يسار لا يعرف اليمين من اليسار!

2017-05-03 08:00:00

يسار لا يعرف اليمين من اليسار!
للفلسطيني أسامة دياب

منذ بدايات القرن العشرين تشكلت أحزاب وُضعت في "خانة" اليسار، بالضبط لأنها كانت تطرح منظورها لتحقيق مطالب طبقات شعبية، وتريد تغيير ما هو قائم لمصلحة هذه الطبقات. نشأت الأحزاب الشيوعية، وأحزاب قومية، ومن ثم أحزاب "ماركسية لينينية" خلال ذاك القرن، كانت هي التعبير عن هذا المسار. لهذا كانت تُصنَّف نتيجة ذلك بأنها "يسار"، يسار يريد التغيير وتحقيق مطالب الطبقات الشعبية على الضد من الوضع القائم.

ورغم أنها فشلت فقد ظلت تُصنَّف ضمن اليسار. لا أريد هنا البحث في أسباب الفشل، حيث تناولته سابقاً بشكل مفصّل، لكنني أحاول طرح السؤال: هل لا زالت يساراً؟ هل يمكن أن نضعها في اليسار الآن؟

كلها لا زالت تُصنّف يساراً في الخطاب الدارج، بالضبط لأنها كانت كذلك، لكنها في الواقع باتت غير ذلك. لقد فقدت مشروعها أصلاً، حيث لم تَعُدْ تطرح التغيير، ولا تلمس مطالب الطبقات الشعبية، وباتت منعزلة عن هذه الطبقات وتتقوقع في "فئات وسطى" لديها أوهامها. وإن كانت تمتلك "قاعدة شعبية" في الماضي فقد خسرتها بعد التحولات التي قامت بها أحزاب كانت تُصنَّف في اليسار (الأحزاب القومية)، وتشكلت بنية طبقية جديدة ولم تكن هي في وارد الإنخراط في الطبقات الشعبية الجديدة، حيث تعلقت بمسائل أخرى هي ردّ فعل على ما حدث أو هي نتاجه. البعض منها انخرط في "النظم القومية" وبات جزءاً من بيروقراطيتها، لكن أفرز استبدادُ النظم هذه ميلاً واسعاً لدى بعض منها نحو "الديمقراطية"، وظل مفهوم الإمبريالية وأولوية المسألة الوطنية مسيطراً لدى تيار واسع فيها كذلك.

ولا شك في أن انهيار الاتحاد السوفيتي فرض انفلات المنظورات، وانكشاف الميول التي تعبّر عن تلك الفئات الوسطى. حيث وجدنا أن اليسار في غالبه مال في أحد سياقين، الأول: ليبرالي ديمقراطي، حيث باتت "مواجهة" الاستبداد أولوية، وأصبحت الديمقراطية تعني تبني المنظور الليبرالي. وهو سياق كان يقود إلى "عشق الغرب"، والانحياز للدول الإمبريالية ربما "نكاية" بالاستبداد الذي كان يمثّل نظماً "مناهضة للإمبريالية". والثاني: "قومي" ينطلق من أولوية الصراع ضد الإمبريالية، لتصبح المسألة الوطنية هي المحدِّد لمنظور سياسي متكامل. وهو منظور ينطلق من أن كل ما يجري هو "مؤامرة إمبريالية" (والإمبريالية هي بالتحديد أميركا).

الأمور هنا باتت تشير إلى أن المنظور ينبني على "الضد"، ضد النظم الاستبدادية، وضد الإمبريالية، وليس على فهم طبقي، ومصالح طبقية واقعية. فقد انفلت الأساس الاجتماعي، ولم تعد هذه القوى ترتبط بطبقات شعبية، بل باتت تعبّر عن ميول "فئات وسطى" كما أشرت قبلاً. فئات تغلِّب الميل الليبرالي الديمقراطي وأخرى تغلِّب الميل "الوطني".  وبهذا يظهر تلاشي الطابع اليساري عنها، بالضبط لأنها لم تعد تطرح مطالب طبقات شعبية، ولا التغيير لمصلحة هذه الطبقات. فالميل الأول يطرح تغيير النظم الاستبدادية لمصلحة رأسمالية ليبرالية، والثاني يطرح تغيير "النظم العميلة" بالضبط لأنها عميلة وليس لأنها تنهب الطبقات الشعبية. بالتالي كلها باتت عاجزة عن فعل حقيقي، وباتت هامشاً في الصراع المجتمعي.

هذا ما ظهر واضحاً مع بدء الثورات العربية، حيث ظهرت كهامش، لا تعرف ماذا تفعل إزاء الفيض البشري الذي ملأ الشوارع، سوى أن تستفيد من ذلك للضغط من أجل "ديمقراطية" ما، أو "وطنية" ما. وكانت الثورة السورية هي مفصل التحديد الدقيق، بالضبط لأنها كانت أكثر تعقيداً، ولأن الوضع السوري كان ينتابه شيء من الغموض. وباتت محدِّد الرؤية والفهم. وربما مرتكز تبلور عالمي جديد، في طرف منه الإمبرياليات والنظم التابعة، التي تعيش تناقضات وتنافس في عالم بات "ضعيف المركز"، وفي طرف آخر شعوب تريد الانطلاق نحو عالم يحقق مصالحها. ولا شك في أن كل هذا التناقض والتنافس بين الإمبرياليات والنظم التابعة تلاشى إزاء الثورة السورية هذه، وتحوّل إلى تنافس في إطار الوحدة الهادفة لتدمير الثورة، وكل المسار الثوري الذي بدأ من تونس. بالضبط لأنها كلها تحسّ بأن وضعها مقلق على ضوء الأزمة الاقتصادية العميقة التي باتت تعيشها. لقد توحدت ضد الثورة في الوقت الذي تتنافس فيه على كسب أكبر في الصراع العالمي.

وإذا كان "اليسار الليبرالي" وقف مع الثورة، بالضبط لأنها ضد الاستبداد في منظور تحقيق الديمقراطية، فإن "اليسار الممانع" (الذي يقول أنه يعادي الإمبريالية) وقف مع كل تلك القوى الإمبريالية والنظم التابعة دفاعاً عن "نظام الممانعة". وكانت الكتلة الأكبر من "اليسار العربي"، و"اليسار العالمي" (الأحزاب الشيوعية والمجموعات الماركسية – عدا معظم التيارات التروتسكية) تصطف في المعسكر الإمبريالي وهي تعلي من "الصياح" ضد الإمبريالية. ، وتهدد بسحق هذه الإمبريالية، التي تلخصت في أميركا فقط (مع حواشيها، أي الثالوث كما يسميه سمير أمين)، وتصدر فيض البيانات كلما قامت تلك الـ أميركا بخطوة ما. وتدافع عن كل مَنْ ظهر أنه "ضد" أميركا (بما في ذلك تنظيم القاعدة في بعض الأوقات)، معتبرة أن أميركا هي الشرّ وأن كل من يتناقض معها هو خير، وبالتالي فهو صديق. كل ذلك دون بحث جدِّي ودراسة ممحصة للواقع، وللسياسات، وأصلاً لطبيعة القوى من المنظور الطبقي. فهي الشرّ وكل ما تمارسه شرّ، وبالتالي فإن كل مَنْ يصطدم معها هو صديق وحليف، ويحظى بكل التبجيل والمدح والدفاع، حتى وإنْ كان دكتاتوراً أو مافيا اقتصادية، أو "عميلاً صغيراً" لديها. فالمهم أن يتناقض معها، أو يختلف معها لكي يكون "تحررياً" و"مستقلاً"، وحتى "ثورياً".

الآن، يمكن أن نلمس بأن اليسار يُنقَدْ من أطراف متعددة، من اليمين الذي يظنّ أن هذا اليسار هو يسار، ومن الأصولية، وكذلك من الليبراليين. وكل من هؤلاء يعتبر أنه البديل، وبالتالي أن نقده لليسار يهدف إلى أن يحلّ محله بعد أن يقوم بـ "تدميره". ربما يجب أن يجري تدمير هذا اليسار، لكن ليس من اليمين حيث يسكن هو، بل من اليسار، من يسار ثوري وجذري وطبقي أصلاً. حيث ليس من بديل غير "اليسار"، لكن ليس هذا اليسار، بل يسار ينبع من الطبقات الشعبية، ويكون نتاج الوضع الثوري القائم الآن، ومن الشباب الذي صنع الثورات. وهو يسار ماركسي يعبِّر عن العمال والفلاحين الفقراء بالأساس، وعن مجمل الطبقات الشعبية، ومنخرط في نضالاتها.

ليس لليمين موقع في الصراع سوى أن يكون بجانب القوى الإمبريالية. وكذلك ليس لليبراليين موقع سوى تحت مظلة الرأسمالية. وأيضاً الأصولية هي ليبرالية مافياوية مموهة بغلاف إسلامي شكلي. حيث ليس من دور سوى للطبقات الشعبية، التي تريد بديلاً يتجاوز الرأسمالية. وهنا يقع دور اليسار (أو بشكل أدق دور الماركسي)، لهذا فإن كل النقد والتفكيك الذي يُمارس ضد "اليسار" هو من أجل ذلك، وهو جزء من صراع أيديولوجي ضد كل تلك التيارات سالفة الذكر.

علينا تفكيك خطاب "اليسار" من أجل خطاب ثوري وطبقي وجذري. فنحن ننتقد اليسار من موقع أكثر جذرية، من موقع الطبقات الشعبية. وهذا ما يجب أن تقوم به الماركسية الجديدة.