورة مختلفة تماماً، صار هنالك كاميرا تلتقط صورة بث مباشر، مختلفة تماماً عن صورة تنتجها مخيلة فنان. لم يكن هنالك برنامج متخصص للبحث في كيفيّة تخيّل فلسطين وما الذي يتم تخيله عن فلسطين.

هذه الفكرة، صورة فلسطين والسردية هو ما جعلك تنوعين في مضمون الأعمال الفنية والخروج عن السينما؟

تماماً، لذلك كان هنالك العديد من الفنانين البصريين.

على من كان التركيز؟

على الناس والفنانين ممن لديهم ميول للتحدي، و"التخريب" ومن تخطوا فعلاً حواجز واقعية وإيديولوجية، يزيد عناني مثلاً كان من القلائل الذين انتقدوا بأعمالهم السلطة الفلسطينية في مشروع روابي، تناول عناني المشروع السكني والمقام لطبقة وسطى مرتاحة جداً، وهو مشروع منسوخ عن مستوطنة، والإعلانات له تشبه إعلانات المباني في مدينة كدُبي، كأنك في بلد غير محتلة، ثم أنهم محوا الطبيعة الجغرافية للمكان.

وهنالك خالد حوراني، فقد أوجد مشروع "بيكاسو في فلسطين" حراكاً كبيراً وجيّش طاقات ومخيلات وجعل الناس تتفاعل مع واقع فلسطين بطريقة أخرى، هذا ما أحببت عرضه في التظاهرة، أعمال فنانين اشتغلوا على مقاربات كهذه. ففي إبداعهم خرجوا عن المعتاد والمتوقّع.

وقد دعوت فنانين بالحدود الزمنية والإمكانات المالية المتاحة، فالمتحف أصرّ على أن لا تكون التظاهرة بفترة زمنية متواصلة، بل بفترتين تتخللهما عدة أيام استراحة، وكان لذلك تداعيات، كان عندي حدود لعدد الفنانين المدعوين وكيفية نسج البرنامج، الانتقال من عرض فيلم إلى محاضرة إلى نقاش… فالفنانين الذين دعوتهم ليسوا الوحيدين ممن تدخل أعمالهم في سياق التظاهرة، بل هم من استطعت دعوتهم.

الفنانون الموجودون أتوا من عدة أماكن من العالم، هل شكّل ذلك أي صعوبة؟ نحن لا نحكي مثلاً عن تظاهرة يأتي جميع مدعويها من بلد واحد. الفلسطينيون أتو من أميركا ولبنان وأوروبا وفلسطين…

صحيح، كون المسؤولة في المتحف سافرت إلى فلسطين، فهي تعرف كم هو صعب الدخول والخروج من تلك البلد، وكانت مصرة على دعوة فنانين من غزة، دون أن نستطيع. وعندما يتم دعوة فنانين من رام الله كان لا بد أن نحسب بأنها سفرتان: من رام الله إلى عمان عبر الجسر، ثم من عمان إلى مارسيليا، وبسبب مواعيد الطيران كان لا بد أن يمضي المسافر ليلة في عمان، وذلك مكلف. فعادة ما تفضل المؤسسات الأوروبية ألا تدخل في هذه التعقيدات. هنالك مثلاً فلسطينيون في أميركا، وهي بعيدة والتذكرة مكلفة، لكن المتحف أتاح لي فرصة دعوة فلسطينيين من هناك. ثم إن الفلسطينيين لا يتكلمون الفرنسية، وذلك سبّب كلفة إضافية وهي الترجمة الفورية في كل الأنشطة. هذه كانت الهواجس والمشاكل التقنية، أما أن تجمع فلسطينيين من أماكن مختلفة فهذه كانت ممتعة.

لنرجع إلى البرنامج قليلاً، لمَ تم عرض أعمال قديمة في البرنامج، وعدم التركيز على أعمال أُنتجت حديثاً؟

لأن البرنامج اتخذ صيغة البحث. جزء منه كان عرضاً تاريخياً، بدأناه بعرض للأخوين لوميير عن فلسطين، وهي الصور السينمائية الأولى عن فلسطين، أحببت أن نرجع إلى هذه النقطة لأن مسار القضية اليوم في أزمة، وأحببت أن نعرض أفلاماً انعرضت في الثمانينيات، منها فيلم ميشيل خليفي «معلول تحتفل بدمارها»، والتسعينيات، لا للاستذكار بل لنقلِ سياق تاريخي لفلسطين، ليرى أحدنا كيف تغيرت صورة فلسطين.

هل من خطة لنقلِ هذه التجربة إلى مدن في بلاد أخرى؟

لم أكن بداية أعرف إن كانت التجربة ستنجح أو تفشل، لم يكن لدي فكرة مسبقة عن النتيجة، لكن ما فاجأني كثيراً وأفرحني، هو أن معظم المشاركين طلب إعادة البرنامج السنة القادمة في مدينة مختلفة، وهذا ما سنسعى إليه. هنالك صديقة أتت لتحضر البرنامج وهي تعمل في مؤسسة ببرلين، أخبرتني بأن هنالك إمكانية لإعادة تنفيذ البرنامج في برلين السنة القادمة.

حتى حين نفكر بموضوع تأشيرات الدخول، فللمتحف في مارسيليا علاقات وثيقة مع سفارات الدول، وبالتالي تم تأمين التأشيرات بسهولة وفكرة التأشيرات هذه جعلتني أتساءل عن البلد العربي الذي يمكن أن نجمع فيه هذا الشتات الفلسطيني، من الداخل والضفة وغزة وفرنسا ولبنان والأردن… أما أوروبا، في إيطاليا بعد برلين مثلاً، فيمكن عملياً التفكير بمدينة نعيد فيها تنفيذ البرنامج.

هل للبرنامج علاقة بجمهور محدّد، الأوروبي مثلاً؟

أظن ذلك، لأن البرنامج لم يكن يقدّم أعمالاً جديدة. ليس لفرنسا صلة وثيقة بالفنانين الفلسطينيين، إلا المقيمين فيها. فربما كانت التظاهرة جديدة على الجمهور في فرنسا. عرضتُ بعض الأفلام في مارسيليا قبل تسعة أشهر، أعيدُ عرض بعضها اليوم ليس لأنها لم تُشاهد وقتها، بل لأن تلقيها سيكون مختلفاً في سياق البرنامج، سيقدم ذلك للأفلام إمكانية قراءة مختلفة، يعني ذلك أن الجمهور يجب أن يتابع الأنشطة، فعرض فيلم في يوم ما سيكون مرتبطاً بنقاش تم قبله بيوم، لنقل. فبرنامج كهذا يمكن أن يعرض في أي مدينة. أردت إيجاد سياق، وفي هذا السياق توجد عروض أفلام ونقاش ومحاضرات وتفاعل مع الجمهور، فالسياق هو الذي كان جديداً وليس عناصر البرنامج.

بالحديث عن فلسطينيي سوريا، لمَ لم يكن هنالك عروض تخصّهم؟

لم يكن المهرجان فلسطينياً، بل كان عن صورة فلسطين، وفلسطينيو سوريا قليلاً ما أنتجوا صوراً خلال حكم حزب البعث، والتصوير آنذاك كان صعباً، لذلك فالتصوير الفوتوغرافي والأفلام الوثائقية الآتية من هناك قليلة جداً. الأفلام التي خرجت فجأة متزامنة مع الحرب الحالية، مرتبطة أكثر بتجربة الحرب السورية، وبالخراب والنظام وداعش والثورة، وذلك خارج فكرة صورة فلسطين. هنالك فيلمان خرجا مؤخراً لكنهما عن تدمير مخيم اليرموك وصموده، فيلم «شباب اليرموك» رائع لكنه عن سوريا وفي المخيم الفلسطيني، يُظهر كيف تفجّرت أمراض النظام البعثي في وجه هذا المخيم، هو مهم لكنه خارج السياق المطروح في التظاهرة. تفاديت في التظاهرة مسألة تمثيل فلسطين: فلسطينيي لبنان أو سوريا أو الضفة أو غيرها.

يعني ذلك أن البرنامج كان عن صورة فلسطين وليس صورة الفلسطينيين؟

تماماً، وهو لا يركز على التجربة الفلسطينية. حين نحكي عن التجربة المعاشة، ندخل في سياق مختلف، كالحديث عن تجربة فلسطينيي سوريا ولبنان وتشيلي والخ.

ما هو تقييمك للأعمال المشاركة؟

من الصعب الحديث عن الأعمال. طالما أني أدخلتها في البرنامج فذلك يعني أني أحببتها كثيراً وأن فيها العديد من الميزات، لكن المثير أكثر بالنسبة لي كان تنسيق النقاشات ومحاضرات الفنانين لأن ذلك حيوي أكثر ويحتاج التحضير مع المشاركين، ولأني أعرف هؤلاء الفنانين وبأي طور هم وأعمالهم، نسقت البرنامج على هذا الأساس، مثلاً هنالك خالد حوراني، أعرف أن مشروعه "بيكاسو في فلسطين" الذي تكلم عنه كان في سياق البرنامج، لكنه في الوقت ذاته كان لتوه قد أنهى معرض "الرجل الأزرق" في عمّان، فتركت له مساحة للحديث عنه. الأمر الآخر الذي كان أساسياً جداً، هو أن المتحف قدم مجهوداً رائعاً بأن جمع طلاباً من أكاديميات الفنون في مارسيليا والمدن المجاورة، وكان عددهم يقارب ٢٥، وكانوا حاضرين دائماً، صباحاً ومساء، وكانوا مهتمين بشكل غريب أثّر بي. وقد طُلب منّا أن نؤمّن لهم المحاضرات الصباحية، كان ذلك مرهقاً لكنه مهم.

وتقييمك للتظاهرة بشكل عام؟

أولاً تفاجأت بأن المشاركين جميعهم كانوا سعيدين بلقاءاتهم مع بعضهم، ثم حين اقترحوا إعادة البرنامج تأثرت وأحسست بأن هنالك فعلاً حاجة لدى المبدعين كي يجتمعوا. بالنسبة لجمهور مارسيليا، هنالك استقطاب حاد يشمل الموضوع الفلسطيني، بين المناصرين للفلسطينيين والصهاينة، توقعت أن يحصل مضايقات لكن لم يحصل أي شيء. في الفترة الثانية من البرنامج لاحظت تكرر الأوجه، لفت انتباهي اللطف في الأسئلة والاهتمام بالمشاركة، وإن كنت أتمنى لو كان الجمهور أكبر. أحببت البرنامج، وكذلك المشاركون.

صور من التظاهرة:
 



 

عصام نصار



 

أنطون شماس وفواز طرابلسي



 

سليم تماري ومهند يعقوبي


 

خالد حوراني


 

رشا سلطي