«راكب الريح» وعبور يحيى يخلف إلى الذات الفلسطينية 

2017-04-28 05:00:00

 «راكب الريح» وعبور يحيى يخلف إلى الذات الفلسطينية 

كعادته الروائي الفلسطيني يحيى يخلف، يسجنك ضمن روايته من صفحاته الأولى، ويجعلك تعيش فيها وتشارك بأحداثها، يمسك بك من الصفحة الأولى لتصعد بك مرارة عميقة من داخلك، مرارة كان يحيى يخلف يعرف جيداً كيف يعمرها في داخل قارئه بمنتهى المهارة والصبر، مرارة طالعة من تفاصيل القهر الفلسطيني، من عمر هذا القهر الطويل، ومن تلك التجاعيد التي باتت تسكن وجه هذا القهر، والتي تشي بحجم استسلامنا نحن، إلى النسيان كحلّ وحيد للهروب من مواجهة هذا الوجه بكل هذه الشقوق.

نعم مرة جديدة، يحرمنا يخلف من هذا الهروب، ويجعلنا ندخل عوالمه بمتعة الفضول، متلاعباً بشدة رغبتنا لمعرفة أنفسنا أكثر.

لقد عرفنا يحيى يخلف حين تذوقنا كامل التفاح الفلسطيني في «تفاح المجانين» وحين عبرنا معه، كأي فلسطيني خرج من فلسطينه، ولم تخرج منه، عبرنا إلى غربتة الكاملة في «نجران تحت الصفر» وتذوقنا بأصابعنا وقلبنا، تفاصيل المكان الذي كان بعيداً عن الحياة، كبعد الفلسطيني القادم من أقدم حضارات الأرض، عن نفسه، وفي «أنشودة الحياة» انتصرنا مع يخلف بما بقي فينا، وبما بقي في أحلام الفلسطيني من قدرة على إنتاج الحياة من بين أصابع هذا القهر. 

اليوم، يعود لنا يخلف الكاتب والمثقف الفلسطيني الذي لم يغب عنا أبداً، والذي ما زال منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، يعمرنا بكل هذا الخراب، ويعيد حياكة التغريبة الفلسطينية بكل تفاصيلها، ولكن برؤى أعمق، وأكثر انفتاحاً بنفس الوقت، اليوم يطل علينا يخلف في روايته الجديدة  «راكب الريح»، (دار الشروق، عمّان 2016،) ليقدم لنا رواية مختلفة عن كل طريقته السابقة في الكتابة، رواية لا انتصار فيها إلا انتصار المعرفة، رواية يسرد لنا فيها عبوراً جديداً بين القرين والذات، ويصف لنا وبكل عمق، تفاصيل هذا العبور، وليترك التاريخ حراً بتقديم إجابة محتملة، لأسئلة لا تنضب.

وفيها يبتعد هذه المرة عن الحاضر باتجاه الماضي لزمن هو أكثر من مئتي عام إذ تحصل أحداث الرواية بين عامي 1795 و 1800 الفترة الزمنية التي بنى الكاتب فيها متن عمله على شخصية الفلسطيني ابن يافا، ولكنه الفلسطيني الذي كان يعيش في يافا القديمة، المدينة الفلسطينية التي لم تكن تحتوي كفاحاً مسلحاً، ولا موقعاً "للسلام الفلسطيني-الإسرائيلي"، هذا السلام الكاذب الذي قال عنه يحي يخلف بأنه "سلام أكثر عنفاً من الحرب، سلام يحصد فيه الرصاص الإسرائيلي، يومياً، أرواحاً لم تتهيأ للحرب ولم تنعم بالسلام".

«راكب الريح» هي رواية جديدة يخرج بطلها من باطن أساطير يافا العريقة، يخرج من زرقة بحرها ومن ظل موجه على تلك الصخور،  يخرج من بين أسوارها العتيقة، ويعبر الريح مع قارئه من عشق طفولي حارق، إلى عشق وحشي جديد يشكل زلزالاً روحياً وفكرياً يهز كل قواعد المطلق، ويغير كل أعماق الشخصية، يعبر يخلف ببطله من حلاوة الانسجام النفسي الذي كان يشكل له حالة من الثبات والاستقرارالذاتي، إلى مرارة وقلق القرين الذي يسكن داخله، القرين الذي اخترعه يخلف كتقنية جديدة مغايرة لصياغة الحوار مع الذات، والذي حول الرواية إلى رواية غريبة، ممتعة، ومدهشة.

البطل الفلسطيني في «راكب الريح» يعود ويعبر من تلك الشعلة التي يحملها قرينه فيه إلى عالم آخر، عالم كامل من إبداع الرسم والرقش والتزويق والتزيين والتذهيب والتشجير، هذا العبور الذي هو عبور من قوة الذات وتفردها، إلى عوالم الآخر وقبولها ووعيها، هو انفتاح جديد على البعد الإنساني الذي ل ابد وأن يحمي الفلسطيني يوماً، وهو البعد المعرفي الحضاري الذي راهن عليه يحي يخلف في أن يكون العمق الوحيد القادر على حمل أحلامنا المؤجلة، والأولوية المطلقة التي يجب أن يسعى دائماً إليها الفلسطيني في رحلة هجرته وتشتته، إن رحلة العبور هذه هي رحلة بين الانغلاق وبين الانفتاح الكامل على الآخر، والتعلم الدائم منه، التعلم الذي سيبقى يشكل المعادل الوحيد لحالة القهر التي قد تأكل فينا ذاتنا، وقريننا، وتحولنا إلى "فرانشكتاين" لا يشبع.

في ابتعاده هذا عن حاضر فلسطيني محاصر، يقدم يخلف حالة من الهروب الجميل ضمن ما يسمى بالرواية التاريخية، التي هي حالة تعبير عن أزمة، ولكنه، وبذكاء ووعي، يترك الماضي يقدم نفسه طليقاً، ويجعلنا نكتشف أن الماضي يجيب ولا يسأل، فقد بنى يخلف "الفعل الروائي" على عشق مجنون بين بطل فلسطيني واسع النباهة والتميّز، وأنثى تركية من منطقة أزمير طاعنة في الجمال. وذلك منذ أن اكتشف البطل في نفسه سحراً غريباً سماه القرين، هذا القرين هو انعكاس سحر يافا فيه، وانعكاس سحر الرجولة الذي يعطيه طاقة وقوة خارقة.

يستمر الفعل الروائي ليأخذ اتجاهاً ميز الرواية جداً، انه اتجاه "رواية التعلّم"، اذ أرسل الكاتب بطل الرواية إلى مدينة دمشق لتعلّم دراسة "فن العمارة" في "مدرستي مملوكي سلطاني"، وهنا تتابع الأحداث لتغير كل ما كان متوقعاً، يتغير محور العمل وينطلق البطل في رحلة شاقة إلى مدينة أضنة التركية، الرحلة الأهم في كل الرواية، وهي الرحلة التي يلتقي فيها بذاته الحقيقية من خلال لقائه بحكيم "يعشق السلام والبشر"، ومن خلال محاولته  التحرر من قرينه العجيب، والعودة إلى سر الإنسانية فيه حين يعود إلى الحب والرسم وعالم الألوان، ويتخلى عن القوة التي تحوله عنيفاً. ويبدأ بالتأثر بكل أفكار العدالة والمساواة التي نشرتها الثورة الفرنسية في ذلك الوقت. 

ولا تنتهي الرواية قبل أن يكتشف كل من البطل والقارئ مدى نقصه، النقص الذي لا تستطيع أبداً القوة الخارقة أن تملأه، النقص الذي يغير من مفهومي الهزيمة والانتصار، ويجعلنا نعيد البحث فينا عن اكتمالنا بالمعرفة فقط، اكتمالنا بالآخر الذي يعرّفنا أكثر على أنفسنا، ويجعلنا نعود إلى أنفسنا سالمين.