قصة لغسان كنفاني: أرض البرتقال الحزين

2017-04-26 05:00:00

قصة لغسان كنفاني: أرض البرتقال الحزين

عندما خرجنا من يافا إلى عكا لم يكن في ذلك أية مأساة.. كنا كمن يخرج كل عام ليمضي أيام العيد في مدينة غير مدينته. ومرت أيامنا في عكا مروراً عادياً لا غرابة فيه، بل ربما كنت لصغري وقتذاك أستمتع بتلك الأيام لأنها حالت دوني ودون الذهاب للمدرسة.. مهما يكن، ففي ليلة الهجوم الكبير على عكا بدأت تتوضح الصورة أكثر فأكثر ... ومضت تلك الليلة قاسية مرّة بين وجوم الرجال، وبين أدعية النسوة ... لقد كنا أنا وأنت ومن في جيلنا، صغاراً على أن نفهم ماذا تعني الحكاية من أولها إلى آخرها ... ولكن في تلك الليلة بدأت الخيوط تتوضح وفي الصباح، ساعة انسحب اليهود متوعدين مزبدين ... كانت سيارة شحن كبيرة تقف في باب دارنا.. وكانت مجموعة بسيطة من أشياء النوم تقذف إليها من هنا وهناك بحركات سريعة محمومة ... كنت أقف متكئاً بظهري على حائط البيت العتيق عندما رأيت أمك تصعد إلى السيارة، ثم خالتك، ثم الصغار، وأخذ أبوك يقذف بك وبأخوتك إلى السيارة، وفوق الأمتعة، ثم انتشلني من زاويتي ورفعني فوق رأسه إلى القفص الحديد في سقف غرفة السائق حيث وجدت أخي رياض جالساً بهدوء ... وقبل أن أثبت نفسي في وضع ملائم، كانت السيارة قد تحركت ... وكانت عكا الحبيبة تختفي شيئاً فشيئاً في منعرجات الطرق الصاعدة إلى رأس الناقورة ...

كان الجو غائماً بعض الشيء، وإحساس بارد يفرض نفسه على جسدي، كان رياض جالساً بهدوء شديد، رافعاً ساقيه إلى ما فوق حافة القفص، ومتكئاً بظهره على الأمتعة محدقاً في السماء.. وكنت أنا جالساً بصمت، واضعاً ذقني بين ركبتي طاوياً  فوقهما ذراعي .. وحقول البرتقال تتوالى على الطريق .. وشعور بالخوف يتآكلنا جميعاً .. والسيارة تصعد لاهثة فوق التراب الندي ... وطلقات بعيدة كأنها تحية الوداع ...

وعندما بدأت رأس الناقورة تلوح من بعيد، غائمة في الأفق الأزرق وقفت السيارة ... ونزلت النسوة من بين الأمتعة وتوجهن إلى فلاح كان يجلس القرفصاء واضعاً سلة برتقال أمامه مباشرة .. وحملن البرتقال ... ووصلنا صوت بكائهن ... وبدا لي ساعتذاك أن البرتقال شيء حبيب ... وأن هذه الحبات الكبيرة النظيفة هي شيء عزيز علينا ... كانت النساء قد اشترين برتقالات حملنها معهن إلى السيارة، ونزل أبوك من جانب السائق، ومدّ كفّه فحمل برتقالة منها.. أخذ ينظر إليها بصمت.. ثم انفجر يبكي كطفل بائس...

في رأس الناقورة.. وقفت سيارتنا بجانب سيارات كثيرة... وبدأ الرجال يسلمون أسلحتهم إلى رجال الشرطة الواقفين لهذا الغرض... وعندما أتى دورنا، ورأيت البنادق والرشاشات ملقاة على الطاولة... ورأيت صف السيارات الكبيرة يدخل لبنان طاوياً معارج طرقاتها ممعناً في البعد عن أرض البرتقال... أخذت أنا الآخر، أبكي بنشيج حاد... كانت أمك ما زالت تنظر إلى البرتقالة بصمت... وكانت تلتمع في عيني أبيك كل أشجار البرتقال التي تركها لليهود... كل أشجار البرتقال النظيف التي اشتراها شجرة شجرة، كلها كانت ترتسم في وجهه... وترتسم لمّاعة في دموع لم يتمالكها أمام ضابط المخفر...

وعندما وصلنا صيدا، في العصر، صرنا لاجئين...

...

احتوتنا الطريق فيمن احتوت.. كان أبوك قد كَبُرَ عن ذي قبل، وبدا كأنه لم ينم منذ زمن طويل... كان واقفاً في الشارع أمام الأمتعة الملقاة على الطريق، وكنت أتخيّل تماماً أنني إن سعيت إليه لأقول شيئاً ما فإنه سينفجر في وجهي: يلعن أبوك.. يلعن.. كانت هاتان الشتيمتان تلوحان على وجهه بوضوح، بل إنني أنا أيضاً، الطفل الذي نشأ في مدرسة دينية متعصّبة، كنت ساعتذاك أشك في أن هذا الله يريد أن يسعد البشر حقيقة.. وكنت أشك في أن هذا الله يسمع كل شيء ... ويرى كل شيء .. إن الصور الملونة التي كانت توزع علينا في كنيسة المدرسة، والتي كانت تمثل الرب يشفق على الأطفال ويبتسم في وجوههم، بدت هذه الصور كأنما هي الأخرى أكذوبة من أكاذيب الذين يفتحون مدارس محافظة كي يقبضوا أقساطاً أكثر... لم أعد أشك في أن الله الذي عرفناه في فلسطين قد خرج منها هو الآخر، وأنه لاجئ في حيث لا أدري، غير قادر على حلّ مشاكل نفسه، وأننا نحن، اللاجئين البشر، القاعدين على الرصيف منتظرين قدراً جديداً يحمل حلاً ما.. مسؤولون عن إيجاد سقف نقضي الليل تحته: كان الألم قد بدأ يفتك بعقل الصغير الساذج..

إن الليل شيء مخيف.. والعتمة التي كانت تهبط شيئاً فشيئاً فوق رؤوسنا، كانت تلقي الرعب في قلبي.. مجرد أن أفكر في أنني سأقضي الليل على الرصيف كان يستثير في نفسي شتى المخاوف... ولكنه خوف قاسٍ جاف... لم يكن أحد على استعداد لأن يشفق علي.. لم أكن أستطيع أن أجد بشراً ألتجئ إليه... وأن نظرة والدك الصامتة تلقي رعباً جديداً في صدري... والبرتقالة في يد أمك تبعث في رأسي النار... والجميع صامتون، يحدقون في الطريق الأسود طامعين أن يبدو القدر من وراء المنعطف يوزع علينا حلولاً لمشالكنا، ونمضي معه إلى سقف ما.. وأتى القدر فجأة.. كان عمك قد وصل البلدة قبلنا.. وكان هو قدرنا.

لم يكن عمك يؤمن كثيراً بالأخلاق، ولكنه عندما وجد نفسه على الرصيف، مثلنا، لم يعد يؤمن إطلاقاً... ويمّم وجهه شطر بيت تسكنه عائلة يهودية، وفتح بابه، وألقى بأمتعته فيه، وأشار لهم بوجهه المكور قائلاً بلسان فصيح: اذهبوا إلى فلسطين... من المؤكد أنهم لم يذهبوا لفلسطين، ولكنهم خافوا من يأسه فذهبوا إلى الغرفة المجاورة وتركوه ينعم بالسقف والبلاط...

لقد قادنا عمك إلى غرفته تلك.. وكدّسنا فيها مع أمتعته وأهله، وفي الليل نمنا على الأرض فامتلأت بأجسادنا الصغيرة، والتحفنا بمعاطف الرجال، وعندما نهضنا في الصباح، كان الرجال قد أمضوا ليلتهم جالسين على الكراسي.. وكانت المأساة قد بدأت تجد طريقاً معبداً يقودها إلى خلايا أجسادنا كلنا!

لم نسكن في صيدا كثيراً... فغرفة عمك لم تكن تتسع لنصفنا، ورغم ذلك فقد احتوتنا ثلاث ليال... ثم طلبت أمك من أبيك أن يبحث عن عملٍ ما، أو فلنرجع إلى البرتقال... ولكن أباك صاح في وجهها بصوت يرتجف بالنقمة.. فسكتت.. كانت مشاكلنا العائلية قد بدأت... والعائلة السعيدة المتماسكة خلفناها مع الأرض والسكن والشهداء...

لم أدرِ من أين أتى أبوك بالنقود.. إنني أعرف أنه قد باع الذهب الذي اشتراه لأمك يوم كان يريدها أن تسعد وأن تفخر بأنها زوجه.. ولكن ذلك الذهب لم يأتِ بالشيء الكثير القادر على حلّ مشاكلنا، فكان لا بدّ من مصدر آخر: هل استدان شيئاً؟ هل باع شيئاً آخر أخرجه معه دون أن نراه؟ إنني لا أدري، ولكنني أذكر أننا قد انتقلنا إلى قرية في ضواحي صيدا.. وهناك، قعد أبوك على الشرفة الصخرية العالية يبتسم لأول مرة.. وينتظر يوم الخامس عشر من أيار كي يعود في أعقاب الجيوش الظافرة..

وأتى يوم «15 أيار» بعد انتظار مرّ.. وفي الساعة الثانية عشرة تماماً، لكزني أبوك بقدمه وأنا مستغرق في نومي قائلاً بصوت يهدر بالأمل الباسل: قم .. فاشهد دخول الجيوش العربية إلى فلسطين.. وقمت كالمسعور.. وانحدرنا عبر التلال حفاةً في منتصف الليل إلى الشارع الذي يبعد عن القرية كيلومتراً كاملاً.. كنا كلنا، صغاراً وكباراً نلهث ونحن نركض كالمجانين.. وكانت أضواء السيارات تبدو من بعيد، صاعدة إلى رأس الناقورة، وحين وصلنا إلى الشارع أحسسنا بالبرد، ولكن صياح أبيك كان يملك علينا وجودنا... لقد أخذ يركض وراء السيارات كطفل صغير.. إنه يهتف بهم.. إنه يصيح بصوت أبح .. إنه يلهث.. لكنه ما زال يركض وراء رتل السيارات كطفل صغير ... كنا نركض بجواره صائحين معه، وكان الجنود الطيبون ينظرون إلينا من تحت خوذهم بجمود وصمت ... كنا نلهث، فيما كان أبوك يخرج من جيبه، وهو يركض بأعوامه الخمسين، لفافات التبغ يرميها للجنود، كان لا يزال يهتف بهم. وكنا نحن لا زلنا نركض إلى جواره كقطيع صغير من الماعز..

وانتهت السيارات فجأة... وعدنا إلى الدار منهوكين نلهث بصفير خافت.. كان أبوك صامتاً لا يتكلم، وكنا نحن أيضاً لا نقوى على الكلام... وعندما أضاءت وجه أبيك سيارة عابرة.. كانت دموعه تملأ وجنتيه..

بعدها، مضت الأمور ببطء شديد .. لقد خدعتنا البلاغات ثم خدعتنا الحقيقة بكل مرارتها.. وأخذ الوجوم يعود إلى الوجوه من جديد .. وبدأ والدك يجد صعوبة هائلة في التحدث عن فلسطين وفي التكلم عن الماضي السعيد في بياراته وفي بيوته .. كنا نحن نشكل جدران المأساة الضخمة التي تملك حياته الجديدة، وكنا نحن أيضاً، أولئك الملاعين الذين يكتشفون بسهولة شديدة، أن الصعود إلى الجبل في الصباح الباكر بناء على أوامر والدك، معناه إلهاؤنا عن طلب الفطور..

وبدأت الأمور تتعقد .. كان أبسط شيء قادراً بشكل عجيب على استثارة والدك .. إنني أذكر تماماً يوم طالبه أحدهم بشيء لا أدريه ولا أذكره .. لقد انتفض .. ثم بدأ يرتجف كمن مسّه تيار صاعق .. ودارت عيونه تلتمع في وجوهنا ... كانت فكرة ملعونة قد أوجدت طريقها إلى رأسه، فانتفض واقفاً كمن وجد نهاية ترضيه ... وفي غمرة من شعور الإنسان بقدرته على إنهاء مشاكله، ومن شعوره بالرعب قبل إقدامه على أمر خطير أخذ يهذي.. وأخذ يدور حول نفسه باحثاً عن شيء لا نراه ... ثم انقض على صندوق كان قد خرج معنا من عكا وأخذ ينثر ما فيه بحركات عصبية مخيفة ... وفي لحظة واحدة، كانت أمك قد فهمت كل شيء .. وبدافع من ذلك الاضطراب الذي تقع فيه الأم عندما يتعرض أبناؤها للخطر.. أخذت تدفعنا إلى خارج الغرفة دفعاً وتطلب منا أن نهرب إلى الجبل .. ولكننا لم نبرح النافذة ... وألصقنا آذاننا الصغيرة في خشبها نستمع برعب شديد إلى صوت أبيك: أريد أن أقتلهم وأريد أن أقتل نفسي ... أريد أن أنتهي.. أريد أن...

وسكت أبوك.. وعندما عدنا ننظر إلى الغرفة من شقوق الباب، وجدناه ملقى في الأرض يلهثُ بصوت مسموع ويمضغ أسنانه وهو يبكي .. بينما قعدت أمُك في ناحية تنظر إليه بجذع..

لم نفهم شيئاً كثيراً ... ولكنني أذكر أنني عندما رأيت المسدس الأسود ملقى على الأرض بجانبه ... فهمت كل شيء ... وبدافع من ذلك الرعب القاتل الذي يصيب طفلاً شاهد غولاً على حين غرّة.. أخذت أعدو في الجبل... هارباً من الدار..

وعندما كنت أبتعد عن الدار كنت أبتعد عن طفولتي في الوقت ذاته، كنت أشعر أن حياتنا لم تعد شيئاً لذيذاً سهلاً علينا أن نعيشه بهدوء ... إن الأمور قد وصلت إلى حدّ لم تعد تجدي في حله إلا رصاصة في رأس كل واحد منا.. يجب إذن أن نحرص في تصرفاتنا على أن نبدو بشكل لائق ... يجب ألا نطلب الأكل ولو جعنا ... يجب أن نسكت عندما يتكلم الأب عن مشاكله، ونهز رؤوسنا باسمين عندما يقول لنا: «اصعدوا الجبل ولا تعودوا إلا في الظهر..».

في المساء .. عندما خيم الظلام عدت إلى الدار .. كان أبوك ما زال مريضاً، وأمك جالسة بجواره، وكانت عيونكم جميعاً تلتمع كأنها عيون القطط، وكانت شفاهكم ملتصقة كأنها لم تنفتح أبداً.. كأنها أثر لجرح قديم لم يلتئم كما يجب..

كنتم مكومين هناك، بعيدين عن طفولتكم كما كنتم بعيدين عن أرض البرتقال ... البرتقال الذي قال لنا فلاحٌ كان يزرعه ثم خرج إنه يذبل إذا ما تغيرت اليد التي تتعهده بالماء..

كان أبوك ما زال مريضاً ملقىً في فراشه، وكانت أمك تمضغ دموع مأساة لم تغادر عينيها حتى اليوم ...

لقد دخلت الغرفة متسللاً كأنني المنبوذ .. وحينما لامست نظراتي وجه أبيك يرتجف بغضب ذبيح .. رأيت في الوقت ذاته المسدس الأسود على الطاولة الواطئة .. وإلى جواره برتقالة..

وكانت البرتقالة جافة يابسة..

الكويت - 1958

تُنشر بالاتفاق مع السيدة آني كنفاني ومنشورات الرمال للنشر.

كتب كنفاني متوفّرة على موقع الدار: www.rimalbooks.com